افراسيانت - بقلم: هاني المصري - على الرغم من أن معظم الفلسطينيين من مختلف الأطراف يكررون أنهم متفقون على التشخيص لما يجري في فلسطين، وأن الخلاف بينهم هو على العلاج، ما يؤدي إلى الكف عن تشخيص الوضع والانتقال إلى تقديم العلاج، إلا أن الخلاف يدور وبشدة أيضًا حول التشخيص. ومن المعروف أن التشخيص السليم نصف العلاج. فما الذي يحدث، وما العلاج؟
ما يحدث عمليًا ببساطة، وبعيدًا عن التنظير الفارغ وادّعاء المعرفة، أن الحركة الوطنية الفلسطينية بمختلف مكوناتها، وإن بدرجات متفاوتة، قد تقادمت وترهلت وشاخت وفسدت، وفقدت إلى حد كبير القدرة على التغيير والتجديد والإصلاح، والتفكير السليم والعمل المناسب، فضلًا عن المبادرة والإبداع.
والدليل على ذلك أن فلسطين والفلسطينيين يعيشون في كارثة، رغم الصمود والتحدي ومختلف أشكال البطولة والمقاومة التي جعلت القضية لا تزال حية، وستبقى حية رغم ما تعانيه على أيدي نخبها وقياداتها وفصائلها. فالقديم رغم أنه مسيطر على المشهد السياسي عاجز عن التقدم، والجديد لم يولد بعد، فهناك إرهاصات وما يمكن أن نطلق عليه فضاءً جديدًا، لا يزال طري العود وغير قادر على القيادة على أساس بلورة بدائل إستراتيجية واقعية تلتف حولها أوسع قطاعات وفئات الشعب.
حاول القديم بعد الإنجازات الكبرى التي حققها أن يوقف عقارب التاريخ، أو أن يحافظ على الوضع، ولكنه يتدهور باستمرار وإن لم يكن بانتظام، وهو استنفد فكرة تحرير فلسطين عبر الكفاح المسلح كطريق وحيد، بعمق عربي وتحرري إنساني عالمي، وانتقل إلى إنهاء الاحتلال وإقامةَ دولة على حدود 67 بالمقاومة أولًا، وبالمفاوضات ثانيًا، وبالجمع ما بين المقاومة الشعبية السلمية مع أو من دون المفاوضات ثالثًا، ولم يحقق أهدافه، بل وصل إلى الوضع الذي نعيشه الآن، والذي دفع الرئيس محمود عباس للقول أثناء زيارته الأخيرة إلى القاهرة بأن من يقول إنه يمكن إنشاء دولة فلسطينية خلال 15 سنة "كاذب"، في ظل تعميق الاحتلال والتوسع المخيف والسرطاني للاستعمار الاستيطاني، والمضي بعيدًا في تهويد وأسرلة القدس ومعظم أراضي الضفة التي ضمت فعليًا لإسرائيل. وإعلان ضمها رسميًا ما هو إلا مسألة وقت ما لم تظهر متغيرات تقلب الطاولة على الاحتلال.
أما "الجديد"، الذي بات قديمًا هو الآخر، فحاول استئناف مسيرة تحرير فلسطين وإعادة الاعتبار للكفاح المسلح بأفق وأبعاد دينية إسلاموية، وانتهى إلى سلطة محاصرة في قطاع غزة احتاجت إلى نقل الأموال القطرية للحفاظ على الهدوء والحؤول دون انهيار القطاع، وهذا جراء الدخول في حمى التنافس على السلطة تحت سقف اتفاق أوسلو، فدخل الانتخابات وحصل على الأغلبية ولم يُمَكّن من الحكم بسبب الرفض الإسرائيلي أولًا وأساسًا، والرفض الأميركي والدولي والعربي ثانيًا، ورفض من أوساط فلسطينية نافذة ثالثًا.
يجدر بهذا الطرف أن يدرك أنه لن يتمكن من قيادة سلطة أوسلو دون أن يدفع الثمن الذي دفعه أصحاب أوسلو الأصليون، إلا إذا حصل تغيير حاسم في موازين القوى. صحيح أنه تصور إمكانية تغيير سلطة أوسلو من داخلها، وأنه سيستخدم السلطة لخدمة المقاومة، لكن الأمر انتهى إلى أن المقاومة غدت أكثر وأكثر وسيلة لخدمة بقاء السلطة في القطاع، كما يظهر من خلال التهدئة أو الهدنة -سموها ما تشاؤون- التي عقدت مع قوى المقاومة في المرة الأولى لإنجاح حكومة محمود عباس في العام 2003، والتي شُكّلت في سياق مخطط تغيير النظام السياسي الفلسطيني عبر استحداث منصب رئيس الحكومة ومنحه صلاحيات لإضعاف قيادة الرئيس الراحل ياسر عرفات التي رفضت العرض غير السخي في كامب ديفيد العام 2000.
كان من المفترض أن يفتح فشل اتفاق أوسلو وإستراتيجية المقاومة المسلحة الأحادية الطريق لاعتماد مسار جديد مختلف جوهريًا، ولكن ذلك لم يحصل رغم الادّعاءات المتبادلة من طرفي الانقسام، بل ما حصل بداية لتنافس، بل لصراع حاد على اقتسام الفتات المطروح على الفلسطينيين، ولا تتجاوز آفاقه ترسيخ كيان فلسطيني محاصر في قطاع غزة وتحت التهديد الدائم بالعدوان إذا لم يسر في الطريق المرسوم له، ويمكن أن يسمى "دولة"، وحكم ذاتي على جزء من الضفة، أي على المعازل الآهلة بالسكان، بحيث ترتبط أو لا ترتبط بدويلة غزة أو بالأردن أو تبقى تحت الاحتلال الإسرائيلي المباشر، على أن تكون السيادة على الجميع إسرائيلية.
في الحقيقة، إن ما جرى ويجري، بوعي أو من دون وعي، هو نوع من التعايش مع الوقائع الاستعمارية الاستيطانية العنصرية الاحتلالية التي انتهى إليها الصراع الطويل حتى اليوم. نعم، هناك رفض لفظي لها، ومحاولات تجري لتحسين هذا الواقع كما نرى في استمرار خيار المقاومة، خصوصًا بعد تعميم المقاومة الشعبية السلمية، ولكن على أساس القناعة العميقة المتزايدة الواعية والدفينة بأن هذا أقصى ما حصلنا ويمكن أن نحصل عليه. لذلك شهدنا وسنشهد صراعًا بين طرفي الانقسام على السيطرة على ما هو مسموح بالسيطرة عليه، كل في منطقة سيطرته، مع الحلم بمد هذه السيطرة إلى المنطقة التي يسيطر عليها خصمه، واكتساب "الشرعية" من قاعدة الموالين وليس الإرادة الشعبية، بدلًا من الصراع لكسر هذا الواقع كليًا، عبر توفير متطلبات توجيه الصراع نحو الحيز الجغرافي المنكوب بتعميق منظومات السيطرة الاستعمارية الاستيطانية.
وبذلك، طغت التناقضات المفترض أن تكون ثانوية على الصراع المفترض أن يكون الأساسي، والدليل استمرار التنسيق الأمني والاعتراف بإسرائيل رغم التهديد بتغيير المسار وإلغاء أوسلو من جهة، وإعطاء الأولوية المطلقة لاستمرار السيطرة الانفرادية على القطاع من الجهة الأخرى، حتى وصلنا إلى وضع أصبحت فيه إسرائيل حريصة على عدم انهيار القطاع حتى لا تقذف حممه عليها، فوجود قوة مسيطرة أفضل من الفوضى والفلتان.
يتم تغليف وتبرير ما وصلنا إليه والتعامل معه بطرق مختلفة، ضمن أشكال متفاوتة من إنكار الواقع، فهناك من يقول من يزرع الريح يحصد العاصفة، أي تبرير ما يجري بأننا حصلنا على ما نستحقه وليس أكثر. وهناك من يلقي بكل المسؤولية على العرب الذين تخلوا عنا، أو على قيادة ياسر عرفات، أو على فشل الربيع العربي، أو الإسلامي، وعلى أن العالم ضدنا. وهناك من يبالغ جدًا بالأزمات والمشاكل والتناقضات التي تعاني منها إسرائيل وبالتغييرات التي شهدتها المنطقة والإقليم والعالم، لدرجة تصوير أننا وضمن محور المقاومة في مرحلة هجوم إستراتيجي، وإسرائيل تمر بتراجع إستراتيجي، وتشعر بالرعب ومرارة الهزيمة وفقدان قوة الردع، وأن زمن زوالها يقترب بشدة، لدرجة وصلت ببعض السياسيين، وليس المشايخ فقط، إلى تحديد العام 2022 موعدًا لزوال إسرائيل. نعم إسرائيل في أزمة، بل تواجه عدة أزمات، ولكننا نحن في مأزق شامل.
الخلاصة، إذا لم يكن الفلسطينيون في وضع جيد ومتماسك فلن يستفيدوا من المتغيرات العربية والإقليمية والدولية التي في صالحنا، ولا أن يحبطوا المؤامرات والأخطار والتحديات التي تواجهنا. فالمعركة هنا وإذا لم نخضها بشكل جيد سنخسرها، حتى لو كانت إسرائيل تتراجع في المنطقة.
في الحقيقة، إسرائيل تتراجع ولكنها لا تزال متفوقة عسكريًا ومتقدمة اقتصاديًا وتكنولوجيًا، فهي تتراجع في سوريا ولبنان، وتواجه حزب الله وإيران وسوريا، ولكنها تتقدم في الخليج وغيره من المناطق العربية وأفريقيا وأميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية، ولها علاقات جيدة مع تركيا والصين وروسيا، وتحظى بأكثر إدارة داعمة وشريكة لها في ظل رئاسة دونالد ترامب.
"هنا الوردة فلنرقص هنا"، أي علينا أن نغير ما بأنفسنا حتى نغير الواقع الذي نعيشه، وهذا يمكن أن يحدث من خلال أحد خيارين:
الأول، أن تدرك القوى القائمة والمتحكمة ضرورة تغيير أدائها، لأن القضية في مأزق عميق وشامل، ونحن في مرحلة دفاع إستراتيجي، وليست مرحلة هجوم أو حتى توازن. وبالتالي، يجب أن نركز أولاً وأساساً على الحفاظ على القضية حيّة وعلى المكاسب المتبقية، وتوفير عوامل استمرار الوحدة والهوية الوطنية ومقومات الصمود والمقاومة الذكية التي تجمع مختلف الأشكال، ولكنها تخضع لقيادة واحدة وإستراتيجية موحدة، وتوفير عوامل استمرار التواجد البشري الفلسطيني على أرض فلسطين في مواجهة كل أشكال التهجير المباشرة وغير المباشرة.
الثاني، أن تتقدم قوى ومجموعات جديدة لسد الفراغ، وهذا بحاجة إلى وقت قد يطول، أو يتم الجمع ما بين حدوث نوع من التغيير في سياسة وممارسة القوى القائمة وتقدم قوى ومجموعات جديدة في نفس الوقت.
هناك ما يمكن الرهان عليه، ويستند أساسًا إلى الشعب الفلسطيني الذي يدافع عن قضيته منذ أكثر من مائة عام، وأثبت من خلال كل أشكال الصمود والمقاومة المستمرة أنه سيواصل النضال حتى الانتصار، وعلى عدالة القضية وتفوقها الأخلاقي، وعلى الأبعاد العربية والإسلامية والتحررية الإنسانية. فالشعوب العربية لم ولن تتخلى عن فلسطين، والرأي العالمي في غالبيته يدعم فلسطين، وهناك حركة مقاطعة إسرائيل التي لا تزال صامدة وتتقدم رغم كل المعيقات والقوانين والموازنات المرصودة لإحباطها.