أفراسيانت - هاني المصري - بات واضحًا الآن أنّ مشروع القرار العربي الذي قُدّم إلى مجلس الأمن بعد مشاورات وتعديلات كثيرة أفرغته من مضمونه، خطأٌ فادحٌ، وأفدح إذا أقرّ وأصبح المرجعيّة الدوليّة الجديدة للمفاوضات الفلسطينيّة - الإسرائيليّة.
لا يلبي مشروع القرار الحقوق الوطنيّة التاريخيّة والراهنة، وقد هبط إلى ما دون سقف القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، التي تضمن حق العودة وتقرير المصير، بما يشمل إقامة دولة فلسطينيّة؛ بدليل ما جاء فيه من صياغات أهملت القدس والاستيطان واللاجئين ومسألة الاعتراف بالدولة والخطوط بدلًا من الحدود، وتبادل الأراضي، فضلاً عن كيفيّة تناوله للقرار 181، والتوقف عن الخطوات أحاديّة الجانب، بما يعنيه من عدم استخدام أوراق القوة والضغط، التي تشمل الانضمام إلى محكمة الجنايات الدوليّة، ووقف العمل بالتزامات «أوسلو»، واعتماد خيار المقاومة والمقاطعة.
وقد وُجِّهَت اللطمة الأميركيّة سريعًا بإعلان إدارة أوباما أن تأييدها لهذا القرار بصيغته الحاليّة غير وارد، ما يعني ضرورة استكمال تغييره لينال الرضى الأميركي إذا استمر البحث عن الإجماع، وأنها تفضّل تأجيل عرض أي قرار إلى ما بعد الانتخابات الإسرائيليّة.
لقد تعرّضت القيادة الفلسطينيّة إلى خديعة أميركيّة بالإيحاء أنّ واشنطن يمكن أن توافق أو تمتنع عن التصويت إذا تمّ تليين مشروع القرار، وإلى ابتزاز أوروبي طالب باعتماد الصيغة الفرنسيّة لتأييده. وعندما أعيدت صياغته لينسجم بشكل كبير مع المطالب الأوروبيّة لم تتعهد أوروبا بتأييده، لذا أصبحت الآن لا تدري ما تفعل: هل تعاند وتمضي في الكفر حتى النهاية، أم تأخذ بالمثل القائل إنّ الاعتراف بالذنب والتراجع عنه فضيلة، وتعود إلى الصيغة الأصليّة، أم تأخذ بالنصيحة الأميركيّة بتأجيل التصويت على القرار إلى ما بعد الانتخابات الإسرائيليّة؟
يبدو أنّ كل ما سبق سبّب الارتباك الذي يظهر من خلال تباين التصريحات الرسميّة بين مصدر فلسطيني مطلع صرّح بأن القيادة الفلسطينيّة وافقت على تأجيل التصويت، وأن اتصالات تجري لدمج مشروع القرار الفلسطيني بالأوروبي، وبين آخر يقول بأنّ تعديلاتٍ فلسطينيّةً مهمّةً ستجري على مشروع القرار، وثالث يقول إنّ التعديلات أجريت فعلًا، وصولاً إلى التهديد بسحب مشروع القرار إذا لم تتعهد أوروبا بتأييده والعودة إلى نص مشروع القرار العربي الأصلي.
ليس هناك شيء يبرر تقديم مشروع عربي يجسّد سقفًا منخفضًا. وإذا وُجِدت مثل هذه «المرونة» من أجل الحصول على الموافقة الأوروبيّة واحتمال عدم استخدام «الفيتو» الأميركي، فما الذي سنقدمه للحصول على الموافقة الأميركيّة، أو عند التفاوض مع إسرائيل ومن أجل التوصل إلى اتفاق سلام معها؟!
الأصل في أبجديات علم المفاوضات أن يبدأ كل طرف في بداية المفاوضات بطرح الحد الأقصى من مطالبه، حتى ينزل إلى الحد الأدنى من هذه المطالب إذا توفرت إمكانيّة للاتفاق؛ لا أن يطرح طرف ضعيف موقفًا تفاوضيًّا منخفضًا جدًا في البداية، أو بعد فشل المسيرة الطويلة العريضة من المفاوضات، التي تم التنازل فيها عن الحقوق التاريخيّة والمساومة على الحقوق المقرة في الشرعيّة الدوليّة.
إنّ تقديم تنازلات مجانيّة ومن طرف واحد، حتى قبل بدء المفاوضات وأثناء المشاورات مع أطراف أخرى أوروبيّة تقول إنها تريد الاعتراف بالحقوق الفلسطينيّة، خصوصًا حق تقرير المصير وإقامة دولة فلسطينيّة على 22 في المئة من مساحة فلسطين الانتدابيّة؛ هو العجب العجاب الذي لن يقود إلى شيء سوى إلى استدعاء المزيد من الضغوط الأميركيّة والأوروبيّة وفتح شهيّة الاحتلال نحو المطالبة بالمزيد من التنازلات الفلسطينيّة والعربيّة. وهذا يفسر ردة الفعل الإسرائيليّة التي تنتقد الموقف الأوروبي، لأنها لا تكتفي بالمطالب الأوروبيّة من الفلسطينيين، بل تريد عودة المفاوض الفلسطيني إلى طاولة المفاوضات الثنائيّة عاريًا من دون سقف زمني ولا مرجعيّة للمفاوضات ولا للاحتلال، حتى تتحكم إسرائيل بالكامل بسير المفاوضات وبنهايتها إذا انتهت، وتجعلها مفاوضات من أجل المفاوضات.
كنّا ننتظر بعد الكارثة التي وصلنا إليها بعد أكثر من عشرين عامًا على «اتفاق أوسلو» وما تلاه أن نراجع هذه المسيرة ونستخلص الدروس والعبر، ونتجاوز هذا الاتفاق والتزاماته، ونطرح مسارًا جديدًا يبدأ بإعادة الاعتبار للحقوق الفلسطينيّة التاريخية والطبيعية، سواء تضمنها القانون الدولي وقرارات الشرعيّة أم لا. أما أن نهبط في مرجعيتنا ونسعى بأرجلنا لتغيير المرجعيّة الدوليّة التي تتضمن الحد الأدنى، فهذا أخطر ما كان يخطر على البال.
ما يفسّر ذلك عدم وجود قناعة عميقة بضرورة تغيير المسار بشكل جذري، وأن طرح الخيارات الجديدة كان من قبيل التكتيك للضغط من أجل استئناف وتحسين شروط المفاوضات. وعندما مرت الأيام والأسابيع والأشهر وبينت أن هذا التكتيك لم يثمر، وإنما سيقود إلى مجابهة حاولت السلطة تدارك الأمر بشكل ارتجالي، من خلال السعي إلى تجنب المواجهة بأي ثمن وبأي شكل من الأشكال، ولو من خلال مشروع قرار أحسن ما يمكن أن يؤدي إليه إذا نجح، هو مفاوضات جديدة تحت سقف أقل من سقف «أوسلو» الذي قادنا إلى ما نحن فيه.
هناك مخرج من الورطة التي أوصلنا إليها تقديم المشروع، ويتمثل في سحب المشروع وطرح آخر يتضمن كل الحقوق الفلسطينيّة المتضمنة في الشرعيّة الدوليّة، أو وقف العمل من أجل إصدار قرار من مجلس الأمن يضمن الحقوق الفلسطينيّة، لأن موازين القوى والظروف الفلسطينيّة والعربيّة والإقليميّة والدوليّة لا تسمح بذلك. فتقديم مشروع كهذا أدى إلى استدعاء الضغوط لتقديم مشروع ضعيف، إذ انتهينا إلى تقديم ثمن باهظ مقابل مجرد الإشارة إلى إنهاء الاحتلال خلال سقف زمني قصير. إن هذا يذكرنا بالسقف الزمني لخريطة الطريق الدوليّة التي تحدثت عن إقامة الدولة العام 2005، وعن وقف الاستيطان وقفاً تامًا، بما في ذلك التكاثر الطبيعي.
نحن ضعفاء نعم، ولأننا كذلك فلا يمكن أن نأخذ حقنا أو جزءًا مهمًا منه من دون المحافظة على ما لدينا، والعمل من أجل تقوية أنفسنا من خلال البدء بتوفير مقومات الصمود والتواجد البشري على أرض الوطن، وتقليل المخاطر والخسائر والتضحيات، والتمسك بالحقوق وعدم التنازل عنها، إضافة إلى إحباط المخططات الاستعماريّة الاستيطانيّة العنصريّة، والعمل طويل النفس لتغيير موازيين القوى مع إبقاء القضيّة حيّة، إلى حين توفر ظروف وشروط تسمح بتحقيق أهدافنا، أو الحد الأدنى منها.