افراسيانت - فهمي هويدي - ليبيا في الإعلام العــربي غيرها على أرض الواقع، حتى يبدو وكأن الأول بلد مختلف عن الثاني. هــــذه محاولة لقراءة الحالة الليبية من خارج الصورة النمطية.
(1)
هي في الإعلام ساحة يتمدّد فيها الإرهاب ويتوحّش بدرحة أصبحت تقلق الجيران وتهدّد الامن القومي المصري ولكن الجيش الوطني يحاول جاهداً وقف ذلك التمدد وإفشال مخططاته، الا ان جهوده لا تزال قاصرة لانه بحاجة الى سلاح يؤدي به واجبه ويده مغلولة في ذلك بسب الحظر الدولي.
موقف الاعلام العربي عاكس لمواقف دوله الشريكة في الصراع الدائر على الأرض. إذ لم يعد سراً أن مصر والامارات تساندان «عملية الكرامة» في الشرق، في حين أن قطر وتركيا تساندان «فجر ليبيا» في الغرب. كما بات معلوماً ورائجاً أن جماعة «الكرامة» المتمركزة في طبرق القريبة من الحدود المصرية تعتبر أن خصومها المتحصنين في طرابلس ارهابيون. اما جماعة «فجر ليبيا» فإنهم يصنفون مجموعة «الكرامة» بانهم يمثلون الثورة المضادة، التي تسعى لإجهاض ثورة فبراير التي أطاحت بالرئيس السابق معمر القذافي. وكل منهما يطعن في شرعية الآخر ويعتبر نفسه ممثلاً للشعب الليبي. وهذه معلومات صحيحة لكنها منقوصة ـ إن شئت فقل إن تلك قراءة تختزل المشهد وتتعامل معه بتبسيط شديد ومخلّ لأنه مسكون بقدر هائل من التفاصيل التي منها ما يلي:
ـ إن تنظيم «داعش» لا يمثل خطراً على ليبيا وأبعد من ذلك بكثير أن يهدد أمن مصر كما يقول الصحافي الليبي هشام الشلوي. هو مشكلة في ليبيا صحيح لكن يصعب تصنيفه خطراً. إذ للتنظيم وجوده في درنة التي تبعد عن مقر البرلمان في طبرق مسافة 175 كم، مع ذلك فإن عناصر المقاومة الشعبية طردتهم من هناك خلال ساعات محدودة. وأصبح لهم وجود في بؤرة محدودة على بعد 40 كيلومتراً منها. لهم بؤرة ثانية في بنغازي حيث انضم اليهم بعض اعضاء جماعة «انصار الشريعة»، وهذه تبعد 1200 كــــم عن مـــقر السلطة في طرابـــلس، ولهم بؤرة ثالثة او قــاعدة في سرت التي تمدّدوا فيـــها مؤخراً، بعد اشــــتباكات بولغ في حجـــمها كثيراً؛ في حين ان الذين قتلوا فيــــها لم يتجاوزا ثلاثين شخصاً. لكن هذه المــــدينة التي كانت أثيرة لـــدى القــــذافي، تبعد مسافة 400 كــــم عن طرابــــلس. وهي خلفــية تسوغ لـــنا أن نقـــول بان وجودهم الذي لا يتجاوز المئات لا يهدّد معاقل السلطة.
ـ إن «داعش» لا تحارب وحدها، ولكنها مؤيدة من عناصر النظام السابق ومن قبيلة القذاذفة التي ينتمي إليها معمر القذافي. ولا ينسى في هذه الصورة أن احمد قذاف الدم، منسق العلاقات الخارجية في عهده، امتدح «داعش» في حوار بثته إحدى القنوات الخاصة المصرية يوم 17 كانون الثاني الماضي، وقال إنهم لم يجدوا أحداً يدافع عن كرامة الأمة فلجأوا للهروب الى الله. ونُشر كلامه صحيفة «القدس العربي» اللندنية الصادرة في 18 كانون الثاني تحت عنوان نسب الى احمد قذاف الدم قوله: أنا مع «داعش» وهم شباب أنقياء.
ـ إن ما يُوصف بأنه الجيش الوطني الليبي له وجوده في وسائل الإعلام أكبر من وجوده على الأرض، ذلك أن القذافي كان قد ألغى الجيش وحوله الى مجموعة من الكتائب وزعها على اولاده. والعنوان الذي يجري تسويقه الآن ينصرف الى مجموعة من العسكريين الذين يلتفون حول اللواء خليفة حفتر لأسباب قبلية او علاقات ومصالح خاصة، ومعهم بعض الميليشيات المحلية التي لها مصالحها المشروعة وغير المشروعة. وهؤلاء لم يحققوا إنجازاً عسكرياً يُذكر على الارض طوال 18 شهراً، لا في بنغازي التي هي في المنطقة الشرقية ولا في المنطقة الغربية. ولولا الدعم العسكري الخارجي والدعاية الإعلامية التي تقوم بها المنابر الموالية لهم، لاندثر الجيش منذ شهور.
(2)
العامل الأكثر أهمية وحسماً في المشهد ان الخريطة السياسية الليبية طرأ عليها تغيير بمضي الوقت. فلم تعد الصورة مقصورة على جبهة في الشرق على رأسها اللواء حفتر وخاضعة لنفوذ مجموعة «الكرامة» ومجلس النواب وحكومة عبد الله الثني، وأخرى في الغرب خاضعة لنفوذ «فجر ليبيا» و»المؤتمر الوطني» وحكومة خليفة الغويل. ذلك ان الحوارات التي تمت خلال الاشهر الاخيرة خصوصا الذي جرى في الصخيرات بالمغرب، افرزت وضعاً جديداً غيّر من معالم الاستقطاب القائم.
وعلى حد تعبير أحد وثيقي الصلة بالمشهد، فان التباين والانقسام إزاء الحلول السياسية أو الحسم العسكري شمل الجميع، بحيث لم يعد هناك مكون سياسي أو بلدي او اجتماعي في الشرق والغرب الا وانقسم اعضاؤه وتوزعوا على المعسكرين بين فريق أحدهما يؤيد الاتفاق السياسي ويحبذ الوفاق الوطني، ويعتـــبر أن ذلك هو المخــــرج الوحيد للأزمة، والثاني لا يحدّد بديلاً عن الحسم العسكري لاستئـــصال الارهــــاب في جانب وما اعتـــبر ثورة في الجانب الآخر.
في هذا الصدد، ذكر الباحث الليبي اسماعيل القريتلي أن في المنطقة الغربية اتضح تأثير حوار الصخيرات على خريطة التحالفات الجهوية والسياسية. فنشأ تيار يقوده أعيان ورجال اعمال وقادة سياسيون من مصراتة وكان محسوباً على النظام السابق في بداية الثورة ولكنهم شاركوا في دعمها بحيث أصبح لهم تأثير على تشكيلات عسكرية كبرى في المدينة. هذا التيار استطاع أن يعيد علاقة مصراتة مع المناطق التي تناهضها مجموعات في «فجر ليبيا».
فعقد ممثلوه مصالحات ولقاءات في ورشفانة والزنتان ومناطق أخرى في باطن الجبل. ودعم عديد من محاولات الصلح بين ورشفانة والزوالية ومناطق عدة في الجنوب الغربي. هذا التيار عارض التوقيع على مشروع الحل الذي قدّمه المبعوث الدولي برناردينو ليون في مواجهة تيار آخر في المؤتمر الوطني أيّده.
وذلك لا يختلف كثيراً عن الحاصل في معسكر «الكرامة» المقابل، حيث الانقسام ظاهر في مجلس النواب بطبرق. وبالاطلاع على ما يدونه بعض أعضائه، يتضح أن هناك إعادة تشكيل في تحالفاتهم، فهناك انقسام داخل الكتلة المؤيدة لتحالف القوى الوطنية وخلاف واضح بين وفد الحوار (الذي شارك في مؤتمر الصخيرات) ولجنة المستشارين التي تمّ حلها من قبل رئيس مجلس النواب الذي أيّد فكرة التوقيع على مشروع المبعوث الدولي. على صعيد آخر، فإن الفيدراليين في مجلس النواب (الذين يدعون الى حكم ذاتي في برقة) يحاولون إعادة تنظيم صفوفهم، ويسعون لطرح رؤية يصل التصعيد اليها إلى حد تشكيل حكومة لإقليم برقة، وإعادة ترتيب موارده وقواته العسكرية والأمنية.
(3)
التباين الأخطر والأقوى تأثيراً حاصل في مواقف الخارج وليس الداخل. ذلك أن دول الإقليم المحيطة منقسمة بدورها بين طرف يدعو إلى الحل السياسي الذي تشترك فيه كل الأطراف تقوده قطر وتركيا ومعهما الجزائر والمغرب والسودان. ودول أخرى تنحاز إلى طرف واحد يتمثل في معسكر «الكرامة» الذي يقوده اللواء حفتر وتقوده مصر والإمارات. وكل طرف يستخدم أوراق الضغط الديبلوماسي وغير الديبلوماسي لتعزيز موقــــفه. فالأولون يعتبرون التوافق الوطني المتكافئ هو الحل، والآخــــرون يشددون على أن مكافحة الارهاب تمثل اولوية قصوى لديهم.
خـــبراء الشأن الليبي الذين تحــــدثت اليهم يلفتون النظر في هـــذا السيــاق الى الملاحظات الــتالية:
ـ إن حالة التفكك الحاصلة في البلاد لم تمكّن تنظيم «داعش» من التمدد على الارض فحسب، ولكنها أتاحت الفرصة لأنصار النظام السابق لكي يرفعوا أصواتهم في مناطق عدة ـ طبرق وبنغازي في مقدّمتها ـ مطالبين بإطلاق سراح نجل القذافي سيف الاسلام، وتمكينه من حكم ليبيا، كما طالبوا بإطلاق سراح رموز نظام القذافي الذين يحاكمون في غرب ليبيا بدعوى أنهم من الشخصيات الوطنية، ولم تقابل تلك الدعوات باي اعتراض.
ـ إن الصراع السياسي يستأثر بالاهتمام الذي صرف الانتباه الى العنف العرقي الحاصل في منطقة الكُفرة او الخلاف الحاصل بين شيوخ قبائل المنطقة الشرقية حول مناطق نفوذها، او الوقيعة بين الشرق والغرب والادعاء بأن بعض سكان الغرب من أصول تركية وليسوا مواطنين أصلاء.
ـ إن مشروع اللواء خليفة حفتر الاساسي يقوم على استبعاد الحل السياسي وتجميد المؤتمر الوطني. وبرغم إعلانه في بداية عملية الكرامة (16 أيار 2014) انها ليست انقلاباً وان الجيش لن يمارس السياسة، الا انه يسعى مع انصاره الآن الى تشكيل مجلس عسكري برئاسته لممارسة السلطة في ليبيا.
ـ إن التركيبة القبلية والعرقية توفر لليبيا وضعاً شديد الخصوصية، يختلف عن أي وضع آخر في دول الجوار. وينبه هؤلاء الى صعوبة استنساخ النموذج المصري الذي يحاول البعض اقتباسه ونقل صيغته وصراعاته الى الساحة الليبية.
ـ أخيراً يذكر اولئك الخبراء بأن الثورة الليبية التي انطلقت في شباط العام 2011 تمثل أحد تجليات «الربيع العربي» ومحاولات خنقها او إجهاضها ليست بعيدة تماماً عن مشروع تصفية «الربيع العربي» وإزالة آثاره الذي حقق نجاحات مشهودة في دول عربية أخرى.