افراسيانت - بقلم: الدكتور محمد رياض - لم يعد في وسع العالم العودة للوراء لنمجد تحتمس ورمسيس والإسكندر وطارق بن زياد وجانكيز خان ونابليون و محمد علي. كل هذا ماض كانت قيمته في ظل زمانه ولا يمكن توليده مجددا. لم يعد العالم يتسع للتصارع بين أديان ومذاهب ولا نظم دينية سياسية ضخمة كالبابوية والخلافة الاسلامية ، وإن ظل ذلك كامنا بين سدنة الأديان لاضفاء القداسة كل على دينه، أو ترفع اعلاما لها رنين الدين لكن ممارساتها أشد توحشا من أكل لحوم البشر.
لم نعد نفكر في عصر ذهبي لماض جميل هو حقا لم يكن موجودا بل كان تلخيصا خاطئا في شذرات تاريخية كُتبت حسب الأهواء والمصالح حول هارون الرشيد أو شارلمان او لويس 14 أو الملكة فيكتوريا. لم نعد نتعارك حول نظريات اقتصادية اجتماعية لروسو وآدم سميث وماركس وكينز وفريدمان وطلعت حرب ولا سياسيين كبسمارك وتشرشل وغاندي ونهرو وناصر والسادات ، ولا ديمقراطية الغرب او استبدادية الشرق ولا امبريالية أو نيو ليبرالية كل هذا كان ماضيا نحتفظ له بركن في زوايا التاريخ وربما في زوايا النسيان.
العالم الآن بظروفه البيئية المتدهورة والسكانية المتضخمة ومغامراته العسكرية الدموية وفروقه الاجتماعية المتزايدة ومغامراته في فنون التسليح ضد عدو افتراضي هو عالم غير مفهوم .
كل شيء يقاس بالمال. أنا فقير وانت غني. الدول المتقدمة تقاس بمدى استخدامها الدائم للمنتجات التكنولوجيا التي لا تكف عن ابتكار وتعميق التنافس في السوق بينما الدول الفقيرة التي بالكاد تجد قوت سكانها هي مدينة دائما في ميزانها التجاري مع الدول المتقدمة.
باختصار هناك ناس يحسبون الوقت بقيمته الانتاجية الرابحة وآخرون لا يعني لهم ذلك شيئا فحياتهم وتيرة واحدة : عمل شبه آلي ضمن لوائح بيروقراطية ليس فيه صدمة التجديد وابداع التغيير.
تمر عليهم ساعات النهار بطيئة كأنها الخلود ويتأسون بفلسفة ساذجة عن حظوظ الدنيا وهم قعود يثرثرون.
قد يتماثل الاطار العام لأي نظام لكنه بالضرورة يختلف مكانيا في بعض تفصيلاته عند التطبيق حسب اختلاف الميراث الاجتماعي بين الجدية والتراخي وبين الدقة والتسهيل حول أي موضوع سواء كانوا يعرفون أو مجرد سماعي. افكار التعايش بما يحفظ سلامة كوكب الأرض من تدمير يفني وجود الانسان هي ما زالت افكارا متواكلة او غير مصدقة .
الكل يعرف الحكمة الإلهية وجعلنا من الماء كل شيء حي، ومع ذلك يظل استخدامنا للمياه جهولا لحدودها القصوى بينما يبحث العلم الحديث عن آفاق وجود المياه في كواكب مجموعتنا الشمسية تحسبا لمشكلة تناقصها عالميا . مع متغيرات المناخ المحسوسة لا يزال العالم يسرف في انبعاثات الغازات الحارة ويسطو على ما تبقى من توازنات الحياة على سطح الأرض من أجل هيمنة السيادة دون أن يعرف أن لها عمرا سينقضي بظهور نقيضها.
فكما حدث في الماضي يحدث في المستقبل لكننا لا نسمع سوى صدى أنفسنا.
نموذج سوء او حسن استخدام الأرض الزراعية أمر مهم لبلاد مثلنا يستحق بعض التفصيل .
فيما قبل الصناعة وشيوع اقتصاديات الخدمات ومبادئ اقتصاد السوق كانت الأرض رأسمال مجمدا لا يزيد الا بالاستيلاء على أرض الغير - بالقوة أو التراضي مما كان يؤدي لركود وتدني حياة شعوب المستعمرات و بخاصة فقراء الريف .
تجديد الفكر والقيام بالبحوث العلمية والابتكار وفلسفة الاقتصاد والحكم والمجتمع.. الخ كان من نتائجها تكثيف الزراعة بنمو افقي استصلاحي او رأسي بأنظمة الري الدائم ، وكلاهما فكك جمود قيمة الأرض الزراعية بعض الشيء .
ولكن القفزة التي احدثت ثورة حقيقية في تلك القيمة هي تحويل استخدامها لبناء مصانع أو عمران سكني على الأراضى الزراعية وبخاصة تلك القريبة من المدن ومراكز الصناعة والخدمات، هي ظاهرة معيشة لا تحتاج لتأكيد وهي أيضا مشكلة في بلاد مثل مصر . صحيح نخسر مساحات دائمة من مساحة المحاصيل لكنها بتغير نوع الاستخدام تزداد قيمة الأرض أضعافا هي في حد ذاتها قوة جاذبة تتحدى القوانين للبائع والمشتري لأن انتاجها يصبح في الاطار الاقتصادي اكثر جدوى في جملة الناتج المحلي العام من ناتج الزراعة.
بإيجاز: كيف نجبر الناس على استخدام اقل عائدا بينما المطلوب عائد اكبر ليس فقط كغاية الأفراد بل هو الغاية الأسمى للأنظمة الحاكمة لتوفير رأسمال استثماري في نشاط اقتصادي آخر يجلب منفعة أعم سواء داخل الدولة أو خارجها. صحيح سوف يقل انتاج محاصيل الغذاء المعتادة ولهذا يجب التفكير في ايجاد حلول لتكثيف محاصيل تساعد على تقليل ثغرة الغذاء المحلية على مساحة أقل وبأدوات أحسن وعمالة أقل .
وبالاضافة الى ذلك فإن عادات الناس الغذائية تطورت من اعتماد الخبز اساسا غذائيا الى تنويع المائدة مما يقلل من الاحتياج نسبيا من قمح الخبز الى نشويات او بروتينيات اخرى. نحن اذن محتاجون الى فكر جديد يحد من قوانين تغير نوع النشاط على الأرض وبالتالي إلغاء آلاف قضايا التحايل على التغيير في المحاكم. القرية تغيرت من بيت العائلة من طابق أو اثنين الى عدة طوابق على نفس المساحة مما لا يدعو الى السطو على ارض الزراعة المحيطة بالقرى خاصة مع نمو تمديدات البنية التحتية من كهرباء ومياه نقية وصرف صحي.
هذه الأمور مجتمعة تشكل اطرا عامة لحل مشاكل الريف المتطور بذاته لكنه ايضا يحتاج لعقل يستلهم تنظيما جديدا يساعد الجيل الجديد على تشكيل ماهية وهيكلية النظم في ريف جديد. فترة الانتقال بين النظم هي الأشد حرجا بين قوى التجديد في مواجهة قوى المحافظة. قد يمكن تحسين ماهو موجود حتى تترسخ أنظمة جديدة في مجالات عديدة ومن ثم يرتفع الوعي العام تلقائيا بضرورة التغيير وبخاصة في التعليم والتأهيل باعتبار تلاميذه اليوم رجال غد جديد.