افراسيانت - هاني المصري - لا يزال الجدال عاصفًا، حول سلمية الانتفاضة أو عسكرتها، وحول ظاهرة الطعن بالسكاكين التي هي حتى الآن أبرز ما يميز موجة الانتفاضة الحالية.
هل كانت ستصل هذه الموجة إلى ما وصلت إليه من انتشار وتصاعد لولا عملية «بيت فوريك»، واللجوء إلى السكين والدهس، وتنفيذ عمليات في القدس ومختلف المناطق في إسرائيل؟ وهل هذا الاستهداف يوحد إسرائيل كما يُزعم، ما يوجب التركيز على المقاومة في الأرض المحتلة العام 1967، أم أن إسرائيل موحدة ولن تنقسم إلا إذا بدأت بدفع ثمن استمرار الاحتلال والعدوان والاستيطان، والدليل على ذلك تزايد الأصوات في هذه الأيام التي تنادي بالانفصال عن العرب بمعدلات غير مسبوقة؟
لولا «انتفاضة السكاكين»، هل كانت «الانتفاضة» ستحظى بهذا القدر من المشاركة الشعبية والتأييد، وهل ستتمكن من إنجاز ما حققته من إعادة القضية الفلسطينية المهمشة إلى جدول الأعمال؟ وهل كان الاقتصاد الإسرائيلي سيتراجع في مجالات حيوية عدة جرّاء فقدان الأمن، لدرجة أن واحدة على الأقل من كبريات الصحف في إسرائيل صدرت بعناوين بارزة في صفحتها الأولى بأن «إسرائيل لم تعد مكانا آمنا للعيش»؟ وهذا سيؤدي إذا استمر إلى بداية انقسام في إسرائيل وليس إلى توحدها وراء المطالبة باتخاذ أكثر الإجراءات وحشية ضد الفلسطينيين.
إن ما يفسر هذا الشكل من «الانتفاضة» هو مستوى وحجم القهر والإذلال المستمرين في ظل فقدان أي أفق سياسي، وإمعان إسرائيل في تعميق الاحتلال وتوسيع الاستيطان، والإرهاب الفردي والمنظم، واستكمال العمل على توحيد القدس وتهويدها وأسرلتها.
يفترض بالجميع، خصوصًا المثقفين، أن يقوموا بدورهم لشرح لماذا ينتفض الفلسطينيون منذ أكثر من مئة عام، بحيث يكون ما بين الانتفاضة والانتفاضة هبات، وأحيانًا ثورات، ولماذا تأخذ الانتفاضة الحالية شكلًا مختلفًا، ولماذا لم تحقق النضالات السابقة انتصارات بمستوى التضحيات، (بدل الزعم بأنها لم تحقق شيئاً).
لولا الثورات والانتفاضات والتضحيات الغالية، والمقاومة المسلحة، لما بقيت القضية حية، ولتمكنت الحركة الصهيونية من استكمال تحقيق كل أهدافها بطرد من تبقى من شعب فلسطين، ومن إقامة الدولة اليهودية النقية على أرض «إسرائيل الكاملة».
لا يمكن بعد كل هذه التجارب والنضالات أن نعود دائمًا إلى نقطة البدء: نضال سلمي أم مسلح، مفاوضات أم مقاومة، برغم أن هذه الانتقائية والأحادية من مسببات وصولنا إلى ما نحن فيه، فما يحدد أشكال النضال ليس الضحية وحدها، بل طبيعة وخصائص المشروع الاستعماري الاستيطاني الإجلائي، الذي لا يريد تسوية ولا يزال مفتوحًا.
يدفع اختلاف الظروف والمعطيات بين الانتفاضة الأولى والموجة الحالية وازدياد الاختلال في موازين القوى إلى ضرورة عدم اعتبار المقاومة المسلحة الأسلوب الرئيسي في النضال، كونه يحتاج إلى إمكانيات وأسلحة وأموال وإمدادات، وعوامل وظروف داخلية غير متوفرة مثل الوحدة على إستراتيجية واحدة، ووجود عمق عربي ودولي ملائم. ولكن استبعاد المقاومة المسلحة في ظل العدوان الإسرائيلي المستمر واستخدام القوة المفرط بوحشية متزايدة يطرح أهمية التمسك بحقنا في المقاومة، بما فيها المسلحة، واستخدامها وفقًا للقانون الدولي، واستنادًا إلى كل الشرائع الدينية والدنيوية.
إن الموجة الانتفاضية الحالية شكل من أشكال الاستجابة الفلسطينية لضرورة التصدي لتطبيق المشروع الاستعماري الصهيوني في المرحلة الحالية، فهو يحاول انتهاز الفرصة في ظل الانقسام والعجز والحروب الداخلية العربية لتطبيق ما عجز عن تحقيقه حتى الآن، بدليل نزع صلاحيات السلطة ودفع خيار إقامة دولة فلسطينية إلى حافة الموت.
السؤال ليس لماذا يقوم الشباب الذين ولدوا في فترة «أوسلو» بطعن المحتلين، بل لماذا تأخرت ردة الفعل الطبيعية كل هذا الوقت، كما كتب العديد من الكتاب الإسرائيليين، وبعضهم من الصهاينة؟
لقد استدعي هذا الشكل من الانتفاضة بسبب الفراغ الناجم عن غياب القيادة التي أعلنت منذ سنوات بأن خيارها وصل إلى طريق مسدود، واعلنت أنها لا تريد انتفاضة، واكتفت بالتهديد حينًا، واستخدمت تكتيكات تستهدف إحياء المفاوضات والسعي لتحسين شروطها، بدل فتح طريق لمسار جديد، حينًا آخر.
كما أن القوى التي رفعت شعار المقاومة المسلحة وصلت إلى طريق مسدود بدورها، بدليل تنفيذها هدنات عدة منذ العام 2003 حتى الآن، وسعيها لهدنة طويلة الأمد مقابل الحفاظ على سلطتها ورفع الحصار عن غزة إلى أن «يقضي الله أمرًا كان مفعولًا». لذلك، فاجأت «الانتفاضة» الحاليّة الجميع.
صحيح أن» فتح» أرادت «هبّة» لاستعادة شعبيتها المتراجعة، ولدعم السياسات التي لوّح بها الرئيس في خطابه بالأمم المتحدة، خصوصًا تهديده بعدم الالتزام بالاتفاقات إذا استمرت إسرائيل بعدم الالتزام بها. إلا أنها فوجئت بالمسار الذي سارت فيه «الانتفاضة» منذ عملية «بيت فوريك» التي رحب بها الجميع تقريبًا، وبظاهرة السكاكين التي بدا أن لا بديل عنها في ظل غياب القيادة والإرادة والتحرك الشعبي الواسع لتقديم رد سريع يتناسب مع حجم العدوان والجرائم الإسرائيلية، ويكون قادرًا على الاستنهاض السريع للشعب. أما «حماس»، فقد أرادت تصعيد الانتفاضة في الضفة فقط حتى تساعدها على الخروج من مأزق سلطتها في غزة.
بدلا من لوم الأبطال الذين نقلوا الوضع بعملياتهم من حال إلى حال، يجب لوم القيادة والقوى التي لا تزال مرتبكة برغم مضي عشرين يومًا على «الانتفاضة» من دون أن ترتقي إلى مستواها، بل سعت إلى إبقائها رهينة للانقسام وللسياسة المجربة سابقًا بقطف ثمار الانتفاضات قبل نضجها، أو للتعامل مع النضال وكأن هدفه مجرد إبقاء جذوة المقاومة مشتعلة إلى حين نهوض المارد العربي أو المارد الإسلامي.
على القيادة والقوى المختلفة استثمار النضال سياسيًا حتى يشعر الفلسطيني أنه يحقق إنجازات ويسير، ولو بشكل تراكمي، على طريق نهايته النصر المؤكد. وهذا يحتاج إلى هدف قابل للتحقيق، وإلى تعميق الطابع الشعبي للانتفاضة من دون إهمال كلي للمقاومة المسلحة الضرورية لرفع معنويات الفلسطينيين، ولجعل الاحتلال مكلفًا لإسرائيل، لأنه إذا كانت الانتفاضة سلمية مئة في المئة، واكتفت بالمسيرات بالساحات ومراكز المدن ورفع الشموع وشكل من أشكال المقاطعة للمستوطنات وترديد الهتافات مئة عام، وفي ظل عدم تواجد جيش الاحتلال في المدن، فلن تحرك إسرائيل ساكنًا، وسيبقى المجتمع الدولي جامدًا مطمئنًا لاستمرار مصالحه ونفوذه.
كنت من القلائل الذين جاهروا بانتقاد العمليات الاستشهادية التي نفذت خلال الانتفاضة الثانية، ليس لأنها «انتحارية»، بل لأنها - أساسًا - تدفع الصراع إلى معارك حاسمة وفاصلة في وقت نحن غير مستعدين فيه للحسم، ما مكن الاحتلال من ذلك. لكن «انتفاضة السكاكين» هي انتفاضة أفراد لم يعودوا قادرين على العيش كما كانوا، وقد استطاعت «انتفاضتهم» حتى الآن تحقيق إنجازات ملموسة، مثل توجيه ضربات لخطة نتنياهو حول السلام الاقتصادي وضم القدس وفصلها عن بقية الأراضي المحتلة.