افراسيانت - أشرف الصباغ - كشفت المناظرة بين مرشحي الرئاسة الأمريكية هيلاري كلينتون، ودونالد ترامب عن جملة من الحقائق التي تؤكد على ثوابت السياسة الأمريكية.
كل التجارب والخبرات أكدت على أن الولايات المتحدة تجاوزت كونها دولة مؤسسات، وأصبحت مؤسسة بحد ذاتها. وهذا يعني الكثير في عالم السياسة والاقتصاد والدبلوماسية، والحرب أيضا. وبالتالي، فالخلافات والاختلافات والتباينات بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، هي مجرد صراع على السلطة وتباين في الآليات والطرق والأساليب. ولكي لا تكون الأمور مجرد تبسيط أو تعميم، فالولايات المتحدة أكبر قوة اقتصادية وعسكرية في العالم. ومن الصعب أن يختلف الجمهوريون أو الديمقراطيون على قضايا جوهرية أو مفصلية تمس البنية الأيديولوجية لتلك المؤسسة الأضخم في تاريخ البشرية، من حيث الاقتصاد والعسكرة، والفوائض المالية التي باتت تعبر أراضي الولايات المتحدة إلى مناطق جغرافية أخرى، في أحدث أشكال الاستغلال الاقتصادي – الاجتماعي للشعوب الأخرى، وبموافقة أنظمتها السياسية.
المرشح عن الحزب الجمهوري دونالد ترامب، تناول مجددا الترسانة النووية الروسية. ولكي يكون كلامه مقنعا، أكد على أن الترسانة النووية الروسية تتفوق على مثيلتها الأمريكية، لأن الولايات المتحدة غير مهتمة بتجديد وتحديث ترسانتها. بل وذهب إلى أن روسيا تعمل على توسيع قدراتها النووية، واصفا التهديدات النووية، بأنها أكبر وأخطر التهديدات. ثم انتقل إلى أن الوضع المثالي، هو التخلص من هذا السلاح والاستغناء عنه، ولكنه في الوقت نفسه أعلن أنه لن يقوم بتقليص ترسانته أو التخلص منها أولا!
المرشح الجمهوري يتحرك مثل لاعب السيرك، أو ممثل الإعلانات. فهو يصف روسيا بالقوة النووية الحديثة والضخمة التي تتفوق على أمريكا، ثم يتحدث عن التهديدات الكبيرة والخطيرة للسلاح النووي، وينتقل بعد ذلك إلى "العامل الإنساني الحضاري العظيم" بأنه يجب التخلص من هذا السلاح "الضار". ثم يعود ليؤكد أنه من الصعب التخلي أولا عن هذا السلاح، لأنه ضروري كورقة يجب أن تبقى دوما على الطاولة.
وفي الحقيقة لا يختلف الديمقراطيون كثيرا عن الجمهوريين في التعامل مع السلاح النووي وأسلحة الدمار الشامل الأخرى. لكن الغريب أنهم يصدِّرون صورة عدوانية أولا إلى الرأي العام الداخلي والخارجي بأن روسيا تمسك دوما بالهراوة النووية، وأنها "متفوقة"، وبالتالي، فمن الطبيعي أن نقوم ليس فقط بتطوير وتحديث الترسانة النووية الأمريكية، بل وبنشرها في دروع ومنظومات وتوسيع رقعة وجودها في دول أخرى. هذا هو الفخ الذي تقع فيه وسائل الإعلام التي تجيد التصفيق والتطبيل وترديد الدعاية الغربية، والأمريكية تحديدا، بأن روسيا متفوقة في السلاح، وبالذات في السلاح النووي. وبالتالي، علينا ألا نشكو في ما بعد من تطوير الولايات المتحدة أسلحة الدمار الشامل ونشر الدروع الصاروخية وتوسيع أحلافها نحو حدود روسيا المباشرة أو في مناطق نفوذها بالمعنى السياسي والجيوسياسي.
وإذا توخينا الدقة، فروسيا لم تتاجر بأسلحتها النووية، وهي تقوم بتجاربها وفق المواثيق الدولية. ولم تهدد أحدا بالسلاح النووي، ولم تستخدمه لا في نهاية الحرب العالمية، ولا بعدها. وذلك على عكس دول أخرى كثيرة تفضل الحديث عن قدراتها النووية وفي نفس الوقت عن "رسالاتها الإنسانية وللإنسانية"، بينما يموت الأطفال والنساء من قصف طائراتها وأسلحتها الأخرى.
ليست هذه المرة الأولى التي يتحدث فيها ترامب عن الأسلحة النووية الروسية. ففي 16 يونيو/ حزيران 2016 ركز ترامب في كلمة له أمام الناخبين في مدينة أطلنطا بولاية جورجيا، على قضية التسليح. وزعم أن الترسانة النووية الأمريكية أضعف من الترسانة الروسية. ووجه انتقادات مبطنة إلى إدارة أوباما بقوله: "إن بوتين واظب على تقوية قواته العسكرية. إن قواته العسكرية أقوى كثيرا. إنه يهتم بالسلاح النووي وينشغل به ونحن لا ننشغل بشيء".
من الطبيعي أن يلتقط العسكريون الأمريكيون الصقور مثل هذه التصريحات ليواصلوا الحديث عن التهديدات النووية الروسية، وضرورة ليس فقط حصار روسيا وتدجينها وفرملتها، بل وأيضا ضرورة زيادة النفقات العسكرية من أجل التغلب على "الهراوة" النووية الروسية. فقد أكد وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر أن بلاده ما زالت بحاجة إلى الأسلحة النووية على الرغم من انتهاء الحرب الباردة، معتبرا أن وقوع ضربة نووية روسية أو كورية شمالية يعد خطرا واقعيا. وقال إن "السيناريو الأكثر احتمالا اليوم يتمثل ليس في تبادل الضربات النووية وفق السيناريو الكلاسيكي الذي كان متوقعا خلال الحرب الباردة، بل في هجوم نووي أقل نطاقا، لكنه غير مسبوق ومروع، تشنه روسيا أو كوريا الشمالية بصورة غير عقلانية، بغية إجبار خصم يملك قدرات نووية أكبر على التراجع أو التخلي عن أحد حلفائه... إن الولايات المتحدة ستعيد النظر في أساليب الناتو في المجال النووي والإجراءات المتخذة من قبل الحلف على طول سواحل المحيط الأطلسي، من أجل رفع مستوى التكامل بين أساليب الردع من قبل القوات النووية والعادية"... "روسيا تستعرض عضلاتها النووية.. الولايات المتحدة بحاجة إلى ترسانتها النووية من أجل ردع المعتدين الروس والمعتدين المحتملين الآخرين لكي لا يتصورون أن بإمكانهم التهرب من الانتقام الأمريكي".
خطاب في غاية العسكرة والعدوانية والعنجهية يعتمد على تصريحات ساسة يتاجرون بالحلم الأمريكي، وبكلمات معسولة عن "الرسالة الإنسانية" للولايات المتحدة الأمريكية، وربما هذا ما رأيناه في اليابان وفيتنام، وما نراه الآن في أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا، وهي الأمثلة الصارخة التي تختلف من حيث الشكل عن أمثلة أخرى تتعلق بالنهم الأمريكي لامتصاص ليس فقط خيرات الشعوب الأخرى، بل واستغلال قواها العاملة وكوادرها.
عموما، فقد كشف البنتاغون أنه يخطط لإنفاق 108 مليارات دولار خلال السنوات الخمس المقبلة على صيانة وتحديث القدرات النووية. أما معهد استوكهولم لأبحاث السلام فقد أشار في تقريره السنوي الأخير إلى أن الولايات المتحدة تنوي إنفاق 348 مليار دولار بين عامي 2015 و2024، في المحافظة على أسلحتها النووية وتحديثها. وقال الخبير هانس كريستينسين الذي شارك في إعداد التقرير إن "خطة إدارة الرئيس أوباما لتحديث الترسانة النووية الأمريكية تتنافى مع وعده بتخفيض الأسلحة النووية وتقليل دور السلاح النووي في استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة".
فعن أي شئ يتحدث ترامب وكارتر؟ عن أي تهديد نووي روسي بالضبط؟!