افراسيانت - هل لا يزال للاتحاد الأوروبي خيار؟ هل يريد الانغماس في تصعيد يائس وخطير للغاية إلى جانب إمبراطورية أميركية متداعية وتدمير نموذجه الاجتماعي والسلامي للأبد؟
كانت لحظة اندلاع حرب أوكرانيا لحظة تاريخية كاشفة لأحوال ومفاجآت وتشقّقات البناء الأوروبي.
بدت أوروبا ـــــ وقد أُخذت بالحرب على حين غِرّة ـــــ غير التي عرفها العالم منذ منتصف القرن العشرين. فقد حقّقت بين أممها سلاماً عن قناعة بعبثية وعدم جدوى الحروب بالعصر الصناعي لما تلحقه من ضحايا ودمار شامل، وأنجزت استقراراً ووحدة ورفاهية بمستويات غير مسبوقة تاريخياً.
وبدا أنها تعلّمت كثيراً من تاريخها وصراعاتها، فتخلّت عن الفاشية والنازية والتعصّب القومي الذي يغذّي نزاعاتها وعن العنف في حلّها، وأجمعت على الديمقراطية الليبرالية خياراً نهائياً، وواجهت التحديات والخلافات والمخاطر بحكمة وأناة ودبلوماسية.
جاء ردّ فعل أوروبا على حرب أوكرانيا انقلاباً على ذلك، وعادت لسياسات العسكرة والحروب والتدمير الذاتي، وقرعت طبول الحرب والتسلّح الباهظ، وسلّحت أوكرانيا وتماهت مع التحريض الأميركي لتعميق الصراع واستنزاف روسيا وحصارها بأوسع عقوبات اقتصادية تاريخياً، وأُسدل الستار على سياسات الانفتاح والتعاون الاقتصادي.
وانساقت لذلك ألمانيا، قائدة الاتحاد الأوروبي التي فقدت قدرتها على القيادة والحيلولة دون اتساع الحرب وتفاقمها، وسلّمت القرار الأوروبي لأميركا. كان يمكن لألمانيا أن تقود موقفاً داخل حلف الأطلسي يتجنّب استفزاز روسيا بدخول أوكرانيا في الحلف، لكنها لم تفعل!
يحذّر الكاتب الألماني، فابيان شيدلر، من أنّ الاتحاد الأوروبي قد يُدمَّر تماماً بسبب التصعيد المحتمل لحرب أوكرانيا، لكنه لا يفعل شيئاً لتجنّب الخطر ووقف القتل، بل يقوّض محاولات دبلوماسية لاستدراك الموقف. كان معروفاً منذ فترة طويلة أنّ أوكرانيا لا تستطيع الفوز بالحرب، وأنها على الأقل، دخلت طريقاً مسدوداً.
وقد صرّح بذلك في تشرين الثاني/نوفمبر 2022 رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية آنذاك، الجنرال مارك ميلي، وكذلك القائد الأعلى للقوات المسلحة الأوكرانية، الجنرال فاليري زالوشني. ومع كلّ يوم تستمر فيه الحرب، تتضاءل حظوظ استمرار أوكرانيا كدولة ذات سيادة وأداء معقول.
لكن الاتحاد الأوروبي ينكر هذا الواقع البسيط. في أول عمل رسمي له، تعهّد برلمان أوروبا الجديد في 17 تموز/يوليو بدعم أوكرانيا عسكرياً حتى استعادة جميع أراضيها المحتلة، بغض النظر عن الوقت اللازم وعدد الضحايا. لا حاجة لأن تكون خبيراً عسكرياً لفهم أنّ استعادة دونباس وشبه جزيرة القرم كاملة غير واقعية تماماً، ولو بسبب مشكلات تجنيد هائلة يعانيها جيش أوكرانيا.
بل يذهب قرار البرلمان أبعد من ذلك: فهو "يدعو بقوة لإزالة القيود المفروضة على استخدام أنظمة الأسلحة الغربية ـــــ لدى أوكرانيا ـــــ ضدّ أهداف عسكرية على الأراضي الروسية"، مخاطراً صراحة بالتصعيد أوروبياً وإمكانية نشوب حرب نووية.
كما يدعو جميع الدول الأعضاء إلى تخصيص 0.25% من ناتجها الاقتصادي دائماً لإعادة تسليح أوكرانيا (وزيادة ميزانياتها العسكرية)، وتدريب قوات أوكرانية أكثر و"تعزيز" صناعتها العسكرية. كذلك، يؤيّد القرار "مساراً لا رجعة فيه لأوكرانيا نحو عضوية حلف الأطلسي"، مما يعكس قرارات قمة الناتو السابقة، مغلقاً الباب أمام تسوية تتبنّى حياد أوكرانيا مستقبلاً. ولا ذِكرَ لمبادرات دبلوماسية بتاتاً.
القرار شهادة على هروب خطير من الواقع و"عسكرة" جامحة، يُذكّر بزمن "المشاة النائمين" قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، رغم اعتقاد الجميع بأنّ المفاوضات وحدها تقدّم مخرجاً. بل إن فلاديمير زيلينسكي نفسه قال بعد قمة السلام الفاشلة في سويسرا، والتي لم تتمّ دعوة روسيا إليها: ينبغي مشاركة روسيا في المحادثات المقبلة.
لقد دُحضت ذريعة طال ترديدها حول استحالة التفاوض مع فلاديمير بوتين منذ فترة طويلة، فقد جرت مفاوضات مكثّفة بين الجانبين من نهاية شباط/فبراير إلى نيسان/أبريل 2022 بوساطة تركية، أسفرت عن خطة من عشر نقاط تتخلّى بموجبها أوكرانيا عن عضوية حلف الناتو وتنسحب روسيا لخطوط 23 شباط/فبراير 2022.
كما جرت وساطات ومفاوضات سرية أخرى آنذاك، شارك فيها رئيسا روسيا وأوكرانيا، لكنها توقّفت بعد زيارة رئيس وزراء بريطانيا، بوريس جونسون، لكييف في 9 نيسان/أبريل. وطبقاً لتقارير إعلامية (غربية)، كانت رسالة جونسون آنذاك أنّ على أوكرانيا التوقّف عن التفاوض ومواصلة القتال.
لكن بعد عامين ونصف العام وعشرات آلاف الضحايا، التزمت دول الاتحاد الأوروبي ببرنامج "بلا معنى" لإعادة التسلّح والمواجهة بدل الدبلوماسية.
ووفقاً لقرارات اتخذت في قمّة حلف الأطلسي مؤخّراً بواشنطن، ستُنشر صواريخ جديدة متوسطة المدى برؤوس نووية في ألمانيا، للمرة الأولى منذ ثمانينيات القرن الماضي. وبدلاً من جعل ألمانيا أكثر أماناً، ستغدو هدفاً محتملاً للهجمات عند التصعيد.
ولم يُجرَ أيّ نقاش عامّ أو في البرلمان الألماني لهذه الخطوة المهمة. أما المستشار الألماني، أولاف شولتز، الذي حقّق حزبه الديمقراطي الاشتراكي 13.9% فقط في الانتخابات البرلمانية الأوروبية الأخيرة، وضعفت شرعيّته كثيراً، فقد أطلق موجة تسلّح أخرى بجرّة قلم، وتخلّى عن إحياء معاهدة تفكيك وحظر الصواريخ متوسطة المدى في أوروبا، التي وقّعها رونالد ريغان وميخائيل غورباتشيف عام 1987، وأنهى دونالد ترامب العمل بها عام 2019.
كيف يُفترض أن تجعل إعادة التسلّح الضخمة أوروبا أكثر أماناً؟
!
ويستمرّ التسلّح على حساب التماسك الاجتماعي والاستقرار السياسي. وبدل الاستثمار في التعليم والرعاية الصحية، اللتين قوّضتهما عقود من التقشّف، وجعل النقل العام مناسباً للمستقبل، يتمّ ضخّ الأموال في أكثر قطاعات الاقتصاد تدميراً وإضراراً بالمناخ: المجمّع الصناعي العسكري. فلم يعد النظام السياسي يقدّم للمواطنين آفاقاً مستقبلية، بل تخفيضات اجتماعية وحروباً، ويستمر تأكّل الثقة بالمؤسسات السياسية وتكتسب القوى القومية اليمينية دعماً أكبر.
وبدل مساعدات التنمية، المقرّر خفضها كثيراً بمشروع الميزانية الألمانية (2025)، ستصل أسلحة ألمانية وأوروبية إلى بلدان الجنوب العالمي لتأجيج صراعاتها وعدم استقرارها. وغدا حلّ النزاعات الأهلية ثانوياً بشكل متزايد في السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، الذي نال ذات يوم جائزة نوبل للسلام.
لم يعد تسليح أوروبا يستهدف روسيا فقط، بل الصين أيضاً بشكل متزايد. وأعلنت رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي، أورسولا فون دير لاين، استخدام كل الوسائل ضدّ الصين في الصراع حول تايوان. وبالتالي، يتبع الاتحاد الأوروبي مرة أخرى مبادئ واشنطن التوجيهية الاستراتيجية.
أطلق الرئيس باراك أوباما سياسة "التحوّل إلى آسيا" أو "محور المحيط الهادئ" عام 2012، وتسليحاً واسعاً لمنطقة المحيط الهادئ. في حين تبحر السفن الحربية الألمانية مع البحرية الأميركية في بحر الصين الجنوبي، مما يثير قلق بكين.
فماذا سيقول ساسة أوروبا إذا ظهرت سفن حربية صينية في البحر؟
!
وراء الحشد العسكري ضد بكين خوف أميركا من أن تزيح الصين هيمنتها الاقتصادية العالمية. وبحسب القوة الشرائية، تجاوز الناتج المحلي الإجمالي الصيني نظيره الأميركي، وتجاوز الناتج المحلي الإجمالي لمجموعة "بريكس" نظيره لمجموعة السبع. بل تخشى أميركا أيضاً فقدان الامتياز الذهبي للدولار كعملة احتياط دولية في الأمد البعيد، كما اعترفت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين مؤخّراً.
وهذا يحرم أميركا من أداة حاسمة لتمويل عجزها التجاري الخارجي الباهظ. فبعد العقوبات ضد روسيا، تعمل الصين وروسيا ودول في الجنوب العالمي على تطوير أنظمة دفع دولية تتجاوز الدولار الأميركي، وتلحق الصين بالركب تكنولوجياً. وتُظهر مضاعفة الجمارك الأميركية على السيارات الكهربائية الصينية عجز صناعة السيارات الأميركية عن المنافسة.
وهكذا، يزداد اعتماد الجمهوريين والديمقراطيين على العسكرة لاحتواء الصين وتقييد نفوذها. لذلك، يحثّون دول الاتحاد الأوروبي على إعادة التسلّح لإبقاء روسيا قيد الاحتواء واتخاذ إجراءات مشتركة ضد الصين. ولكن فكرة أن "الغرب الجماعي" يمكنه عسكرياً منع نمو ثقل الصين اقتصادياً وسياسياً تبقى وهماً خطيراً جداً.
فهل تريد أوروبا حقّاً أن تخوض حرباً ضد أكبر ناتج محلي إجمالي وثالث أكبر قوة نووية عالمياً يسكنها 1.3 مليار نسمة؟ لا يستحيل الفوز بمثل هذه الحرب فقط، بل قد تعني نهاية البشرية.
الخيار العقلاني الوحيد هو بناء نظام أمني عالمي جديد يشمل الصين، وروسيا أيضاً ــــــ في الأمد البعيد ـــــ عندما تنتهي حرب أوكرانيا. هذا المنظور ضروري أيضاً لأنّ أولى مهام المستقبل الكبرى، كمعالجة أزمة البيئة والانقسام بين الأغنياء والفقراء، تتطلّب تعاوناً مكثّفاً. فآخر ما يحتاجه العالم هو مواجهة تكتلات وصراعات جديدة.
يتساءل شيدلر: هل لا يزال للاتحاد الأوروبي خيار؟ هل يريد الانغماس في تصعيد يائس وخطير للغاية إلى جانب إمبراطورية أميركية متداعية وتدمير نموذجه الاجتماعي والسلامي للأبد؟ أم يتبنّى موقفاً مستقلاً ووسيطاً لصنع السلام بالدبلوماسية والتعاون بدل المواجهة؟
لا يعتمد مصير أوروبا فقط على هذا الاختيار، بل وأيضاً مصير جزء كبير من بقية العالم.