افراسيانت - مهمة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الرافع للواء الإصلاح ومحاربة الفساد تزداد صعوبة، بين شارع سئم الوعود وبدأ يطالب بنتائج ملموسة ويلح على فتح ملفات فساد بعينها، وقوى ضغط وممانعة للإصلاح تستخدم كل نفوذها وسلطتها لحماية كبار رؤوس الفساد والحفاظ على مصالحهم.
فقد عادت المظاهرات الاحتجاجية بقوة إلى المدن العراقية مسلّطة ضغطا جديدا على رئيس الوزراء حيدر العبادي الذي بدا عاجزا عن المضي بعيدا بإصلاحاته في ظل الكمّ الهائل من العراقيل التي يضعها في طريقه شركاء له في العملية السياسية متخوفون من المحاسبة وحريصون على حماية مصالحهم، وأغلبهم وأكثرهم نفوذا، من ينتمون إلى ذات العائلة السياسية الشيعية التي ينتمي إليها العبادي نفسه، بل إلى حزبه، حزب الدعوة الإسلامية بزعامة نائب رئيس الجمهورية المقال، ورئيس الحكومة السابق نوري المالكي.
ورفع المتظاهرون في العاصمة بغداد سقف مطالبهم عاليا بتعرضهم من خلال شعاراتهم لنظام المحاصصة الطائفية المطبّق في البلاد معتبرين أنه عائق رئيسي أمام الإصلاح ومطالبتهم بفتح ملفات فساد بعينها قالوا إنه يجري تجاهلها بسبب المحاصصة.
وصب منظمو التظاهرات في بيان جام غضبهم على مجلس النواب قائلين إن “الجهد الحقيقي والملموس في مكافحة الفساد غائب عن المجلس الذي لم يقترب من ملفات الفساد وذلك نتيجة لتوافقات المحاصصة الطائفية، التي امتدت إلى محاصصة الفساد”.
وعكس البيان خيبة أمل شرائح واسعة من العراقيين من مجلس النواب على خلفية اتهامات له بالتنكر لمطالب الناخبين الذين صوتوا لنوابه على أساسها، وتحوّله إلى مدافع عن مصالح جماعات سياسية وشخصيات متنفذة، خصوصا بعد تصويته مؤخرا على سحب التفويض الممنوح لرئيس الوزراء باتخاذ قرارات وإجراءات إصلاحية.
وكان التفويض البرلماني قد مُنح للعبادي تحت ضغط الشارع العراقي الذي خرج الصيف الماضي في حركة احتجاج غير مسبوقة على تردي الأوضاع في البلاد وانعدام الخدمات وارتفاع نسب الفقر والبطالة إلى مستويات مفزعة.
واعتُبر منح ذلك التفويض بمثابة انحناءة ظرفية من قبل الأحزاب الدينية الشيعية المسيطرة على مقاليد الحكم والتي توجه الاتهامات لكبار قادتها ورموزها بالضلوع في ملفات فساد كبرى، وبالمسؤولية عن حالة شبه الانهيار التي يعيشها العراق اليوم.
وتمتلك الأحزاب الدينية الشيعية المنضوية في ائتلافات نيابية غالبية كاسحة في مجلس النواب لم تتردد في استخدامها لعكس الهجوم على رئيس الوزراء الذي أظهر عزما على الإصلاح. ومن المفارقات تزعّم ائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي لعملية سحب التفويض البرلماني من العبادي الذي ينتمي إلى حزب الدعوة المكون الأساسي في الائتلاف المذكور.
وطالب منظمو تظاهرات الأمس البرلمان بفتح تحقيقات عاجلة في مجموعة من الملفات المحدّدة بدا إلى حدّ الآن أن فتحها يحرج بشكل مباشر شخصيات نافذة مثل صفقة الفساد في الأسلحة الروسية، والتي كانت قد عقدت في عهد رئيس الوزراء السابق نوري المالكي وتبين أن فسادا يقدر بمليارات الدنانير قد شابها، وعطل إتمامها، فيما كانت القوات المسلحة في أمّس الحاجة إليها لمواجهة مخاطر داهمة، تجسّدت لاحقا في احتلال تنظيم داعش لأجزاء واسعة من البلاد.
كما طالب المحتجون بفتح ملفات الاستيلاء على عقارات الدولة، ومشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية، وأجهزة كشف المتفجرات التي كانت حكومة نوري المالكي قد اقتنت الآلاف منها لاستخدامها من قبل السيطرات الأمنية في كشف المتفجرات التي يحاول منفذو التفجيرات إدخالها إلى المدن، ولكن تبين لاحقا أنها لم تكن أكثر من “لعب أطفال”، وأن التعويل عليها كلّف العراقيين خسائر جسيمة في الأرواح بسبب عدم قدرتها على كشف أي متفجرات وعجزها عن إحباط عدد كبير من التفجيرات حدثت فعلا في مناطق مأهولة، خصوصا ببغداد وضواحيها. وطالب المحتجون أيضا بكشف الحسابات الختامية للسنوات الماضية في ظل حديث عن ترك المالكي الميزانية جافة دون أن تكون هناك أي وثائق ومستندات تبين أوجه صرف الأموال المرصودة فيها.
وتشكّل مثل هذه المطالبات الدقيقة، وتسمية الملفات المراد فتحها بأسمائها حرجا لرئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الذي يبدو في مهمة أشبه بـ”السير على الحبال”، موزّعا بين رغبته في إحداث إصلاحات ضرورية وحيوية لإنقاذ الدولة من الانهيار، وبين ضغوط كبار أصحاب النفوذ من زعماء أحزاب دينية وقادة ميليشيات.
العبادي في مهمة أشبه بالسير على الحبال موزعا بين رغبته في إنقاذ الدولة من الانهيار وضغوط كبار أصحاب النفوذ والمصالح
ويقول مراقبون إن العبادي يجد نفسه مضطرا إلى غض النظر مرحليا عن بعض ملفات الفساد المتعلّقة ببعض الشخصيات النافذة مثل سلفه نوري المالكي، مع مواصلة العمل في نفس الوقت على إضعاف هؤلاء بالبحث عن تحالفات سياسية جديدة تسنده وتقويه بمواجهتهم. لكن الإشكال الأساسي يتمثل في ضغوط شرائح واسعة من العراقيين عيل صبرها من طول معاناتها وسوء أوضاعها.
وعلى هذا الأساس يتوقّع أن ينطلق الشارع العراقي في موجة جديدة من الاحتجاجات قد تبلغ درجة من الحدّة والانتشار تتجاوز تلك التي شهدتها أغلب مناطق البلاد خلال الصائفة الماضية.
وبعد الاحتجاجات العارمة التي هزّت المدن العراقية الصيف الماضي ومثلّت موجة الحرّ وانقطاعات الكهرباء ورداءة سائر الخدمات، السبب المباشر في إطلاقها، دخل الشارع العراقي في هدنة نسبية، بعد أن أظهر رئيس الوزراء استجابة لمطالب الشارع معلنا إطلاق حزمة من الإصلاحات بدأها “بقوة”، حين أعلن إلغاء مناصب نواب رئيسي الحكومة والجمهورية وتخفيض أعداد حمايات كبار المسؤولين وتخفيض رواتبهم، إلاّ أن العراقيين سرعان ما بدأوا يتبينون ضيق أفق الإصلاح ومحدوديته في ظلّ وجود مراكز قرار أقوى من سلطة الدولة بحدّ ذاتها، ما جعل بعض قرارات العبادي تظلّ إلى اليوم مجرّد حبر على ورق.
وقطع رئيس الوزراء السابق نوري المالكي مؤخّرا خطوة جديدة باتجاه تقييد يد رئيس الوزراء الحالي عن الإصلاح بأن استخدم الثقل النيابي لكتلته دولة القانون في سحب التفويض البرلماني الممنوح له، الأمر الذي سيحتم على العبادي العودة إلى مجلس النواب في أي قرار يتعلّق بالإصلاح، ما يعني تفصيل إصلاحات سطحية على مقاس النافذين من قادة أحزاب دينية وميليشيات، وأغلبهم من المتهمين أصلا بالفساد وبالمسؤولية عما آلت إليه أوضاع الدولة العراقية من شبه إفلاس وانهيار على مختلف المستويات.
وتدلّ كثرة ملفات الفساد على مدى تغلغل الظاهرة في البلد على مدى سنوات، وخصوصا منذ انطلاق العملية السياسية الحالية والقائمة على المحاصصة الطائفية وتتصدرها أحزاب دينية شيعية يتولّى قادتها أهم المناصب السياسية. ومع كثرة هذه الملفات تثار الشكوك بشأن إمكانية معالجتها جميعا وتوفّر الآليات والمؤسسات اللازمة لذلك وخصوصا القضاء الشفاف والنزيه، في ظل اتهامات للقضاء نفسه بالتورّط في الفساد.
والعراق من بين أكثر دول العالم فسادا، بحسب مؤشر منظمة الشفافية الدولية على مدى السنوات الماضية، وترد تقارير دولية على الدوام بشأن عمليات هدر واختلاس ضخمة. وينعكس الفساد بشكل مباشر على حياة المواطن العراقي حيث استشراء الفقر وارتفاع نسبة البطالة وسوء الخدمات بل انعدامها.