افراسيانت - عبد الستار قاسم - حيثما حصل لقاء مع الناس، في مجالس خاصة أو عامة، في مشفى أو في جامعة، أو حتى في حانوت أو في الشارع، يواجهني سؤال هام لا تسهل الإجابة عنه وهو: إلى أين العرب ذاهبون، وما هو مصير القضية الفلسطينية؟ يطرحون السؤال علي اعتبار أنني متخصص في العلوم السياسية ومن المساهمين في بلورة الرأي العام العربي. في كثير من الأحيان أتلعثم لأن السؤال شائك جدا، والإجابة عنه ليست ببساطة العجلة التي تتطلب سرعة الإجابة. وربما لا يدرك رجل الشارع العادي أن المتخصص يقع في حيرة عظيمة كما يقع هو في حيرة، وربما تكون إجابته هو عن السؤال أكثر دقة من إجابة المتخصص. على أية حال، أحاول في هذا المقال الاجتهاد مستعينا بآفاق الفلسفة السياسية.
الحصاد من جنس البذار
الحصاد من جنس البذار قاعدة بيولوجية وقاعدة اجتماعية في آن واحد. لقد غرق الوطن العربي مع نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية تكوين الدولة العربية بالظلم والفساد. تولت قبائل المسؤولية عن شؤون جزء كبير من الشعوب العربية، وكذلك فعل أناس ارتجاليون طموحون أعجز من أن ينشئوا البنية التحتية الضرورية لتحقيق طموحاتهم. لا الأنظمة القبلية كانت قادرة على رسم تصور للمستقبل العربي، ولا القوى الشعبية التي كانت تحلم بالمستقبل الزاهر، وكانت الغلبة في الإدارة والحكم للأبعاد الثقافية العربية التاريخية التي تميزت بقواعد الافتراق لا الاتحاد، وقواعد المفاخرة والاستئثار والانتهازية والتكبر على الآخرين وإقصائهم.
عجز العرب وبالتحديد القمم العربية عن تطوير مشروع عربي واضح المعالم والأهداف والآليات يجمع العرب على مختلف طاقاتهم وقدراتهم للسير قدما في الأمة العربية. كان لدى العرب أفكار حول العمل الجماعي الذي يمكن أن يفضي إلى نوع من الوحدة مثل التعاون الاقتصادي والتعاون العسكري وتطوير التعليم، الخ، لكنهم عجزوا عن وضع أفكارهم موضع التطبيق العملي والالتزام، ولم ينجحوا في التعاون الجدي إلا في القضايا الأمنية التي تهتم بملاحقة المواطن العربي. يشكل المشروع آلية وعنوانا كبيرا يمكن أن يلتف الناس حوله، ويعملوا على تحقيق أهدافه، وغيابه يترك الساحة فارغة لا يملؤها سوى الاجتهادات التي تتباين وتساهم في تمزيق الأمة. وحتى أن التكتلات العربية الفرعية مثل الاتحاد المغاربي ومجلس التعاون الخليجي لم تنجح في صياغة مشروع مقلص بحجم الدول المشاركة. ربما نستطيع تفسير ذالك بأن الأنظمة العربية ليست أنظمة رؤى فلسفية أو عقلية علمية أو مبادئ إنسانية فعجزت عن رؤية الطريق نحو بناء إنسان عربي قادر وصاحب شخصية مبدعة.
الفتن الداخلية العربية
كان يتطلع العرب إلى إقامة وحدة عربية تتمخض عن دولة عربية قوية يستعيد العرب من خلالها أمجاد الماضي التليد، فإذا بهم يتمزقون على يد الاستعمار ويقبلون التمزق كحقيقة واقعة لا رجعة عنها. فنحن مثلا نهجو اتفاقية سايكس بيكو، لكننا نتمسك بنتائجها إلى درجة أن النظام الأردني رفع شعار الأردن أولا، وبعض اللبنانيين حذوا حذو النظام الأردني وتمسكوا بلبنان أولا، أما الفلسطينيون الذين هم أشد الناس حاجة إلى الوحدة يطالبون بدولة على رقعة صغيرة من وطنهم الذي خصصه الإنكليز لهم. وبدل أن يتوجه العرب نحو ثقافة الوحدة والاعتزاز بالذات وكسب القوة في مختلف مجالات الحياة، توجهوا نحو مزيد من التمزق والافتراق، ويبرز عاملان رئيسيا في تفسير هذا المنحى العربي وهما:
1- ظلم الأنظمة العربية الذي أثار البغضاء والكراهية بين أبناء الشعب الواحد. ميز الظالمون العرب بين مواطن وآخر إلى درجة أن نسبة كبيرة من الناس حرمت من الوظائف الحكومية التي كانت حكرا على الموالين للنظام السياسي القائم، ومن الناس من تتم ملاحقتهم وزجهم بالسجون والمعتقلات، ومنهم من قتل أو اضطر للهروب من وطنه لاجئا. اعتمدت الأنظمة العربية سياسة فرق تسد، وقدمت جماعة على أخرى، وكافأت طائفة وحرمت طائفة أخرى، وانحازت لصالح قوى سياسية على حساب قوى أخرى، وأما الاستقلال الذي وعدت به فتنازلت عنه لصالح القوى الاستعمارية التقليدية بخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا. ولم تتهاون الأنظمة العربية في تطبيق قيم الفساد والنفاق والكذب، وألبت الناس بعضهم ضد بعض حتى سادت الكراهية والبغضاء والأحقاد بين الناس. النظام الظالم لا يمكن أن يكون جامعا للناس، بل هو بالتعريب مفرق للجماعة وقاتل للوحدة بسبب الفتن التي يغرسها في المجتمع. وتدهورت الأوضاع في مختلف البلدان العربية إلى درجة أن النظام لم يعد قادرا على تحقيق الوحدة الوطنية داخل القطر العربي الواحد. فشلت الأنظمة العربية في تحقيق الوحدة القومية، وفشلت في الحفاظ على الوحدة الوطنية القطرية، وتمزقت بالتالي الهوية العربية ولم يعد العربي واضح الهوية أمام نفسه وأمام الآخرين.
2- أما مصدر التشتت الثاني والذي لا يقل أهمية عن الأول يتمثل بالفقهاء من كل المذاهب الإسلامية. لقد أرخى رجال دين كثر تاريخيا لأنفسهم حق الإفتاء بالنيابة عن الأمة، وحاولوا تسيير الأمة ليس وفق التعاليم الإلهية وإنما وفق اجتهاداتهم الشخصية. من هؤلاء الفقهاء من أصاب وعمل على جمع كلمة المسلمين، لكن كثرتهم فتحت الطريق دائما للتمزق والاقتتال. لقد حول الفقهاء الدين الإسلامي إلى دين فقهي مبعدين الفكر عن جادتهم، فنشأت العديد من الفرق الإسلامية التي يدعي كل منها أنها هي التي ستفوز بالجنة، وأن باقي الفرق مصيرها جهنم. لقد تحول بعض الفقهاء إلى مفوضين إلهيين يملكون صلاحيات توزيع الناس على الجنة والنار، واستعملوا سلاح التكفير بعضهم ضد بعض، فأخذت كل فرقة تكفر الأخرى وتخرجها من ملة الإسلام. وقد استشرت ظاهرة التكفير والفتن المذهبية بعد الحراك العربي الذي بدأ في تونس، وما زال العربي يدفع ثمن الفتن المذهبية دما غزيرا. ولم يتوان الإعلام العربي عن الانحياز لفرقة ضالة ضد فرقة ضالة أخرى، فغاص العربي في حملات تشويه وتضليل زادت الشقة بين الناسن وغيبت بالمزيد فكرة المشروع العربي.
استمرار الاقتتال الداخلي
السؤال المطروح في أغلب الأحيان يتعلق باستمرار الحروب الداخلية العربية واحتمال توقفها. لقد حصل حراك عربي ضد عدة أنظمة عربية استبدادية، لكنه لم يحصل بصورة جدية ضد أنظمة عربية أخرى. الاستبداد يولد الأحقاد والكراهية والبغضاء، والمستبد غبي لا يرى أبعد من رأس أنفه، وهو دائما يوهم نفسه بأنه معبود الجماهير في حين أن الجماهير تنتظر فرصة الانقضاض عليه. لم يحصل حراك حتى الآن في السعودية والسودان والمغرب والجزائر والأردن، وعلينا أن ننتظر حصوله في الفرصة المتاحة. أي أنه من المتوقع أن يتوسع نطاق الاقتتال الداخلي العربي ليس بالضرورة في هذه اللحظة التاريخية، لكن المستبد دائما يعجل من اللحظة التاريخية المناسبة لسقوطه.
أما في البلدان العربية التي تشهد اقتتالا الآن فإننا نتوقع استمرار القتال ما دامت الأطراف المتقاتلة تظن أنها ستنتصر على الطرف الآخر. بعد كل هذا الدمار والقتل الذي حصل في سوريا وغيرها ما زال النظام يظن أنه سينتصر، وكذلك تفعل المعارضة. لن ينتصر أي طرف لأن كل طرف يتمتع بمن يدعمه في استمرار القتال، وما دامت القوى الخارجية تتدخل في الشؤون العربية الداخلية فإن الصلح لا مكان له في القاموس السياسي الآن.
المشكلة أننا نحن العرب وربما هناك من يشبهنا على الساحة الدولية لا نريد أن نتعلم بالعقل والتحليل العلمي للظواهر الاجتماعية والسياسية، ولهذا لم يكن من المتوقع أن نكون عقلانيين في الصراع بين القوى الشعبية وقوى النظام السياسي، بل كان من المتوقع تدهور الأوضاع بالمزيد مع مرور الأيام. وإذا غاب التفكير العلمي والفهم العقلاني للظاهرة فإن التجربة تكون البديل الأوحد في البحث عن صيغ للحلول الممكنة. أي أننا لن نتعلم إلا بعدما نثخن بالجراح، وبعدما يستهلك نزيف الدماء أعدادا كبيرة من أبنائنا. إذا تعمقت جراحنا وبتنا على يقين بأن الاقتتال لن يفضي إلى نصر فإننا قد نضع أيدينا بين رؤوسنا ونبدأ في التفكير في البحث عن حل. الذي لا يتعلم بالعقل يتعلم عندما تقع الفأس بالرأس. وواضح أن ملوك القتل وسفك الدماء لا يرون حتى الآن أن رؤوسهم قد أصبحت تحت المقصلة. هم لا يأبهون كثيرا ما دام الشعب المسكين هو الذي يفقد بيته وابنه هو الذي يموت.
مرحلة الأحقاد والانتقام
في عدد من البلدان العربية، يمر العرب الآن في مرحلة قاسية جدا من الأحقاد البغيضة والرغبة في الانتقام والثأر. لقد سفك بعضنا دماء بعض بلا هوادة وبلا رحمة، واشتعلت في بطوننا نيران الأخذ بالثأر وتدمير الطرف الآخر، وليس من السهل على أهل المنطق والعلم أن يعادلوا في جدلياتهم جدلية الانتقام. ولهذا ستأخذ المرحلة مداها حتى يشعر الجزء الأكبر من الناس أن غليلهم قد شفي حتى لو خسروا. عندها يمكن فتح الأبواب للحوار الداخلي والعمل معا للوصول إلى حل يخرج الناس مما هم فيه من كرب عظيم. المعنى أن البيئة النفسية والاجتماعية والثقافية التي أفرزها الحراك العربي غير صالحة حتى الآن لإسكات السلاح، وهي بيئة تسلحية إجرامية لا تفهم لغة العيش أو الحياة معا. الأطراف المتحاربة إقصائية، وتنكر حق الآخر في الوجود والمشاركة.
التدخل العربي والأجنبي
ليس فقط أن البيئة القائمة الآن في عدد من البلدان العربية ليست مناسبة لوقف إطلاق النار، وإنما تعمل عدد من البلدان العربية على صب الزيت على النار نتيجة صراعات وخلافات بين الأنظمة العربية نفسها، وتعمل أيضا دول غير عربية على تأجيج الصراع بتقديم الأموال والأسلحة للأطراف ليستمروا في حربهم. ولا ننس الكيان الصهيوني المعني على الدوام بإضعاف العرب، وهو دائما يتدخل من أجل إشعال الفتن وتمزيق النسيجين الاجتماعي والأخلاقية. طبعا نحن مسؤولون عن التدخل الخارجي لأننا إما نستدعيه ليساهم في حل مشاكلنا فيعقدها، أو نفتح الثغرات الاجتماعية والعسكرية والسياسية التي يتسلل من خلالها ويصبح عاملا أساسيا في إذكاء الصراع ويصبح سيدا علينا. ولا يبدو أن لدى الأطراف المتحاربة الاستعداد الآن لكي تتخلى عن الدعم الخارجي الذي يشكل شريان الحياة لاستمرار قدرتها على القتال.
نحن نسمسر على أنفسنا وأوطاننا، ونبحث في كثير من الأحيان عن عرابين غربيين ليتدخلوا في شؤوننا. ألم نفعل ذلك فيما يتعلق بليبيا؟ وكم من العرب حاولوا مرارا وتكرارا مع دول غربية للتدخل في سوريا والانحياز لصالح طرف ضد طرف؟ والتاريخ يثبت أن عداءنا نحن العرب فيما بيننا أشد وأقسى من عدائنا للأعداء الخارجيين.