افراسيانت - مخيم قلنديا - "القدس" دوت كوم - من واصل الخطيب - كان مشهد خروج الناس من منازلهم في حارة الجبل بمخيم قلنديا عنوة بعد آذان الفجر، يطرق جدران الذاكرة الجمعية بقوة ليعيد اليها ما حل بالشعب الفلسطيني من كارثة يندى لها جبين التاريخ في العام 1948، ليصبحوا لاجئين في وطنهم وفي بلاد الشتات.
انه الابتعاد الطوعي عن الموت، هذا ببساطة ما يمكن ان يقال في عملية اخلاء سكان حارة الجبل فجر امس من بيوتهم، والطلب اليهم بالنزول الى ساحة ملعب كرة القدم حتى انتهاء مشهد الانتقام من فصول مسرحية الليلة الدامية التي استهدفت على وجه الخصوص عائلة الاسير محمد حسني ابو شاهين منفذ عملية قتل المستوطن قرب قرية دير ابزيع غرب رام الله قبل نحو خمسة اشهر.
بدأت فصول المسرحية، في حدود الساعة الواحدة والنصف من بعد منتصف الليلة الماضية، اذ احتشد مئات الجنود الاسرائيليين على المداخل المؤدية الى المخيم، وفي اطار خطة محكمة عسكريا، نفذت هذه القوات هجوما مباغتا بعد ان كانت امهلت عائلة شاهين مدة "48" ساعة لاخلاء منزلها بهدف هدمه، لكن الحشود العسكرية كانت تقول ان المخيم قلعة عصية على الاقتحام.
عشرات الشبان انتشروا بسرعة البرق في ازقة حارة الجبل، للتصدي لحشود الجيش بالسلاح الوحيد الذي يمتلكونه وهو الحجارة، وتمترسوا عند منزل الاسير ابو شاهين مستخدمين متاريس حديدية لا يمكن لها ان تعيق جنودا على اهبة الاستعداد لارتكاب مجزرة.
اصوات التكبير والتهليل كانت تعلوا وتنخفض في الهزيع الاخير من الليل، الا ان صوت الرصاص الحي كان قادرا على اخفائها، وخاصة عندما يخترق الاجساد الغضة ويتركها تنزف على قارعة الطريق مانعا سيارات الاسعاف من الوصول اليها.
اول الغيث قطرة، شهيد على عتبات حارة الجبل، انه ليث اشرف مناصرة "21 عاما" ذو البشرة الشقراء والذقن الناعمة والجسد الممتلئ، فتعلوا الصيحات والتكبيرات والصراخ على سيارات الاسعاف لنقله الى المستشفى، لكن الروح فاضت الى بارئها ولفظت الانفاس الاخيرة على بوابة الدار العتيقة التي ذرفت دموع الليل على ابنها الذي كان يحلم بالزفاف.
وتشتد الازمة، فيصحوا الاطفال الصغار في حارة الجبل على ازيز رصاص ال" ام 16" ، تتسمر الطفلة البريئة اسمهان وهي في الصف الثاني الابتدائي وتلتصق بوالدها وتحتضنه بقوة وهي ترتجف، شربت لترا من الماء بعد ان جفت الدماء في عروقها، ولم تفلح كل المحاولات لتهدئتها بعد ان لاحظت بحدسها القوي اشعة الليزر الحمراء تنبعث من بنادق الجنود الذين اقتحموا ساحة منزل جدها وحولوها الى ساحة قتال.
اقتربت الساعة من الثالثة ومع كل ثانية يتقدم الجنود اكثر فاكثر نحو منزل الاسير ابو شاهين، وعلى حين غرة، خرجت مجموعات كبيرة من الجيش من معظم زقاق الحارة لتطبق عليها كفكي كماشة وتحكم حصارها على المنطقة.
هنا ازفت ساعة الحقيقة بيت الاسير سيتحول الى ركام وغبار بعد دقائق، وبالفعل عم السكون المكان ولم نعد نسمع الا لهاث الجنود و"خشخشة" مخاشيرهم، ووقع بساطيرهم، واشعة الليزر التي تخترق الشبابيك. ليصار فيما بعد الى عزل المنطقة في مربع امني والطلب الى السكان العزل عبر مكبرات الصوت باخلاء منازلهم والنزول الى ملعب كرة القدم في قلب المخيم الذي يودع كل بضعة اشهر شهيدا او اثنين.
"على كل سكان منازل الحارة الخروج منها والنزول الى الملعب فورا"، عبارة كررها الضابط الاسرائيلي بالعربية ثلاث مرات مهددا باستخدام القوة في حال عدم تنفيذ الاوامر.
خرج الناس من بيوتهم بملابس النوم اطفال ونساء ومسنون رجالا ونساء، تحت بنادق الجنود، التصقوا بالجدران وهم يسيرون بخطى ثقيلة حتى وصلوا الى ساحة الملعب. وفي هذه الاثناء، كان احمد ابو العيش قد لفظ انفاسه الاخيرة بعد قتله برصاصة في الرأس وثلاث في الظهر، فيما اصيب عشرات آخرين بالرصاص الحي ونقلوا الى المستشفيات لتلقي العلاج.
ظلت الطفلة اسمهان الخطيب متسمرة في حضن والدها وكلتا عيناها تبرقان وتنظران من شقوق الشباك الى الخارج علها تعثر على امل بالنجاة من هذا المشهد الذي لن يفارق ذاكرتها بعد اليوم والى الابد.
وقبل ان تتشبث اسمهان اكثر بقميص والدها، ضغط الضابط الاسرائيلي على زر التحكم، فانفجر المنزل المتداعي اصلا، ليهتز المخيم باسره من دوي المتفجرات المحرمة دوليا، وتناثرت حجارة منزل ابو شاهين الذي يسكن في الدور الثالث من بيت جده الملقب "ابو جميل" رحمه الله، لتتهاوى وتتصدع ثلاثة منازل اخرى مجاورة تعود لكل من : الحاج المرحوم كامل شحام "ابو كايد" ونجليه علي واسماعيل ، والذين باتوا ليلتهم امس في العراء.
انتهت عملية الانتقام الجماعية وتنفس الجنود الصعداء ظنا منهم انهم نالوا من عزيمة عائلة الاسير ابو شاهين او سكان حارة الجبل، وانسحبوا من المخيم تحت غطاء وابل كثيف من الرصاص والقنابل، لكن اهل المخيم المتراصون والمتكاتفون، سرعان ما تحركوا مرة اخرى وهبوا للمكان المدمر لاعادة احيائه من جديد. لتبزغ شمس الصباح وقد ضمخت دماء الشهيدين مناصرة وابو العيش ثرى قلنديا، فيما خلدت اسمهان الى النوم في حضن امها لتصحوا بعد ساعة فزعة من كابوس مرعب : "يما يما الجندي على الباب".