افراسيانت - معن بشّور - هل يخطر ببال لبناني واحد اليوم ان يرى فرقة كوماندوس إسرائيلية واحدة تنزل في مطار عاصمته لاربعين دقيقة وتحطم ١٣ طائرة من طائرات أسطوله التجاري ( طيران الشرق الاوسط ) بالكامل ثم تغادر دون أية مواجهة ( ولابد من التنويه هنا الى ذلك الرقيب الشجاع في الجيش اللبناني الذي أطلق رصاصات من بندقيته في تلك الليلة فتمت محاكمته وفصل من الجيش )....
بل هل يمكن لإسرائيلي واحد ان يتخيل اليوم ان بإمكان جيشه " الذي لا يقهر" ان ينفذ عملية ناجحة في مطار رفيق الحريري الدولي كما فعل ذات ليل في ٢٨ كانون اول / ديسمبر عام ١٩٦٨ .
وهل يستطيع لبناني او إسرائيلي ان يجد جواباً واحداً على سبب استحالة تكرار عملية نفذها الكوماندوس الإسرائيلي قبل ٤٦ عاما ً الا بوجود مقاومة لم تنجح في ردع تل أبيب من الاستخفاف بلبنان فقط ، بل أحدثت تغييرا ً جوهريا ً في معادلة الصراع مع العدو ما زالت تداعياته تتصاعد داخل كيانه نفسه .
أسئلة يطرحها اللبنانيون جميعا ، ومعهم الأشقاء العرب وأحرار العالم ، وهم يتذكرون حدثا ًجللاً في إطار مواجهاتهم مع العدو ، بل يخرجونه من غياهب النسيان ، كأحد عنوانين مرحلة كان العدو فيها لا يرى ان احتلال لبنان يحتاج الى اكثر من كتيبة مجندات على دراجات هوائية ، كما قال موشيه دايان وهو المزهو " بانتصاراته" في سيناء والجولان والضفة الغربية قبل عام ونصف على عمليته "الباهرة " في مطار بيروت .
بل انها أسئلة يطرحها اللبنانيون ، فيما أبواب الحوار بين ساستهم المتنازعين تنفتح من جديد ، و تعيد النقاش الموضوعي الحقيقي الى مربعه الاول .
هل يمكن للبنان ان يتفادى عملية صهيونية كعملية مطار بيروت دون مقاومة ، وهل يمكن له بدون معادلة شعب وجيش ومقاومة ان يحول دون غزو كحرب اذار/ مارس ١٩٧٨ ، ثم كالحرب التي وصفت بانها الحرب العربية الإسرائيلية الرابعة في حزيران ١٩٨٢ ، وادت الى احتلال ثلث مساحة لبنان ، بل هل يمكن للبنان ان يوفر لجنوبه المتاخم لشمال فلسطين آمنا وسلاما وهناء وعمرانا كالذي يشهده منذ التحرير عام ٢٠٠٠ لولا إدراك العدو انه سيواجه قوة رادعة وفاعلة تتجسد بالمقاومة المتكاملة مع الجيش ، والمستندة الى بيئة شعبية حاضنة ، والى عمق استراتيجي ممتد ، سعى الأعداء ويسعون منذ سنوات الى تمزيقه .
لكن ما حصل في مطار بيروت الدولي كان اكثر من عملية صهيونية مدبرة ، واكثر من اختراق امني وعسكري وسياسي لسيادة دولة مستقلة لم تكن تملك حتى قرار الدفاع عن نفسها ، لقد كان منعطفا تاريخيا ً كبيرا ً في حياة لبنان ، والى حد ما في حياة المنطقة بأسرها .
فلقد جاء ذلك العدوان ليكشف بكل وضوح ان تل أبيب ليست بحاجة الى ذرائع كي تفرغ أحقادها على لبنان ، إذ لم تكن هناك قواعد فدائية فلسطينية على أرضه يومذاك ، ولا بالطبع مقاومة لبنانية مسلحة تناوب وتناوش على الحدود ، بل ان هدفها الدائم هو الحرب على لبنان النقيض في نسيجه المتنوع للنموذج الصهيوني العنصري، وعلى لبنان المليء باحتمالات المواجهة الثقافية والفكرية والإعلامية للعدو الصهيوني ، بل ان هدفها ايضا الحرب على لبنان المنارة السياحية في شرق المتوسط والذي لم يتمكن العدو من منافسته على مدى عشرين عاما ً ( ١٩٤٨- ١٩٦٨) رغم كل ما أحيط به من دعم واهتمام ودعاية .
ولعل في اختيار يوم سياحي يقع في قلب فترة الأعياد لشن ذلك الهجوم على مرفق سياحي هام كالمطار هو أكبر دليل على خشية هذا العدو من السياحة اللبنانية ، وهو ما لاحظه كثير من اللبنانيين في مواعيد تفجيرات عدة شهدها بلدهم ، او تهديدات ، عشية كل عيد من الأعياد التي يحتفلون بها.
كما ان ذلك العدوان ، الذي وقع خلال العطلة الدراسية ، لم يمر دون وقفة طلابية كانت الأبرز والأطول والاضخم في حياة الحركة الطلابية اللبنانية .
فمع عودة الدروس الى جامعات لبنان ومدارسه بادرت القيادات الطلابية في ٣/١/١٩٦٩ بالدعوة الى إضراب مفتوح استمر لاكثر من ستة أسابيع ، وشمل كل لبنان ، وتعاون فيه طلاب اللبنانية مع الامريكية ، وطلاب الجامعتين مع طلاب العربية واليسوعية ، وتلاقت جميع الأحزاب من أقصى اليمين الى أقصى اليسار ، وكانت غضبة لبنانية عارمة لم يشهد لبنان مثيلا لها الا في الأيام التي سبقت الإعلان عن استقلاله عام ١٩٤٣ ، بل غضبة وصفها يومها المشاركون فيها أنها " اكثر من انتفاضة واقل من ثورة " .
بدون شك كان شباب لبنان متأثرا بما جرى قبل اشهر في جامعات فرنسا تحديدا ، و الغرب عموما ً، من حركات طلابية واسعة ، لكن ما حرك الانتفاضة اللبنانية الطلابية ايضا كان الجرح الوطني الذي اخترق القلوب والعقول ، كما المشاعر والوجدان والإحساس بالكرامة الوطنية.
لم يكن امام الطبقة السياسية يومها الا الانصياع ، فاستقالت الحكومة " الرباعية " في ١٥/١/١٩٦٩ ، ولكن حركة الشباب اتخذت منحى آخراً ، فقد ترجم بعضهم شعار " تسليح القرى الحدودية " بتشكيل فرق الدفاع الذاتي في الجنوب ، واستقبال قواعد العمل الفدائي الفلسطيني ( التي لم تكن موجودة قبل العدوان ) ليقدم في صفوفها شهداء ك امين سعد ( الأخضر العربي - شبعا ) وحسين علي قاسم صالح في مزرعته حلتا في كفر شوبا ، ثم واصف شرارة في بنت جبيل ، وعبد الأمير حلاوي ( ابو علي ) في كفر كلا ، وعائلة شرف الدين التي استشهد منها الأب علي ولداه عبد الله وفلاح ومعهم المدرس محمود قعيق في الطيبة في ١١/١/١٩٧٥ وقبلهم شباب من طرابلس محمد ديب الترك ، احمد هوشر ، ومحمد حمود استشهدوا في ١٢ ايار ١٩٧٠ على ارض كفر حمام و الهبارية ( العرقوب) وهم يقاومون العدوان الإسرائيلي يومها ، وطبعا التحق ايضا شباب لبناني من الجامعات وغيرها بمنظمات العمل الفدائي في أغوار الاردن ، ومعسكرات التدريب في سورية والعراق .
ان هؤلاء الشباب شكلوا بحق طلائع المقاومة اللبنانية التي تطورت واتسعت وتبلورت حتى وصلت الى ما وصلت اليه في تحرير الارض ( ٢٠٠٠) وردع العدوان (٢٠٠٦) .
وكما أطلقت تلك العملية بذور المقاومة المستمرة ، أطلقت في الوقت ذاته نواة وحدة وطنية حقيقية ، عمادها شباب الوطن ، وأساسها الدفاع عن الوطن...
لم ينحصر الشعور الوطني بجامعات لبنان ومدارسه وحدها ، بل امتد الى كل بقاع الارض اللبنانية وجهاتها ، الى المدن والأرياف ، الى الجبال والسهول ، الى المعامل والمصانع ، وبدا الشارع اللبناني شبه موحد على نحو أنعش الأمل بلبنان وطني ديمقراطي عربي متجاوز للعصبيات الطائفية والمذهبية .
وجاء الحريق في ربيع ١٩٧٥ ، وتضافرت عوامل داخلية وخارجية على اشعاله ، لكن أحدا ً ممن عاشوا تلك المرحلة لا يستطيع ان ينكر ان احد اهم أسباب اشتعال الحريق هو خشية الطبقة السياسية الحاكمة ان يفلت الشارع من سيطرتها ، وان يخبو نجم أركانها ، وان ترى لبنان جديدا ً يبنى بسواعد أبنائه وعقولهم .
ورغم ما كان يبدو من خلافات على السطح بين رموز تلك الطبقة ، لكن بقي هناك رابط خفي يحرك سياساتهم إذ تعاونوا معا على محاصرة الروح الجديدة ، وتولى كل واحد منهم أمرها في منطقته ، فيما لم تكن قيادات المرحلة الجديدة على قدر من الخبرة والتجربة والاستقلال عن المؤثرات الخارجية ما يمكنها من إفشال مخططات المتربصين بوحدة لبنان وديمقراطيته وعروبته وتطلعات شبابه.
يبقى يوم ٢٨ كانون الأول ، رغم كل محاولات طمسه بكل دلالاته السيادية والوطنية وبكل تداعياته المتمثلة بإطلاق روح الوحدة الوطنية و المقاومة معا ، يوما فاصلا في حياة لبنان .
وإذا كانت الآمال التي انعقدت على تداعيات ذلك اليوم والتفاعلات التي أطلقها قد أحبطت ، وعلى الرغم من انه يبدو بعيدا ذلك اليوم الذي نرى فيه شباب لبنان قد اتحدوا من جديد ، محطمين قيود التعصب والتمذهب والتحزب ، فان تسليم اللبنانيين بحماية المقاومة ، والتوحد حولها ، متجاوزين ما بينهم من ملاحظات او تحفظات متصلة بالأداء السياسي لفريقها ، يبدو اليوم الخطوة الاولى في استيلاد لبنان الجديد بكل أبنائه و لكل أبنائه ...
فلبنان العربي الديمقراطي الموحد ليس مكسبا ً لبنانيا ً فقط ، بل هو مكسب لكل العرب ، وقد انتقلت لديارهم أمراض سبق ان فتكت بلبنان . كما ان لبنان القوي ليس قويا ً لنفسه فحسب بل هو قوة لكل العرب ...
فهل تستفيد حوارات العام ٢٠١٥ من دروس بدات مع نهايات العام ١٩٦٨ ؟!!