كيف يمكن فهم التناقض بين مفهوم التهجير القسري وبين حل الدولتين

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 


افراسيانت - لطالما كانت سيناء عنوانا بارزا من جانب القوى الغربية عموماً والكيان الإسرائيلي خصوصاً، وفي كل مرحلة من مراحل الصراع العربي – الصهيوني، كانت الخطة أو المحاولات تتخذ أشكالاً مختلفة، فتتراجع أحياناً وتتقدم أحياناً أخرى. وهي في كل مرحلة لا تفقد أبداً بوصلتها بضرورة إدخال سيناء في تركيبة جيو- سياسية وديموغرافية جديدة تقارب بينها وحلم القوى المؤيدة للمشروع الصهيوني في فلسطين والمنطقة العربية في جعل سيناء أداة قطع من جهة، وأداة وصل من جهة أخرى.


فهي أداة قطع بين النفوذ الجيو سياسي لمصر في الدلتا والوادي وبقية بقاع الشام وفلسطين، وهي أداة وصل بين المطامع والخطط الإسرائيلية، والقيادات السياسية المصرية التي أتت بعد اتفاقية (السادات – بيجن ) عام 1979، وقد توافرت الشروط الموضوعية الأولى لهذا المخطط بعد توقيع الرئيس المصري الأسبق  أنور السادات  اتفاقيتَي كامب ديفيد في أيلول/ سبتمبر عام 1978، ومن بعدها ما سمّي " اتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية " في آذار/ مارس من عام 1979.


اذا تأملنا المخطط الإسرائيلي للتعاون الإقليمي الذي عبّر عنه وزير الاستخبارات الإسرائيلي يسرائيل كاتس في مقابلة مع موقع "إيلاف" السعودي، المنشور في 13 كانون الأول/ديسمبر 2017، تناول فيه جملة من القضايا، أبرزها ربط "إسرائيل" بدول العالم العربي من خلال إعادة إحياء خط سكك حديد الحجاز التاريخي، ولكن ضمن مشروع إقليمي يصب في المصالح الاقتصادية لـ"إسرائيل". كما كرر الدعوة إلى دور سعودي أكبر في ما يسمى "عملية السلام" والارتياح الإسرائيلي لمثل هذا الدور، وإقامة ميناء بحري على جزيرة اصطناعية قبالة قطاع غزة.


وهكذا يبدو واضحاً أن سيناء ما زالت في بؤرة الاهتمام الخطر، ومع ارتباط هذه التحركات " الاستثمارية " الخليجية بمشروع "نيوم" السعودي فعلينا أن نضع ألف علامة استفهام حول المسار في المستقبل المنظور لسيناء. ويبدو أن الحكام العرب ما زالوا غافلين عن هذا المخطط، أو متورطين فيه.


لم تصبح غزة على ما هي عليه اليوم من عقبة كأداة للعدو، إلا من زاوية أمنية – عسكرية، تتعلق بمحور المقاومة، لا من زاوية سياسية كما الضفة الغربية.


ما أن صعّد العدو الصهيوني من قصفه الهمجي على المدنيين في قطاع غزة، ودفع قواته إلى محاور هنا وهناك داخل القطاع، حتى انطلقت حملة إعلامية من المنابر المعروفة التي دأبت إشاعة اليأس والإحباط والتشكيك في المقاومة ومحورها، وكان القاسم المشترك بينها هو ما بعد غزة وما بعد القسام، وراحت تتبارى في نشر السيناريوهات المختلفة ومنها حل الدولتين.


المعركة اليوم تجري على مستوى الإقليم كله بما في ذلك الاشتباك مع الوجود الأميركي في كل المنطقة، والحشد العسكري الأطلسي غير المسبوق المكرس للاشتباك مع محور المقاومة، لن يهزم مشروعاً سياسياً استراتيجياً مهما بلغت قدراته اللوجستية في حصار حلقة من حلقات هذا المشروع، وتحويل هذه الحلقة وغيرها إلى محطة نحو شرق أوسط متصهين ومتأمرك، والأرجح أن شرقاً أوسطاً جديداً يتشكل فعلاً وفق سؤال ما بعد المعسكر الأميركي – الصهيوني وأتباعه العرب وليس ما بعد حماس ومحور المقاومة.


سيناريو حل الدولتين ، هو راهناً غطاء لإعادة ربط القطاع بسلطة تسوية (معدلة) في الضفة، وهو في ما يخص بيئته الإقليمية، وأياً كانت التحضيرات التي تعدّ له، هو سيناريو برسم اشتباك سياسي، ميداني، محفوف بالأخطار والفشل عند المتورطين فيه، كما كانوا طوال العقود السابقة المجربة.


ذلك أن هذا السيناريو طبعة مكشوفة ومعروفة وملغم في كل تفاصيله وحيثياته، أولاً من زاوية موقعه الراهن في لعبة مثل حجارة الدومينو والأواني المستطرقة في الشرق الأوسط شديدة الصلة بالتجاذبات الدولية، أميركا والصهيونية والاتحاد الأوروبي وأدواتهم وتحالفاتهم، مقابل روسيا الأوراسية والصين، طريق الحرير، ومحور المقاومة بعواصمه وقواه الشعبية.


ثانياً: من زاوية حقيقته وأقنعته المصممة في خدمة العدو، كما من زاوية تاريخه الذي يعود إلى ما قبل تأسيس الكيان نفسه وتحضيراً له كما سنرى، فيما أظهرت تصريحات العواصم العربية والدولية المهتمة اليوم بما يسمى "حل الدولتين"، كما لو أن هذا الحل مبادرة جديدة سحرية للتداعيات التي فجرها "طوفان الأقصى" البطولي، والهمجية الصهيونية النازية بحق المدنيين، التي أعقبت الطوفان.


إذا كان معروفاً أن المشروع المذكور تحت عنوان حل الدولتين متداول منذ عقود وفي أوساط سياسية رسمية واسعة هنا وهناك، فلا بد من التذكير أيضاً بأن هذا المشروع طرح لأول مرة قبل ثمانية عقود، وتحديداً عام 1937 وعرف بـ"مشروع لجنة بيل" التي قدمت إلى فلسطين لإنهاء ثورة 1936 الكبرى، أما عن التداعيات الراهنة لما بعد "طوفان الأقصى"، فيمكن ملاحظة أنه منذ الصيغة الأولى لأوسلو (أريحا غزة أولاً) فقد كان واضحاً أن غزة تحتل أهمية ملحوظة كحلقة مقاومة عسكرية أكثر منها محطة سياسية مجردة، بالنظر إلى مجموعة من الاعتبارات، منها أن غزة أقل أهمية للكيان الصهيوني من زاوية مرجعياته الخرافية التي تمثلها الضفة الغربية (أرض يهودا والسامرة والقدس الداوودية).


ولم تصبح غزة على ما هي عليه اليوم من عقبة كأداة للعدو، إلا من زاوية أمنية – عسكرية، تتعلق بمحور المقاومة، لا من زاوية سياسية كما الضفة الغربية.


وكان تحول غزة إلى قلعة مقاومة مسلحة، من عبقريات محور المقاومة برمته، بعد أن كانت مجرد جيب رملي يمكن تأديبه صهيونياً في أي وقت، وهو ما يعني أن العدوان الإجرامي الصهيوني على غزة محمول بهواجس استراتيجية عسكرية أميركية – صهيونية بالدرجة الأولى بوصفها اليوم حلقة أساسية من حلقات المحور على مستوى الإقليم، ولا بد من (تحطيمها) لهذا السبب وتسليمها سياسياً لطرف فلسطيني من أطراف التسوية، يحظى برعاية عربية ودولية من معسكر واشنطن.


أيضاً وعلى خطورة محاولات الترانسفير من غزة إلى سيناء (سبق للفلسطينيين أن منعوا ذلك 1954-1955 ، إلا أن الترانسفير فيما يخص غزة ليس بخطورة الترانسفير من الضفة إلى الأردن).


فبالإضافة إلى البعد التوراتي الخرافي لما يسمى يهودا والسامرة، فقد تمكن العدو منذ سيطرته على الضفة الغربية وحتى اليوم من ابتلاع قسم كبير من أراضيها وزرع عشرات المستوطنات فيها.


وبحسب جريدة "الغد" الأردنية الصادرة بتاريخ 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 يقدر عدد المستوطنين فيها بنحو 730 ألف مستوطن يتوزعون على أكثر من 350 مستوطنة وبؤرة استيطانية تشكل 42% من مساحة الضفة، ناهيك بالسيطرة الصهيونية على غالبية المناطق المعروفة بـ(ج) و(ب) وفق اتفاقية أوسلو، وتشكل معاً ما نسبته 80% من الموارد المختلفة بما فيها المياه.


كما جاء في المقال المذكور أن العدو يستعد لاستبدال العمالة الفلسطينية في الأراضي المحتلة 1948 (الكيان) وعددهم 170 ألف عامل بعمالة هندية، وهو ما يعني أن الضفة في الواقع العملي، تخضع لاحتلال شبه كامل بأشكال مختلفة، ومن الممكن أن تتحول قريباً إلى ساحة للترانسفير نحو الأردن.


انطلاقاً من تشبث العدو باحتلال الضفة سياسياً وعسكرياً وأمنياً مقابل ترتيبات لحضور طرف فلسطيني سياسي في غزة من جماعات التسوية المزعومة، فالمرجح هو السيناريو التالي في العقل الصهيوني الأميركي (سيناريو وليس قدراً وخاصة مع هذا التحول الكبير في قدرة المقاومة وبسالتها):


-  تسليم المعسكر الأميركي – الصهيوني وأعوانه بصعوبة تكسير محور المقاومة في حلقة غزة والبحث عن تسوية بين المعسكر والمحور.


- ينطلق السيناريو من افتراضات عديدة حول مستقبل حماس في القطاع تسلم بصعوبة تصفيتها: حماس مع أسلحتها بلا دور سياسي، أو مشاركة حمساوية سياسية بأقل قدر من السلاح وفقاً لتجارب عالمية مثل المقاومات في أيرلندا الشمالية وكولومبيا.


- تحت عنوان دولة فلسطينية شكلية تربط الضفة بغزة، إعادة الاعتبار لشعار غزة – أريحا أولاً، وبالأحرى غزة أولاً زائد مطار وميناء بإشراف عربي – دولي من جماعات التسوية.


-  في ما يخص الضفة الغربية، إعادة إنتاج شكل من تقاسم وظيفي، من جهة يربط الضفة بغزة في إطار دولة شكلية، ومن جهة يوسع علاقتها مع الأردن مقدمة لإنتاج حالة كونفدرالية في ظروف ملائمة لذلك عند الأطراف ذات الصلة.


في هذا السياق، إذا كان معروفاً أن الترانسفير جزء أساسي من استراتيجية العدو، بيد أن هذا الترانسفير المؤجل من الضفة إلى الأردن سيكون مركباً، ولن يكون الجانب الناعم القسري منه أقل خطراً من الجانب الخشن القسري، فالعدو لن يخفف قبضته الإجرامية على الضفة مهما استخدم من أقنعة، لكنه سيراهن على بيئة اقتصادية تجري تغذيتها بأشكال مختلفة من ضخ أموال خليجية وأميركية في الأردن مقابل التضييق على الوضع الاقتصادي في الضفة، وليس بلا معنى هنا المكانة الخطيرة التي يحتلها صندوق الاستثمار الإقليمي، ودور الخليج فيه، وهو المشروع الذي سبق لشمعون بيريز أن اقترحه في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" أو خلال معاهدة "وادي عربة".


وسبق لسياسات اقتصادية كهذه أن اتخذت في أوقات سابقة، فبعد ضم الضفة الغربية للأردن، حرصت الدول الإمبريالية، بريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا على تركيز المساعدات المقدمة للأردن في الضفة الشرقية بالتزامن مع فتح الخليج للفلسطينيين والأردنيين وتحويل أموالهم إلى هذه البيئة.


إلى ذلك، ثمة استدراك هام جداً، هو أن توطين الفلسطينيين في الأردن أو خلق بيئة لهذا التوطين، لا يعني توطيناً سياسياً، فما هو مطروح في العقل الصهيوني – الأميركي توطين سكاني انطلاقاً من اعتبارات سياسية أولاً، ومن اعتبار العقل اليهودي للمنطقة بين البحر والصحراء (صحراء الأنبار) أرضاً يهودية يعيش عليها سكان عرب، سواء كانوا أردنيين أو فلسطينيين.  


في كتابه المعنون: "طرد الفلسطينيين: مفهوم الترحيل في الفكر السياسي الصهيوني 1882-1948"، المنشور عام 1992، أثبت نور مصالحة، المؤرّخ الفلسطيني البريطاني، أن مفهوم "الترانسفير" يعد أحد المفاهيم السائدة في فكر الحركة الصهيونية حتى من قبل قيام "الدولة" اليهودية.


وفي كتاب آخر نشره عام 1997 تحت عنوان "أرض أكثر وعرب أقل: سياسة الترانسفير الإسرائيلية في التطبيق 1949-1996" أثبت أن مفهوم "الترانسفير" لم يكن مجرد حل نظري للمشكلة الديمغرافية العربية، ولكنه كان سياسة ممنهجة نفّذتها القيادات الإسرائيلية المتعاقبة وطبّقتها بدرجات متفاوتة من النجاح، بل واعتبرتها حلاً جذرياً لمشكلات "إسرائيل" المتفاقمة منذ 67. فقد حرصت "إسرائيل" على الاحتفاظ بالأراضي الفلسطينية التي احتلتها عام 67 لسببين، الأول: أن التوسّع يعد ركناً أساسياً في مشروع "الدولة الكبرى" التي ينبغي أن تمتد من النهر إلى البحر، والثاني: رفض قيام دولة فلسطينية مستقلة لأنها ترى في قيامها تهديداً لأمنها وربما لوجودها ذاته.


 ولأنها تخشى في الوقت نفسه دمج الفلسطينيين في النسيج الاجتماعي لـ "الدولة" اليهودية خوفاً من معدلات الخصوبة المرتفعة عند الفلسطينيين، فقد بات عليها أن تتحسّب لهذه "القنبلة الديمغرافية" التي قد تنفجر في قلبها في أي لحظة وتضع حداً لهويتها اليهودية، ما جعل "الترانسفير" يبدو حلاً شديد الإغراء لكلّ القيادات الصهيونية، خاصة المؤمنين بـ "دولة إسرائيل الكبرى" وبنقائها اليهودي، وهم يشكّلون التيار الرئيسي للحركة الصهيونية في مرحلتها الراهنة.   


حين ردّت "إسرائيل" على عملية "طوفان الأقصى" بعملية "السيوف الحديدة"، لم تقتصر أهدافها على دحر حركة "حماس" عسكرياً وإسقاط حكمها في قطاع غزة، كما تشير البيانات الرسمية، وإنما حرصت كعادتها على انتهاز الفرصة لتوسيع نطاق تلك الأهداف لتشمل إعادة احتلال القطاع من جديد وترحيل سكانه إلى سيناء، بل وصلت جرأتها إلى حد إقدام بعض كبار مسؤوليها على الإدلاء بتصريحات علنية تطالب مصر بفتح ممرات آمنة تسمح بهروب المطاردين إلى سيناء عبر معبر رفح، وذلك في محاولة جريئة لإعادة إحياء مشاريع ومخططات قديمة تستهدف توطين سكان غزة في سيناء، وهو ما رفضته مصر رفضاً قاطعاً.


غير أن ذلك لم يمنع "إسرائيل" من تكثيف ضغوطها إلى أقصى حد، حيث طلبت من سكان شمال القطاع ترك منازلهم والتوجّه إلى جنوبه، بل ولم تتردّد في قطع المياه والكهرباء والطاقة عن كل السكان، في شمال القطاع وجنوبه على السواء، ومنعت عنهما معاً الإمدادات الغذائية كافة، وقامت بهدم مئات الآلاف من المنازل، والإغارة على معظم دور العبادة وعلى المستشفيات والمدارس، بما في ذلك مدارس الأونروا.


لكن ليس من باب الأمنيات وانتظار ما لا يسر محور الصهاينة والإمبرياليين، القول بأن غزة لن تسقط، ولن يغادر القساميون غزة إلى أي منفى كما حدث مع بعض فصائل المقاومة بعد حصار بيروت 1982، إضافة إلى ما قاله السيد حسن نصر الله، من أن المقاومة بكل أطرافها لن تسمح بإضعاف المقاومة في غزة التي تؤكد كل يوم أنها قادرة على دحر العدو وتفويت الفرصة على مشاريع إلحاق غزة بالتسويات الأميركية – الصهيونية.

لقد جاءت عملية "طوفان الأقصى" لتثبت أن الشعب الفلسطيني ما زال متمسّكاً بحقه في تقرير مصيره، وفي إقامة دولته المستقلة على كامل أرضه التاريخية، وأنه قادر على تحقيق هذا الهدف مهما بلغت التضحيات.

©2024 Afrasia Net - All Rights Reserved Developed by : SoftPages Technology