"هيئة التنسيق" السورية أمام مفترق طرق .. اجتماع قيادات مع "ائتلافيين" و"إخوان" تفجر الخلاف
افراسيانت - محمد بلوط - "هيئة التنسيق الوطنية" السورية في كمين الانشقاق. الهيئة التي شكلت محور المعارضة الداخلية السورية، وقطبها الأساسي، خلال الأعوام الأربعة، قد تكون في طريقها إلى تضييع رصيدها، إذا لم تتمكن من حسم خلافاتها الداخلية، والتفاهم على رؤية مشتركة بين تياراتها.
ليس دقيقاً القول إن في تأسيس هيثم مناع، نائب المنسق العام للهيئة، لحركة «قمح» دلالات إلى حسم الجميع مواقفهم، والذهاب نحو طلاق لا مناص منه بين تيارين رئيسين، يتجاذبهما رهانان: القاهرة أو اسطنبول، المحور العربي القرار، أو الركوب مع «الائتلافيين» وجماعة «الإخوان المسلمين» مركب الوصاية التركية، علما أن الهيئة بأكملها تؤيد اجتماع القاهرة.
لكن التيار، الذي يقوده «حزب الاتحاد الاشتراكي» و «حزب العمل الشيوعي»، ينفرد بالدعوة إلى المزاوجة بين الإستراتيجيتين، والجمع بطريقة غير واقعية بين التعامل مع مصر، التي تدعو إلى عزل «الإخوان»، وبين تركيا «الاخوانية» التي تدعم نفوذهم في كل الأطر السياسية.
وكانت الأزمة اندلعت بعد أن قام مسؤولون «تنسيقيون» كأحمد العسراوي، وخلف الداهود، وصفوان عكاش، وزكي الهويدي، بلقاء نظرائهم «الائتلافيين» احمد رمضان، وهشام مروة، وعبد الأحد اصطيفو، وهادي البحرة، في ضاحية باريسية وبرعاية فرنسية.
ويعتبر تيار مهم داخل الهيئة اجتماع باريس بمثابة طعنة للقاء القاهرة، فـ «الائتلافيون» الذين حضروا، ينتمي اثنان منهم إلى «الإخوان»، وهي الجهة التي عملت منذ بداية الأزمة السورية، على وضع يدها على الكتل السياسية للمعارضة في الخارج، وعملت على عزل المعارضة الداخلية، متهمة شخصياتها بالعمالة للنظام، ونقضت أكثر من اتفاق معها، ومنعت إشراكها في أي وفد تفاوضي إبان جنيف واحد واثنين. كما عملت على أسلمة المعارضة وعسكرة الحراك وتطييفه، ورفعت شعار التدخل الخارجي. وكلها شعارات تتناقض مع الخط المعلن لـ «هيئة التنسيق».
وكان لقاء القاهرة، في كانون الثاني الماضي، قد منح زخماً سياسياً نسبياً إلى «هيئة التنسيق». ونجح الاجتماع، الذي عقدته شخصيات مستقلة و «تنسيقيون»، قادهم هيثم مناع وحسن عبد العظيم، بالتوصل إلى ورقة مشتركة من 10 نقاط، تشكل أساساً صالحاً للتفاوض مع النظام السوري.
وكان هدف «التنسيقيين» والخارجية المصرية، التي رعته في الظل عبر ديبلوماسي مصري يعمل مع الوسيط الأممي ستيفان دي ميستورا وآخر من مسؤولي الشؤون العربية، هو الاستفادة من فشل «الائتلاف» وترنحه المتواصل بين أجنحته، القطرية والسعودية والتركية وغيرها. ونجح اجتماع القاهرة في تبيان الصدع الذي يعاني منه «الائتلاف»، في اجتذابه احمد الجربا، وفايز سارة، الجناح الأقرب إلى السعودية.
وأتاحت مبادرة موسكو أيضاً، ومؤتمرها في ٢٦ كانون الثاني الماضي، نافذة لإعادة الاعتبار إلى المعارضة الداخلية، كطرف رئيس في أي عملية سياسية. وكان اجتماع القاهرة أيضا يستجيب لحاجة مصرية لاستعادة المبادرة وتجميع المعارضة الداخلية، التي لم تولها، لا تركيا ولا «أصدقاء سوريا»، الاهتمام الكافي، وراهنت على «الائتلافيين» وحدهم، قبل أن تعيد حساباتها، لا سيما الاتحاد الأوروبي الذي لم يعد، منذ تقرير سياسته الجديدة تجاه سوريا قبل شهرين، يرى «الائتلاف» ممثلا حصرياً للمعارضة السورية. لكن الورقة الأخيرة التي تحفظ لـ «الائتلاف» بعض القوة، هي ما يردده «الائتلافيون» من اعتراف أكثر من مئة دولة بهم، وهو ما لم تحصل عليه أي كتلة معارضة سواهم.
ويبحث المصريون عبر منح المعارضين في الداخل ساحة عربية، ومظلة سنية عربية كبيرة، إلى التمهيد لتفعيل سياستهم في سوريا، وإيجاد نقاط ارتكاز تنافس الأتراك في الداخل السوري، في إطار المواقف التي أطلقها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والتي تختلف عن المحور الخليجي - التركي، في اعتبارها الحل سياسياً أولاً، متضمنا مشاركة الرئيس بشار الأسد في التوصل إليه. ويعد العمل على استعادة المعارضة السورية جزءا مكملاً من جهود المصريين لعزل «الإخوان المسلمين»، في كل الساحات التي يمكن لهم القيام بذلك، في غزة، وفي سوريا.
وتلتقي تلك الرغبة مع قراءة داخل بعض أجنحة «التنسيق» التي تعتبر انه لا بد من إضعاف «الإخوان»، والإتيان بهم طرفاً من بين أطراف أخرى، وليس كطرف مقرر ومهيمن، كما هي الحال اليوم. كما أن الذهاب للاجتماع في باريس بممثلين عن «الإخوان»، في لحظة تراجع لنفوذهم، يعد هدية مجانية لإعادة تأهيلهم، ومدهم بأسباب القوة. وفضلا عن الحاجة لإضعافهم، فان اللقاء بهم يتجاوز النقاط العشر التي تم تبنيها في القاهرة، ويتجاهل وجود خلاف جوهري مع «الائتلاف» و «الإخوان» في طبيعة المرحلة الانتقالية. فبينما يدعو «الإخوان» إلى هيئة حكم انتقالية تحرم الرئيس السوري من صلاحياته، تتبنى الهيئة وجهة أكثر مرونة، وحكومة انتقالية تقاسم الأسد صلاحياته، وهي شروط في أساس إنجاح أي عملية سياسية في سوريا.
إن اختيار القاهرة كمركز لاجتماع يبحث في توحيد رؤية المعارضة، يستبعد تلقائيا مشاركة «الإخوان»، الذين رفضت مصر منحهم سمات الدخول، وأبعدت هشام مروة من مطار القاهرة.
ويمكن القول أيضا، إن المصريين يطمحون إلى اقتسام المعارضة السورية، ونقل كتلة مؤثرة منها إلى القاهرة، بديلاً عن اسطنبول. وجلي أن المصريين قد رأوا في لقاء باريس صفعة من معارضة الداخل لجهودهم. وليس مؤكدا بأي حال أن يكون المصريون قادرين على تقديم الدعم السياسي المطلوب، ولا منافسة التسهيلات اللوجستية أو المالية التي تقدمها اسطنبول للجماعات المعارضة التي تؤويها. والأغلب أن المصريين لا يملكون القدرة على تحقيق طموحاتهم في سوريا، وهم يعولون على إرادة المعارضة الداخلية نفسها، بالتملص من هيمنة الائتلاف «التركي - الإخواني»، لبناء محور سوري معارض، يسهم في بناء مبادرتهم المستقبلية تجاه سوريا.
وواضح أن اجتماع باريس، الذي عقد بدعم فرنسي، وتنسيق تركي، يستهدف قبل كل شيء، منع أنصار «القاهرة» من التقدم. وتجاهل بيانهم، الذي لم يأت بجديد أكثر من استعادة بيان جنيف كأساس لأي حل، أي إشارة لنقاط القاهرة العشر. بل انه اعتبر نفسه استكمالا لحوار القاهرة، الذي جرى بين «الائتلاف» و «التنسيق».
وعمل فرانك جيليه، السفير الفرنسي المشرف على ملف المعارضة السورية، على إقناع «هيئة التنسيق»، بوجهة النظر التركية نفسها. ويشارك الفرنسيون الأتراك الاعتقاد انه ينبغي الإبقاء على «الإخوان المسلمين» كأفضل قوة منظمة نواة للمعارضة السورية الخارجية. وحاول جيليه إقناع مسؤولين من «التنسيق»، بعد أعوام من مقاطعتهم لاتهامهم بالتعامل مع النظام، بعدم عقد الاجتماع التشاوري للمعارضة في القاهرة، وإنما في باريس. واقترح الأميركيون عليهم من جهتهم، ضم بسمة قضماني إلى لائحة المدعوين إلى اجتماع تشاوري للمعارضة، فقوبلوا بالرفض.
واستيقظ المسؤول الأميركي عن الملف السوري دانيال روبنشتاين، بعد أعوام من تجاهل الهيئة، فأرسل كتابا إلى منسقها العام حسن عبد العظيم قال فيه انه سعيد «لسماع المناقشات والاتصالات بين هيئة التنسيق والائتلاف ومعارضين سوريين آخرين في الأشهر والأسابيع والأيام الأخيرة، وأن المناقشات الأخيرة اعتبرت مثمرة وإيجابية من قبل المشاركين. ونحن نعتقد أن هذه التطورات السياسية بين السوريين من خلفيات متنوعة جوهرية، في إعداد الأرضية للتوصل إلى حل سياسي ينهي معاناة الشعب السوري».
وعكس موقف المكتب التنفيذي لـ «هيئة التنسيق» في تبنيه اجتماع باريس والقاهرة معا، محاولة غير ناجحة للتوفيق بين أنصار العاصمتين. لكن ذلك لم يمنع خروج الخلاف إلى العلن. وطالب أعضاء في الهيئة، في بيان، برفض الاجتماع الفرنسي ونتائجه. وبات مؤكدا أن جزءا كبيراً من تيار يلتف حول هيثم مناع، سيقرر قريبا مغادرة الهيئة، التي قدم إلى مكتبها التنفيذي ثلاثة استقالات متوالية بعد كل أزمة.
ومن المحتمل أن يكون تشكيل إطار «قمح»، الذي جرى البحث به، قبل أشهر من اندلاع الأزمة، عنصراً مساعداً في تسريع الطلاق بين المجموعتين. والراجح ألا تشهد الهيئة ذلك قبل انعقاد مؤتمر القاهرة التشاوري للمعارضة في 24 نيسان المقبل، ليتقرر على ضوء نتائجه الوجهة السياسية والتحالفية للمشاركين، وقدرتهم على تجاوز التشكيلات القائمة، وهذا رهان هيثم مناع الأول.
وحتى ذلك الحين، يقول مسؤول في الهيئة، إن الكتلة التي تعارض السياسة الحالية للمكتب التنفيذي تضم الجزء الأكبر من المستقلين، خصوصا في صفوف الشباب، بالإضافة إلى «البعث الديموقراطي»، و «حزب الاتحاد الديموقراطي» الذي يقوده صالح مسلم، و «الحزب الديموقراطي الكردي».
وإذا لم يتوصل المكتب التنفيذي إلى تسوية بشأن طي اجتماع باريس، واعتماد إستراتيجية موحدة، تقوم على توحيد المعارضة السورية، حول ورقة النقاط العشر، فالأرجح أن تكون تيارات الهيئة قد وصلت إلى مفترق الطرق.