افراسيانت - وسيم ابراهيم - السفير - بقيت القاعة المحجوزة للتداول مع وفد صنعاء مقفلة، وعلى بعد أمتار كانت قاعة وفد الرياض تعجّ بالصخب. لم يحضر «أنصار الله» وحلفاؤهم إلى قصر الأمم المتحدة في جنيف، كما كان مخططاً، بل واصلوا إدارة معركتهم السياسية من فندقهم، بالرغم من أنَّ يوم أمس كان يفترض أنَّه يوم «المشاورات» الأخير. جزء من صخب قاعة خصومهم كان نتيجة ضغوط كبيرة تعرَّضوا لها من سفراء أوروبيين، قبل أن يوافقوا على فكرة التمديد. هكذا جرى، عملياً، التمديد لمؤتمر جنيف اليمني، في السياق الفوضوي ذاته الذي بات يطبعه.
هذا التمديد بات مؤكَّداً، على الأقل لليوم الخميس، مع ترجيحات بأن يتواصل حتى يوم السبت. وبرغم المعارك المستمرة حول كيفيَّة التمثيل وصيغته وعدده، لكن تبيَّن أنَّ الجوهر هو طرح يحمله «أنصار الله» حول وقف مبدئي لإطلاق النار، تمهيداً لهدنة شاملة مع السعودية. هذا الطرح يتضمَّن الترتيبات الأمنية والعسكرية، ويجري صقلها على نيَّة أن تقدّم كمبادرة من الأمم المتحدة، وليس باعتبارها صادرة عن الحوثيين. النتيجة ليست واضحة حتى الآن. بعض أعضاء وفد الجماعة، أكَّدوا لـ «السفير» أنَّ هذه المبادرة ليست وليدة أيام جنيف القصيرة حتماً، ولكنَّها إحدى ثمار جولة حوار سلطنة عمان. إنَّها الجولة التي يعتبرونها الأم الشرعية التي أنتجت مسار «جنيف اليمني».
مسار مسقط مستمر بالتوازي. لا يزال عضو المكتب السياسي صالح الصماد والمتحدث الإعلامي محمد عبد السلام في العاصمة العمانية يواصلان التفاوض من هناك حول صفقة شاملة، كما أكدت لـ»السفير» مصادر واسعة الاطلاع. هناك انشأ العمانيون فرق تواصل لنقل الطروحات بين ممثلي «أنصار الله» والرياض. لذلك يقول مسؤول رفيع المستوى في «أنصار الله» لـ»السفير» لن نقبل إلا بهدنة تفضي إلى حل شامل، وغير ذلك ستكون استراحة محارب إلى «القاعدة» وغيره.
الاشتباك السياسي بقي تحت العنوان نفسه: وفد الرياض يصرّ على أن تكون المفاوضات بين فريقين، كما حدَّدت الأمم المتحدة، كل منهما لديه سبعة ممثلين وثلاثة مستشارين. المسألة أكبر بكثير من قضية عدد وبروتوكول، لذلك تحوَّلت إلى ما يشبه المعضلة التي لم تستطع الأمم المتحدة حلَّها. وفد صنعاء استمرّ في رفض هذه الصيغة بشدّة، فهو يعتبرها تكريساً لواقع لا يعترف فيه. صيغة الوفدين، برأيه، تكرّس وجود سلطة «شرعية»، تتحصَّن بقرار دولي يمنحها ذلك، لذلك يصرّ على أنَّ الأساس هو تفاوض يشمل جميع «المكونات السياسية».
النتيجة هي أنَّ المؤتمر «التشاوري» لم ينطلق حتى الآن، بالصيغة التي رُسمت له، لكن التفاوض جارٍ على كل حال. الأخذ والرد حول صيغة عدد الوفد، ومن يمثّل بالضَّبط، هو خلاف على الجوهر لا على الشكليات. مصدر أممي منخرط في المفاوضات مع الوفدين، قال لـ «السفير» إنَّ «التراجع عن صيغة سبعة ممثلين لوفدين بالنسبة لجماعة الرياض هو إلغاء لوجود الحكومة، واعتماد صيغة المكونات الشاملة التي يريدها الحوثيون تعني أنَّ الأحزاب هي التي تقرِّر كل شيء».
على كل حال، استمرَّت الجلبة في القاعة الرقم «10»، الطابق الثالث من مبنى «سي» في قصر الأمم المتحدة. هناك كان وفد الرياض يواجه مأزقاً، بعدما اعتقد أنَّ خصومه هم من وُضعوا في الزاوية. ظنّ أنَّ وفد صنعاء سهّل عليه مهمة تحميله مسؤولية إفشال المؤتمر، فهو لم يأتِ إلى قصر الأمم المتحدة ويرفض صيغة «السبعتين». لكن وفد الرياض سمع في تلك القاعة كلاماً كان أشبه بإنذارات صريحة.
مسؤول أممي أكَّد لـ «السفير» أنَّهم تعرضوا لضغوط كبيرة. التقى أعضاء الوفد مجموعة من السفراء الأوروبيين، من المجموعة الداعمة للمحادثات التي سُمِّيت «مجموعة الـ 16». يقول المصدر إنَّ السفراء «منزعجون من تعنّت وفد الرياض، وطلبوا منه أن يفتح نافذة للحوار، لا أن يستمر في تكرار أنَّ الأولوية وكل شيء هو حول تطبيق القرار 2216».
هذا القرار الأممي هو الذي يعتبره أنصار عبد ربه منصور هادي مكسبهم الأكبر، لكونه يعترف بحكومة المنفى كـ «سلطة شرعية»، ويطلب سحب قوات الحوثيين وحلفائهم من المدن التي يسيطرون عليها. لكنَّ وجهة نظر السفراء أنَّ القرار «يجب ألا يكون مبرراً لإغلاق الطريق أمام الحوار، وإلا فلماذا أتينا إلى جنيف»، كما يقول المصدر الأممي، موضحاً أنَّ «هناك صيغاً عديدة لتطبيق القرار، وهذا يمكن أن يكون مادة للتفاوض، فالأمر ليس ببساطة سلّم سلاحك وانسحب».
هذه المجادلة يعرفها تماماً وفد الرياض، ولذلك قال أحد أعضائه مظهراً إحباطه: «أحياناً يجعلنا السفراء الأوروبيون نشعر كما لو أنَّهم تورَّطوا بقبول القرار الدولي ويريدون التملص منه بأية طريقة».
لكن على كل حال، فإنَّ ضغوط الأوروبيين وضعت نهاية لسيناريو كان يتداول حوله وفد الرياض: تحميل المسؤولية كاملة للخصوم، بدليل عدم تجهيزهم وفد التفاوض ورفضهم مبادئه، والعودة إلى الرياض. لم يحدث ذاك. المؤتمر الصحافي الذي كان يمكن فيه أن يجري سيناريو كهذا، استمر لحوالي 15 ثانية. ليس هناك أي مبالغة. حضر رئيس وفد الرياض، وزير الخارجية بالوكالة رياض ياسين ليواجه حشد الصحافيين المنتظرين، وحوله بعض ممثلي حكومة المنفى. تأكّد أنَّ الميكرفون يعمل، قبل أن يقول: «قرَّرنا تأجيل هذا المؤتمر لإتاحة الفرصة لإنجاح المشاورات». ألغي المؤتمر بتلك الطريقة الملتفَّة. وكان واضحاً أنَّ أعضاء الوفد في موقف ضعيف، منعهم من الإدلاء بأيّ تصريح رغم أنَّهم كانوا لا يكفّون عن التعليق سابقاً.
بعد خروجهم من لقاء وفد الرياض، تحدثت «السفير» إلى بعض السفراء الأوروبيين، من دون كشف هويتهم. أحد السفراء أكَّد أنهم تحدَّثوا بصرامة إلى محاوريهم. رداً على تداول فكرة الانسحاب وتحميل المسؤولية، قال إنَّ هذه الفكرة «طائشة»، لأنه «مهما قالوا فهم باتوا يعرفون أنَّ من يغادر أولاً هو من سيتحمل مسؤولية الفشل».
حساسية هذه القضية يدركها تماماً وفد صنعاء. أحد أعضائه قال لـ «السفير» إنَّه «رغم أنَّنا لا زلنا نرفض صيغة الوفدين تماماً، ونتشاور ولم نصل إلى نتيجة، لكنَّنا مستعدون للبقاء إلى ما لا نهاية». هكذا طرحت إمكانية أن يكون ما حصل في اليومين الأخيرين صيغة لاستكمال التشاور: بدل التنقّل بين صالتي الأمم المتحدة، كما هو مبرمج، يمكن للمبعوث الدولي اسماعيل ولد الشيخ أحمد أن يتنقل بين فندقي الوفدين.
قال أحد أعضاء وفد صنعاء إنَّ المبعوث الأممي «إنْ كان ذكياً، يمكنه المواصلة بهذه الصيغة»، وهذا ما حصل عملياً. لكن وفد الرياض ظهرت على بعض أعضائه علامات الضجر والإحباط، فأحدهم قال إنه «لم يعد ينقصنا إلا أن نتفاوض في الشارع، نحن جئنا إلى مؤتمر في الأمم المتحدة لا في الفنادق».
في الصالة الرقم «10»، كان أعضاء وفد الرياض لا يتوقفون عن الذهاب والإياب. نوافذ الممر الطويل تطل على صفّ من مراسلي القنوات التلفزيونية، ينقلون الوقائع الدرامية المستمرة للمؤتمر. هناك توقف سفير السعودية في جنيف، وبدا أنَّ أحد أعضاء الوفد ينتظر تبريكاته: «نحن سنبقى منضبطين وملتزمين بالبقاء» في جنيف، قبل أن يقول بلهجة معترضة على عمل المبعوث الأممي: «الآن صاروا يريدون المزايدة علينا بحقوق الإنسان والهدنة».
بعد هذه الأجواء الضاغطة، غادر وفد الرياض بمزاج مختلف تماماً عن الأيام السابقة. قال لنا أحد أعضاء الوفد، طالبا عدم كشف هويته، «لم نناقش موضوع الهدنة، المسألة لا تزال مرفوضة بالنسبة إلينا، فقط قبلنا التمديد ليوم وسنرى بعدها».
ويبدو أنَّ قضية الهدنة ليست بهذه السهولة، برغم تشديد وفد صنعاء على أنَّها «شبه أكيدة». مصدر أممي علَّق على ذلك بالقول إنَّ «المشكلة أن كل واحد يقرأ الهدنة بطريقته، الحوثيون يرونها إيقاف القصف، أما جماعة الرياض فيرونها انسحاب الحوثيين من المدن».
لكن كل هذه القضايا يراها مصدر من وفد «أنصار الله»، «مجرد تفاصيل». يقول المصدر لـ «السفير» إنَّه يجري نقاش قضايا جوهرية مع مبعوث الأمم المتحدة، تأتي مباشرة كنتيجة لاجتماعات عُقدت في سلطنة عمان. بدأ ذلك في جلسة أمس الأول، واستُكمل بجلسة ثانية يوم أمس.
اجتماعات عُمان، بحسب المصدر، أنتجت الاتفاق على إطلاق مسار «جنيف اليمني». بهذه الطريقة، لعبت مسقط دوراً شبيهاً بالدور الذي لعبته في الملف الإيراني حيث ولد جنين التفاهم بين القوى الكبرى وإيران هناك. الفرق أنَّ لقاءات اليمنيين كانت علنية، بمشاركة واشنطن. فهذه الاجتماعات كانت بمثابة «حوار غير مباشر بين الرياض وأنصار الله بتشجيع أميركي».
لكن، ما الذي يحمله «أنصار الله» من عُمان، أو «جنيف العربية» كما بات البعض يسميها؟ يقول المصدر شارحاً مجمل الطرح: «ما نناقشه الآن مع ولد الشيخ أحمد ليس تفاصيل، نحن نتحدَّث عن ترتيبات لوقف النار تتبعه هدنة شاملة»، قبل أن يضيف: «نحن الآن نناقش ترتيبات أمنية وعسكرية لكيفية إنجازها».
تقدّم «أنصار الله» الخطوط العريضة للنقاش على الشكل التالي: بدأت السعودية بحالة هجومية، لكنَّها الآن تجد نفسها في حالة دفاعية، بعدما سيطرنا على مواقع عسكرية سعودية. يذكر تحديداً موقع جبل المنارة، الذي سيطرت عليه قوات موالية للجماعة، بالإضافة إلى وجود «عشرات الأسرى من الضباط والجنود السعوديين». هكذا يمكن مقايضة إيقاف القصف السعودي، في مقابل إعادة هذه المواقع، والكف عن الوضع الهجومي لجهة استخدام صواريخ «سكود»، وصواريخ «النجم الثاقب» (محلية الصنع مداها بين 12 و80 كيلومتراً).
التقديرات اختلفت تماماً الآن، بالنسبة لجماعة «أنصار الله» وحلفائها. تقول مصادرهم إنَّ «الهدنة الإنسانية شيء آخر، نحن نوافق عليها برغم أنَّها ليست في مصلحتنا عسكرياً لأننا نتقدم على الأرض، والهدنة ستعطيهم وقتاً لإعادة التموضع.. لكن القضية إنسانية بما أنَّها ستعود بالمنفعة على أبناء شعبنا».
في السياق ذاته، يقول مصدر أممي إنَّ الهدنة تشكل «الورقة الأهم لدى وفد الرياض، لأنَّ القصف هو كل ما لديهم وإذا توقَّف فسيفقدون كل شيء». مع ذلك، أكد أحد السفراء الأوروبيين ضرورة الهدنة الإنسانية، موضحاً «يجب أن يخرج هذا المؤتمر بنتيجة إيجابية».
اليوم يستكمل جدول الاجتماعات على جري فوضاه السائدة. وفد صنعاء يريد تعويض نقص استثماره لوجود وسائل الإعلام، لذلك يقيم لقاءين، كما يقول أحد قادته، أحدهما في نادي الصحافة السويسرية، وآخر في مقر الأمم المتحدة. لكن وسائل إعلام عديدة كانت تعرف فندقهم، وتتقاطر إلى هناك راصدة تصريحاتهم. مساء أمس التقوا المبعوث الأممي لمواصلة نقاش «ترتيبات طرح الهدنة الشاملة، وإمكانية أن يقدم الطرح كمبادرة من الأمم المتحدة». لكن كان هناك ما يخفّف من ضجيج الفندق وأجواء الأحاديث الثقيلة. كانت وكالة إعلان تقوم بعملية اختيار لعشرات المتسابقين والمتسابقات، وجميعهم عارضو أزياء، لاختيار فريق يروّج لماركة فرنسية. كان الصبايا والشباب يتجولون، بألبستهم الخفيفة، ناظرين بتعجب لكثرة كاميرات التلفزيون التي كانت مشغولة بشيء آخر تماماً، فيما أجواء شهر الصيام تهبط على مزاج كثيرين ممن يتحركون أمامها وخلفها.