افراسيانت - توفيق المديني - تفجرت أزمة حزب «نداء تونس» في الآونة الأخيرة، وهو الحزب الحاكم منذ نجاحه في الانتخابات التشريعية والرئاسية، والذي أصبح ممسكاً بالسلطات الثلاث، برغم الشراكة الائتلافية التي عقدها مع أحزاب «حركة النهضة الإسلامية»، و «الاتحاد الوطني الحر» و «آفاق تونس»، في نطاق الحكومة التي يقودها الحبيب الصيد. ولم يكن هذا الانفلاق الذي يشهده «حزب النداء» مفاجئاً في شيء للمتابعين والمحللين للمشهد السياسي التونسي، ذلك أن هذا الحزب الذي منحه قسم كبير من الشعب التونسي، لا سيما الطبقة المتوسطة، الأكثرية، لاعتقادها أنه الحزب الأوفر حظاً لإلحاق الهزيمة بمشروع الإسلام السياسي، صدم الشعب التونسي والرأي العام، وبطبيعة الحال قاعدته الانتخابية، حين أقدم على تشكيل الحكومة الجديدة مع «حزب النهضة الإسلامي».
وفي الآونة الأخيرة، كثرت المناظرات التلفزيونية في أهم القنوات التونسية التي تناقش أزمة الحزب الحاكم من جوانبها المختلفة، وهي حالة تعكس جو الحرية الإعلامية والسياسية الذي أصبح سائداً في البلاد، بـــيد أن هذا التناول غالباً ما لا يتطرق بصورة معمقة إلى الجذور الحقيقيــة لهذه الأزمة، والتي نرى أنها تتلخص في المسائل التالية:
أولاً: أزمة قيادة
يضم حزب «نداء تونس» نقابيين ويساريين ومنتمين سابقين إلى حزب «التجمع الدستوري الديموقراطي» الحاكم في عهد بن علي الذي حكم تونس بين 1987 و2011. لكن «نداء تونس» يتجسد في شخص زعيمه الباجي قائد السبسي، الذي يدافع عن المدرسة البورقيبية الدستورية ويسير على خطاها، وإن كان يريد أن يضفي الطابع الديموقراطي على البورقيبية الذي كان مفقودا في عهد الزعيم الراحل. والحال هذه، فقد استوعب الحزب في داخله النخب والفئات الاجتماعية التي تشاطر السبسي رؤيته لهويّة الحزب وتموقعه، لا سيما المحافظة على طبيعة الدولة المدنية ونموذج المجتمع التونسي، ومقاومة الإرهاب التكفيري، وإعادة الهيبة للدولة التونسية التي أصبحت مفقودة في ظل حكم «الترويكا» السابقة بقيادة «حركة النهضة»، فكان الرافد الدستوري/التجمعي، والرّافد النقابي، والرّافد اليساري، والمستقلون، القاسم المشترك بين هذه الروافد المنحدرة من مدارس فكريّة مختلفة وتجارب سياسية واجتماعية مختلفة، هو الشراكة في رصيد الحركة الإصلاحية التونسية وعزم الجميع على الدفاع عن المكاسب الحداثية لمشروع دولة الاستقلال والاسهام في بناء المشروع الديموقراطي.
في هذا السياق، تأسس حزب «نداء تونس» في شهر حزيران 2012، وهو حامل لأيديولوجية علمانية تؤمن بفصل الدين عن السلطة، وببناء مجتمع مدني متطور.
وكان الزعيم الذي التفت حوله الجموع الغفيرة من التونسيين هو الباجي قائد السبسي، الذي قاد الحزب إلى الفوز في الانتخابات التشريعية في 26 تشرين الأول 2014، وإلى الفوز في الانتخابات الرئاسية يوم 21 كانون الأول 2014. وحين أصــبح رئيساً للبلاد وممثلاً لجميع التونسيين، قدم استقالته من رئاسة الحزب. وكانت هناك هيئة تأسيسية للحــزب مكونة من 12شخصا تقـــود العمل اليومي للحزب، على رأسها السبسي، وأمين عام الحزب الطيب البــكوش.
وفي تشرين الاول 2012، تم تشـــكيل المكتب التنفيذي للحزب، وتوزعت تركيبة المكتب بين أربعة روافد كبرى: التجــــمعيون السابقون الذين كانوا ينتمون إلى «حزب التجمع» الحاكم ســابقاً والمنحل بقــرار قضائي في مارس 2011، والنقابيون، واليساريون، والمستقلون. والتحق بهذا المكتب التنفيذي ثمانية نواب من المجلس التأسيسي السابق. كما اتخذ رئيس الحزب آنذاك قراراً بإضافة أسماء أخرى، حتى بلغ عدد أعضاء المكتب التنفيذي قرابة المئة شخص.
وقد كان السبسي يسعى إلى استعادة الماكينة القديمة للتجمعيين ـ الدساترة، الذين يمتلكون خبرة حزبية وانتخابية عريقة، ولديهم جذور عميقة في تربة المجتمع التونسي. وسعيا منه للفوز في الانتخابات، عمل على خلق هيكل جديد أطلق عليه اسم المجلس الوطني ويضم 450 عضواً، من بينهم أعضاء الهيئة التأسيسية، وأعضاء المكتب التنفيذي، والمضافون لاحقا. كما تمت إضافة عديد من الأسماء لهذا الهيكل بمناسبة إعداد قائمات الانتخابات النيابية في شهر آب/ أغسطس 2014، التي أشرف عليها نجل رئيس الحزب، السيد حافظ قائد السبسي.
وكان واضحا من ذلك الوقت، أن الزعيم التاريخي للحزب يريد للتجمعيين أن يهيمنوا على الحزب، وأن يكون ابنه الماسك القوي بمسألة الهياكل التنظيمية له، لا سيما أنه يشرف مباشرة على هياكل 24 تنسيقية مناطقية (جهوية) بعدد محافظات (ولايات) تونس. ولا يزال حافظ السبسي (الإبن) الرئيس الفعلي لهذه الهيكلية الحزبية، التي يعود الفضل لها في فوز «حزب نداء تونس» في الانتخابات الأخيرة.
ثانياً: أزمة التوريث
بدأت معركة توريث زعامة الحزب تبرز بشكل حقيقي في صيف العام الماضي، زمن التهيئة للقائمات الانتخابية. فمن الناحية السياسية، نجد أن «الدساترة التجمعيين» الذين تمت إزاحتهم من الحكم في 2011، عملوا في الانتخابات الأخيرة بتسمياتهم المختلفة جاهدين من أجل استعادة الكرسي. وجرى في أوساطهم سعي محموم إلى إعادة التشكل والانتظام من أجل العودة للحكم من جديد أو المشاركة فيه، عبر «حزب نداء تونس». وكان «التجمعيون ـ الدساترة» في غالبيتهم، إضافة إلى رجال الأعمال الممولين الحقيقيين لـ «حزب نداء تونس»، يقفون إلى جانب حافظ قائد السبسي لكي يكون الزعيم المستقبلي للحزب، وهو ما فجر الصراع بين أعضاء من الهيئة التأسيسية أمثال رضا بلحاج والأزهر العكرمي ومحسن مرزوق من جهة والشق العائلي من جهة أخرى، حيث لم يحظ حافظ قائد السبسي بأي نصيب يذكر من نواب مجلس الشعب، وخرج من المعركة من دون مواقع. لكن الصراع على زعامة الحزب تواصل مع تشكيل حكومة الحبيب الصيد، إذ طالب حافظ السبسي الرئيس المكلف تشكيل الحكومة الحبيب الصيد، بتوزير 11 عضواً من أنصاره، وحين جوبه طلبه بالرفض، صرح لصحيفة «الشروق» التونسية بتاريخ 14 شباط 2015 بأن حزب «نداء تونس» خرج بخفي حنين من الحكومة، في حين أنه دافع عن حصة أوفر لحزبه في صلبها. كما هاجم حافظ السبسي الهيئة التأسيسية التي وصفها بالأقلية داخل الحزب، متهما إياها بالسعي لإقصاء «التجمعيين ـ الدساترة».
من وجهة نظر حافظ السبسي، الوزراء الذين أصبحوا في تشكيلة حكومة الحبيب الصيد ينتمون جميعا إلى الهيئة التأسيسية، وهم بذلك يشكلون أقلية تريد الهيمنة على «حزب النداء»، في حين أن نجاح الحزب في الانتخابات التشريعية والرئاسية يعود الفضل فيه إلى نشاط الهياكل الجهوية (المناطقية) في الولايات (المحافظات)، وبطبيعة الحال إلى الماكينة الحزبية للتجمعيين ـ الدساترة، التي بات يشرف عليها حافظ السبسي. ولم يقف الصراع عند هذا الحد، بل إنه تفجر بين الهيئة التأسيسية والشق العائلي المستند إلى «التجمعيين ـ الدساترة» ورجال الأعمال داخل الحزب، في معركة المكتب السياسي للحزب.
لقد كشفت الأزمة السياسية الأخيرة في «حزب نداء تونس»، أنها ليست أزمة ناجمة عن خلافات أيديولوجية وسياسية أو خلافات في البرامج والخيارات الاقتصادية، بقدر ما هي صراعات وحرب مواقع حول «التموقع» المستقبلي سواء للأفراد أو للتيارات التي تشكل هذا الحزب، لا سيما مع اقتراب موعد انعقاد أول مؤتمر للحزب، الذي سيفرز هياكل منتخبة، لا سيما موقع الأمين العام للحزب، باعتباره من أشد المعارك الساخنة، نظرا لعلاقتها بمعركة توريث حافظ قائد السبسي على رأس قيادة الحزب.
ثالثاً: الشراكة مع حزب «النهضة الإسلامي»
لقد صوتت أغلبية الشعب التونسي لمصلحة حزب «نداء تونس»، لأنها أرادت أن تعاقب «الترويكا» التي حكمت تونس طيلة السنوات الثلاث الماضية، وفي القلب منها حركة «النهضة». فقد أثبتت تجربة ثلاث سنوات من حكم «النهضة» أن هذه الأخيرة لا تزال متمسكةً بالتقليد الإسلامي الموروث عن السياسة، التي تفتقر لمفاهيم متداولة حديثاً في «الربيع العربي» عن الدولة المدنية، أو الدولة الديموقراطية التعددية، حيث ينفصل فيها مجال السياسة عن مجال الدين، ويتجسد في بناء دولة القانون، وتبني منطق الحداثة بكل منطوياتها الفكرية والسياسية.
ومع أن فــكر الشيخ راشد الغنوشي يتحــدث عن عــدم رفضه لهذا النمط من بنــاء الدولة الحديثة، فإنه في حقيقته الواقعية لم يتـــحرر تماماً من الفكر الإمامي التقليدي، المحكوم برأي وتصور آخر للعـــلاقة القائمة بين الدين والسياسة، وبين السلـــطان والقـــانون، وبالفرادة التي تحتلها فيه الشريعة الإسلامية بالنسبة إلى السلطان.
تتفق حركة «النهضة» وحلفاؤها من جهة، وحزب «نداء تونس» وغالبية مكونات «الأحزاب الدستورية» (التي تضم الأحزاب الليبرالية في تونس) من جهة ثانية، على نموذج الاقتصاد الليبرالي، والانخراط في نظام العولمة الليبرالية من موقع الطرف التابع لمراكز النفوذ السياسية والاقتصادية الرأسمالية المؤثرة في العالم. غير أن هذا الاتفاق لا يمنع وجود صراعات بينهما الآن ـ ولفترة أخرى من الوقت ـ مدارها احتكار الحكم السياسي والنفوذ الاقتصادي والاجتماعي من جهة، ونوعية النموذج القيمي الاجتماعي للحياة العامة الحضارية والثقافية للشعب التونسي.
فكما هو معروف، يتبنى حزب «نداء تونس» ومجمل القوى الليبرالية المتحالفة معه والتي يمكن أن تحذو حذوه نمطاً عصرانياً حداثياً للمجتمع يُكَرِّسُ مفهوماً خاصاً للحريات العامة والفردية على الطريقة الغربية بمضمونها البرجوازي الاستهلاكي الذي يبقى قابلاً للتكييف والتطويع ما بين الطابع الديموقراطي الليبرالي والشكل الاستبدادي بحسب تقلب موازين القوى.
بينما تعمل حركة «النهضة» وكــل القــوى المتغلفة بالدين وطائفة من الأحزاب المتحالفة معها والقريبة منها، علاوة على تمـــسكها بالخيارات الليبرالية الممــلاة من الدوائر الغربية الأوروبية والأميـــركية، على فرض نموذج جديد على المجتمع التونسي يقوم على قيم محافظة ومتخلفة تجاوزها الزمن، يريدون إحـــــياءها وتفعيلها في العلاقات الاجتـــــماعية العامة أساساً لاستبداد جديد باســم الدين.
وفي خضم المشاورات الماراتونية لتشكيل الحكومة الجديدة، اختار السبسي رئيساً للحكومة من خارج «حــزب نداء تونس»، تجنباً لاتهام «حزب نداء تونس» بالتغول والسيطرة على الحكم بمفرده. وقد عين الرئيس السبسي الحبيب الصيد رئيساً للحكومة، باعتباره مسؤولا من خارج «حزب نداء تونس»، علماً أنه سيكون خاضعا لسيطرة الحزب وتوجيه السبسي شخصياً. كما أشرك حركة «النهضة» في الحكم، لأنه يعتبر أن تشريكها يمكن أن يكون مفيدا من نواحٍ عديدة، أولها ألا يتحول حزب «النهضة» الحاصل على 69 نائبا في البرلمان إلى حزب معارض قادر على عرقلة عمل الحكومة وإصلاحاتها الكبرى، التي تتطلب الموافقة على ثلثي أعــضاء مجلس النــواب، وهو ما يجعل «النهضة» تلعب دور الحزب الذي يمتلك الثلث المعــطل إن بقي في المعارضة. وثانيها، إن الـباجي أراد بإشراكه «النهضة»، أن يهمش أطراف المعارضة الأخرى، لا سيما «الجبهة الشــعبية» التي تمتلك 15 نائبا، وتعارض توجهات الحكومة الاقتصادية والاجتماعية. فبخروج أكبر حزب سياسي له وزنه البرلماني وحضوره الجماهيري من المعارضة والتحاقه بحكومته، أفقد المعارضة اليسارية قدرتها على الاعتراض على عــمل الحكومة من ناحية، وعلى تحـــريك الشارع من ناحية أخرى.
وكان اللقاء الذي جمع بين السبسي والغنوشي في باريس يوم 13 آب 2013، هو الذي رسم المشهد السياسي التونسي الراهن، وهو أيضا الذي أسس وشكل المرجعية الحقيقية للشراكة في الحكم بين «النداء» و «النهضة». فتونس محكومة بقرار إقليمي ودولي ـ لا سيما أن الولايات المتحدة تريد مشاركة «النهضة» في الحكومة ـ إلى أن تتم إعادة بناء الدولة الوطنية الديموقراطية التعددية في عهد الجمهورية الثانية. كما أن الشيخ راشد الغنوشي كان يريد مشاركة «النهضة» في الحكومة الجديدة، من أجل تخفيف الضغوط عليه من داخل حركته.
في المقابل، فإن الباجي قائد السبسي مقتنع تمام الاقتناع بصعوبة و «عسر» المرحلة القادمة من جميع النواحي الاقتصادية والاجتماعية والأمنية.
ومن السذاجة بالنسبة إليه أن يحمل حزبه وزْر الأيام القادمة، ومن مصلحته أن يحمل معه تلك الأوزار طرف آخر له ثقله في الشارع حتى لا يُنعت حزب نداء تونس بالفشل، مثل سابقيه! ويريد قائد السبسي تحقيق المصالحة الوطنية، باعتبارها مطلباً ملحا للدساترة والتجمعيين الذين ينتمون إلى النظام السابق، والذين يشكلون العمود الفقري لحزب «نداء تونس»، وأوصلوه إلى قبة البرلمان في الانتخابات التشريعية الأخيرة. فالدستوريون والتجمعيون يريدون قانون «المصالحة الوطنية» الذي لن يمر إلا إذا كانت «النهضة» مشاركة في الحكم، وذلك لكي يضعوا حدّاً للمضايقات والتتبعات والتجميد والتجويع والشيطنة التي تعرضوا لها منذ أربعة أعوام كاملة.
إن الشراكة في الحكم بين حزبي «النهضة الإسلامي» و «نداء تونس»، والتوافق على الحكومة، أوجدا معارضة شديدة ورفضاً قاطعاً من جناح كبير من قيادات «حزب نداء تونس»، وعلى رأسهم الطيّب البكّوش، فضلاً عن قيادات أساسية من الهيئة التأسيسية للحزب أمثال الأزهر العكرمي، وكذلك الرافد النقابي والرافد اليساري. وكانت «النهضة» بدورها مستاءة من الطيّب البكّوش وضغطت على السبسي من أجل تحييده وإبعاده عن سلطة القرار داخل «نداء تونس» لتطمئنّ للتوافق معه.