افراسيانت - رام الله -"القدس"دوت كوم - كتب ابراهيم ملحم - على نقيع الدم الممتد على خطوط الطول والعرض للقطاع المسيّج بالخنادق والحراب والجُدر والجنود، والمنكوب بالحصار والأزمات والنقص في الأموال والأنفس والثمرات، وعلى وقع الأهازيج والدبكات والأغنيات والصلوات الطيبات والأناشيد، التي صدحت بها الحناجر المجروحة بصيحات الحرية، كان ثمة بصيص ضوء يشق السّخم الطالع من الكاوتشوك في رابعة النهار، والذي جاءت رياحه بما تشتهي أشرعة الغزيين وهم ينفرون خفافا وثقالا، رجالًا وعلى كل ضامر، إلى بوابات بيوتهم العتيقة في يوم الجمعة العظيمة، التي بيَّضت وجوهنا، وأزالت الغشاوة عن عيوننا، بعد أن ضاقت خياراتنا، وانحسرت آمالنا، وبلغت قلوبنا الحناجر؛ من تكالب الأعداء وتخاذل الأصدقاء.
فما تشهده العواصم الغربية من ردود فعل واسعة ضد المجازر التي يرتكبها جنود الاحتلال بحق المتظاهرين السلميين في مسيرات العودة الكبرى، والتي ستصل ذروتها يوم الخامس عشر من الشهر المقبل، معطوف عليها مسيرات التضامن الشعبية في العواصم العالمية، تلك الردود أعادت للقضية الفلسطينية صدارتها في ما يشبه بعثًا جديدًا للحقوق الوطنية التي احتجبت أو كادت وراء سحب الانشغال العالمي في الأزمات الإقليمية المفتعلة؛ والتي تستهدف ترويض المواقف العربية الرسمية للتساوق مع الصفقات الامريكية والاسرائيلية المشبوهة ضد الحقوق الوطنية المشروعة، وتقويض الحواضن الشعبية العربية للقضية الفلسطينية، عبرإغراقها في بحور من دماء الحروب الطائفية والعرقية والمذهبية.
على مدى أسبوعين متتاليين قدمت غزة صورًا عزّ نظيرها من صور البطولة والتحدي والمواجهة السلمية التي غابت فيها الرّايات الفصائلية، وخفقت فيها الأعلام الفلسطينية في سماء المواجهات الملبّدة بالسحب السوداء والتي وَجّهت غزة من خلالها رسائلها إلى كل من يهمه أمرها، في مشهد أعاد إلى الأذهان تلك القوة الناعمة الينبوعية التي أغرقت الاسرائيليين باندفاعتها، وسرعة تدفقها خلال الإنتفاضة الأولى التي جعلت رابين يتمنى لو أن البحر يبتلعها حتى اضطر من جاؤوا بعده لمغادرتها تحت وقع الشعور بالهزيمة أمام عناصر القوة الكامنة في نفوس أبنائها.
تنهض غزة من رمادها ومن وجع معاناتها، لتقدم كوكبة من شهدائها وجرحاها، وهي تفرمل اندفاعات من راهنوا على ضعفها وهوانها على الناس كي تقبل بما قسمه لها أعداؤها، من قسمة ضيزى مستغلين هوان الأمة وضعفها واستخذاء حكامها، في الزمن العربي الرديء الذي يتبارى فيه حكام الأمة على خدمة أعدائها باستدعائهم اليها بإقامة دائمة مدفوعة الأجر وبالدفع المسبق.
من بين الشهداء الذين ارتقوا، والمصابين الذين سالت دماؤهم على الرمال المتحركة في أيام الجمع العظيمة نساء ورجال وأطفال، وحراس للحقيقة، لم يحصد اليأس من عزيمتهم شيئا بل حصدوا باستشهادهم، وبوجع معاناتهم، ونزف جراحهم، خرافة الدولة الهشة بما تتكئ علية من بطش القوة العمياء.
في رصد لأعداد الجرحى الذين أصيبوا خلال مسيرات العودة فإن ما يلفت الانتباه، تلك الشهوة بالقتل التي استبدّت بجيش الاحتلال ضد المتظاهرين السلميين، ولا سيما استهداف الشهود الذين يرصدون بعدساتهم ارتكاباته ويفضحون روايته الرخوة إذ يتضح من الأرقام المسجلة إصابة نحو أحد عشر صحفيًا بالرصاص الحي، حيث استخدم في بعضها رصاص من عيار مئتين وخمسين ملم وهو رصاص لا يستخدم ضد الأفراد، إضافة إلى استشهاد المصور الصحفي ياسر مرتجى، بينما كان على مسافة أكثر من مئتين وخمسين متراً عن الجدار الفاصل حيث استهدف برصاصة في خاصرته التي لا يحميها الدرع الواقي، وهو ما يؤكد الرغبة المبيتة لقتله ما يرفع أعداد الصحفيين الذين استشهدوا في الضفة والقطاع منذ العام ٢٠٠٠ الى ٤٢ شهيدا.
لقد أعاد الكاوتشوك للفصائل بعضًا من حضورها، ومكّنها من التقاط أنفاسها وعقلنة شعاراتها، بعد أن أختنقت بحساباتها وخلافاتها وأجنداتها، التي أثبتت التجارب المريرة الماضية خطأها، وهو ما يتطلب اعترافًا ومصارحة ومراجعة جادة، لكل تلك السياسات، في لحظة لا تحتمل ترف التغاضي عن الأخطاء.
على مسافة أيام من انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني برام الله نهاية الشهر الجاري، لتجديد الشرعيات، وإجراء المراجعات الوطنية الواجبة لمسيرة ربع قرن من المفاوضات، فإن المسؤولية الوطنية تقتضي التوقف عن المناكفات والتنابز بالاتهامات، ذلك أن أي إخفاق في اكتمال النصاب السياسي لـ "اللويا جيرغا الوطنية" أي مجلس المصالحة الموسع حسب التعبير الأفغاني ، من شأنه أن يقدم رسائل خاطئة لأعداء القضية والمتربصين بها وهو ما يفتح شهيتهم للإمعان في صفاقتهم لتمرير صفقاتهم المريبة.
في نقد السياسات، لتصويب المسارات وتصحيح التوجهات، تتبدى جديّة الاهتمامات بعيدا عن المزايدات، وعمليات الابتزاز للظفر بقدر أكبر من المحاصصات الفصائلية، فما كان مقبولا في دورات المجالس الوطنية السابقة، لم يعد مقبولا في لحظة وطنية فارقة لا أحد بمنأى عن استهدافاتها ودفع أكلافها، وهو ما يستدعي الاستجابة دون إبطاء لنداء اللحظة الحرجة بدل الانشغال بقراءة سورة يوسف على يعقوب.