افراسيانت - لعلي لا أبالغ إذا قلت إنّ بلادكم بلغت حدّا من الغرور، تصوّرت معه أنّها ملكت مفتاح الحقيقة المطلقة، ولم تعد بحاجة إلى الجديد أو التجديد، نسيت تماما ونهائيا أنّ ما تملكه ليس أكثر من إحدى جزئيات الحقيقة، وأنّ الحقيقة الكلية المطلقة ليست بمتناول أحد أو بلد أو حقبة من التاريخ، ولكنّها قدّست الحقيقة الجزئية النسبية، وحوّلتها إلى فكرة جنونية. كانت ولاياتكم المتحدة في بداية الستينيات تمثّل أقوى دولة في العالم وفي التاريخ، رمزا ديناميكيا للحرية والديمقراطية..
واليوم.. صارت هيبتها تتلقّي الصفعات من كلّ جانب، وأضحت رمزا للإمبريالية والاستعمار الجديد، ما أضاف أزمة أخلاقية عميقة داخل الضمير الأمريكي العام.
كان جونسون مصابا بجنون العظمة، واقتنع بأنّه أقوى رجل في العالم، وأنّه يستطيع شراء فيتنام، باعتبار الدولار سيّد الأحكام هناك، وكان أكبر مدلّس في تاريخ الرئاسة الأمريكية، وكانت «ووترغيت» عنوانا كبيرا للانحطاط.
يا سيد البيت الأبيض:
إن التطرف والإرهاب «يا سيد البيت الأبيض» لا ينبع من دين معين وإنما من ظروف التخلف والجهل، وسيادة الأنظمة القمعية والقيم المغلقة.
إنّ فكرة أمريكا استبدال شعب بشعب، وثقافة بثقافة عبر الاجتياح المسلّح وبمبررات غير طبيعية، هي محور فكرة إسرائيل التاريخية. وإنّ عملية الإبادة التي تقتضيها مثل هذه الفكرة، مقتبسة بالضرورة بشخصيات أبطالها، الإسرائيليين، الشعب المختار، العرق المتفوّق. وضحاياها هم، الكنعانيون الملعونون، المتوحشون البرابرة. ومسرحها: أرض كنعان، وإسرائيل. ومبرّراتها: الحق السماوي أو الحضاري. وأهدافها: الاستيلاء على أرض الغير واقتلاعه جسديا وثقافيا.
الاعتقاد بأنّ هناك قدرا خاصا بأمريكا، وأنّ الأمريكيين هم الإسرائيليون الجدد، والشعب المختار الجديد، يضرب جذورا عميقة في الذاكرة الأمريكية، وما زال صداه يتردّد في اللغة العلمانية الحديثة، أو ما صار يُعرَف بالدّين المدني، إنّه اعتقاد يتجلّي بوضوح في معظم المناسبات الوطنية والدينية وفي كل خطابات التدشين، التي يلقيها الرؤساء الأمريكيون ومفاده، أنّ الله اختار الأمّة الأمريكية (الأنكلوساكسونية المتفوقة) وأعطاها دور المخلّص (الذي يعني حق تقرير الحياة والموت والسعادة والشقاء لسكان المجاهل).
وينبغي القول إن الشعب الأمريكي، بموسيقييه وكتّابه، وممثليه، ورياضييه ليسوا موضع الكراهية، بل سياسات حكوماته، جميعنا، تأثرنا بشجاعة عمّال المطافئ ورجال الإنقاذ وموظفي المكاتب العادية في الأيّام التي تلت أحداث مانهاتن، ولكن من المؤسف أنّه بدل استخدام الحدث كفرصة لمحاولة فهم يوم 11 سبتمبر، استخدمت أمريكا الفرصة لاغتصاب الحق، لكي تمارس وحدها الحداد والانتقام.
أيّها الرئيس:
ها نحن في لبّ المسألة، التمييز بين الحضارة والوحشية، بين ذبح النّاس الأبرياء، أو إذا شئتم صدام الحضارات، والضرر، أمام تعقيد العدالة اللامحدودة. كم نحتاج من الموتى العراقيين قبل أن يصبح العالم مكانا أفضل؟ كم نحتاج من الموتى الأفغان مقابل كل قتيل أمريكي؟ كم من القتلى الأطفال والنساء، من الفلسطينيين مقابل كل قتيل إسرائيلي؟ كم من القتلى المجاهدين مقابل استثمار مصرفي نهم؟! النّاس يرون استقلالهم مُصادرا، وثرواتهم وأرضهم وحياة أبنائهم مستلبة، وأصابع الاتهام التي يرفعونها تتوجّه إلى الشمال: إلى المواطن الكبرى للنهب والامتياز. ولا مناص من أن الترهيب يستولد الترهيب.
يا دونالد ترامب: الفقر والأوبئة العابرة للقارات والتلوّث والإرهاب والجريمة المنظمة، وغيرها من التهديدات التي أفرزتها سياسة أمريكية منفلتة من العقال، أوصلت العالم إلى شفير الهاوية، والإمبريالية اليوم تعيد تأهيل نفسها، والقوّات الأمريكية تعمل انطلاقا من قواعد في خمسين بلدا «هيمنة مطلقة النطاق».
ولكن.. هل تعلم مدى صبر المقهورين؟ لا أنتظر جوابا والسؤال البريء:
ماذا عساكم أن تقولوا- لجنودكم – بعد أن تخبطوا في المستنقع العراقي مثلما تخبطوا في المستنقع الأفغاني؟ هل كانت تلك الحرب من أجل الحرية، الحضارة والديمقراطية؟ أم أنكم تركتم أفغانستان – لأهلها وسحبتم جنودكم منها.. التفافا على حقيقة مؤلمة ومريرة قالها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر: ما اغتصب بالقوة، لا يسترد إلا بالقوة. سأضيف، سنوات مؤلمة من الجثث والقتلى، والمبتورين والمشوّهين والمعذّبين، سنوات موجعة من الحيوات المدمّرة بأشكال عديدة..
سنوات رهيبة من التدمير الجهنمي لأماكن من كابول إلى بغداد.. حيث لا شيء يُذكَر قد أُعيد بناؤه. كل هذا حصل لنا من رئيس دموي (بوش الإبن) غادر البيت الأبيض (2009) قبل تربعك – يا ترامب- على عرش الولايات المتحدة الأمريكية دونما اعتذار، تاركا خلفه إرثا دمويا لا يُنسَى، بعد أن غطّت الغشاوة بصره.
إنّ الحرب التي خاضتها الولايات المتحدة ضد أفغانستان لم تحلّ مشكلة الإرهاب، ولم تدفع الغاضبين على السياسة الأمريكية إلى تغيير مواقفهم من تحالفها مع الاستبداد والاحتلال، بل أضافت إلى لائحة المظالم الطويلة بنودا جديدة. فتلك الحرب المعلنة على الأشباح لم تصب إلا الأبرياء.
إنّ تخريب الخراب الأفغاني هو ضرب من ضروب العبثية الدمويّة، فليس في وسع الطائرات الحربية أن تدفع الأشباح إلى الاستسلام، ومهما ازدادت -علب البسكويت- التي ألقتها الطائرات على القتلى، فإنّها لم تضف على القتل طابعا إنسانيا.
فالموتى لا يأكلون البسكويت ولا الخبز! كما أنّ تهديدكم لسوريا بشن حرب – قروسطية-عليها تحت ذريعة استخدام النظام السوري السابق أسلحة كيماوية ضد أبناء شعبه في الغوطة الدمشقية، كان سيؤدي في حال اشتعال فتيل هذه الحرب إلى مقتل مئات وربما ملايين الأشخاص. لأن ألسنة لهب تلك الحرب لن تتوقف عند حدود سوريا.
لتعلم – يا سيادة الرئيس- أنّ أمريكا والغرب خاضا ثماني حروب في دول عربية وإسلامية، على مدى الخمسة عشر عاما الماضية، ربحتها جميعا، ولكنها انتصارات كلفتها أكثر من خمسة آلاف مليار دولار، وما يقرب من سبعة آلاف من جنودها، بالإضافة إلى سمعتها كدولة غازية معتدية.
وما الانهيار الاقتصادي والمالي الذي تعيشه – ولاياتكم المتحدة – إلا نتيجة لهذه الانتصارات الزائفة، وهنا نتحفظ كثيرا على نظرية الضربات المحدودة هذه التي تروج كأحد خياراتكم واكثرها ترجيحا، مثلما نتحفظ على العناوين الإنسانية لتبريرها، فجميع الحروب السابقة بدأت تحت الذرائع نفسها، وتطورت إلى احتلالات أو تغيير أنظمة، ولنا في العراق وليبيا وأفغانستان ثلاثة أمثلة، وسوريا لن تكون استثناء.
في الختام، أقول لكم بأنّ الشعوب العربية وحدها تستطيع أن تتحدّث عن أمل ممكن أن ينبثق من دفقات الدّم ووضوح الموت، المواجهة عندها تعني الفعل الذي لا يقف عند حدود الكلام والنوايا، وإنّما هي فعل وجود يصرخ أمام العالم بأنّ الاستعمار غير مقبول، وبأنّ الحرية والسيادة مبدآن لا يمكن التخلي عنهما مهما كانت سطوة الغزاة.. إن التطرف والإرهاب «يا سيد البيت الأبيض» لا ينبع من دين معين، وإنما من ظروف التخلف والجهل، وسيادة الأنظمة القمعية والقيم المغلقة.
ولن تتم محاربة الإرهاب بقفل الحدود او بناء الجدر، أو محاربة معتنقي أديان بعينها، أو مواطني دول سبع، وإنما بدعم التنمية والديمقراطية في كل العالم، ومحاربة الفساد ورفع اليد عن الأنظمة المتسلطة، وعدم التعاون معها، بل عدم الاعتراف بها. ولن تتم محاربة التطرف والإرهاب إلا بجهد ديمقراطي عالمي وتعاون دولي لإطفاء بؤر الفقر والأزمات والحروب، وتثبيت قيم الكرامة الإنسانية والتخلي عن خطاب الكراهية، سواء كان صادرا من أعدائكم أو منكم يا دونالد ترامب.
أما نحن فسنظل نسعى لعلاقات صداقة وتعاون مع الولايات المتحدة، في المجالات كافة، ليس من موقع التابع الخانع ولا العدو المراوغ، كما يفعل الكثيرون، وإنما من مواقع الندية والكرامة الإنسانية والمصالح المشتركة والتعاون الدولي والقيم الكونية، التي إن انتكست راياتها في البلاد العربية، أو بلادكم بفعل حماقات الحاكمين في بعض الأحيان، فإنها ستنتصر في النهاية في كل البلدان المتعطشة للحرية، والديمقراطية والانعتاق، وفي العالم كله بفضل حكمة الشعوب.
أما بخصوص جائزة نوبل التي تحلمون بها! فهي مجرد أضغاث أحلام تراودكم ليس إلا، فنوبل العظيمة لا تهدى لتجار الموت.