افراسيانت - يصب حلف شمال الأطلسي الزيت على نار الأزمة الأوكرانية ليتسلل بين دخانها نحو الحدود الروسية الغربية ويعزز تواجده بقواعد وقوات جديدة بحجة كبح تقدم روسيا.
حفزت دعوة مساعدة وزير خارجية الولايات المتحدة فيكتوريا نولاند هذا النشاط الملحوظ للحلف، لنشر 6 مقرات قيادة في البلدان المحاذية لأوكرانيا. تفاعلا مع هذه الدعوة أعلن قائد القوات البرية للولايات المتحدة في أوروبا، بين هوجز، عن ارسال "مراقبين" عسكريين الى استونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا ورومانيا وبلغاريا، بهدف دراسة وتحديد مواقع اضافية في أوروبا الشرقية، لنشر الطائرات المقاتلة والدبابات وغيرها من الآليات والمعدات الحربية، التابعة للحلف. ولكن ضد من؟ طبعا الجواب هو ضد روسيا.
يحاول صقور البنتاغون تبرير كل هذه النشاطات المثيرة للاهتمام ، بأنهم يسعون الى تدريب واعداد "اصدقائهم وحلفائهم" الجدد على فنون القتال والحرب و"التكاتف القتالي". حتى الشخص البعيد جدا عن الاستراتيجية العسكرية يدرك، ان الناتو بهذا العمل يقترب خطوة أخرى نحو الحدود الروسية. حيث تصبح كافة المواقع الروسية الواقعة في المنطقة الحدودية تحت مرمى الناتو. ان الحجة المبررة لوجود قوات الناتو هنا، هي الفوضى التي خلقها الناتو نفسه في أوكرانيا، بمساعدة اذنابه وعملائه داخل أوكرانيا.
نعود بعض الشيء الى الوراء، ونتذكر ماذا فعل المحتشدون في الميدان بكييف مباشرة بعد الاطاحة بنظام يانوكوفيتش. لقد كان أول قرار للبرلمان الـ"رادا" الأوكراني هو الغاء الصفة الرسمية للغة الروسية والغاء اتفاقية خاركوف بشأن تمديد فترة مرابطة اسطول البحر الأسود الروسي في شبه جزيرة القرم. ولولا نتائج الاستفتاء العام في القرم وانضمامها الى روسيا، لكنا نرى الآن اعلام القوات البحرية الأمريكية ترفرف فوق سيفاستوبل (القاعدة البحرية الروسية في القرم).
كما تجدر الاشارة هنا الى انه بالرغم من تأكيد رئيس هيئة الأركان العامة للقوات الأوكرانية فيكتور موجينكو يوم 29 يناير/كانون الثاني الماضي على عدم وجود قوات نظامية روسية في جنوب شرق أوكرانيا، إلا ان الناتو بحجة "الغزو الروسي لأوكرانيا" قرر نشر قواته في جمهوريات البلطيق وبولندا، بحجة إجراء"مناورات مشتركة". الجميع يدرك جيدا انه بعد انتهاء هذه "المناورات المشتركة" لن تنسحب هذه القوات الى قواعدها السابقة.
ضمن عمليات تحشيد هذه القوات في اطار مناورات "العزيمة الأطلسية" وصلت الى جمهوريات البلطيق وبولندا 50 دبابة من طراز "ابرامز" ومدرعات نقل الجنود من طراز "سترايكر و أم 113 " وكذلك عربات مشاة قتالية مدرعة "بريدلي" بكامل أطقمها.
كما ارسلت هنغاريا والدنمارك 140 عسكريا و70 آلية حربية الى ليتوانيا للمشاركة في "المناورات". ووصلت الى قاعدة "Zokniai" الجوية في ليتوانيا 4 طائرات مقاتلة من البرتغال وكندا. هذه الطائرات يعجبها "التدرب" على طول امتداد الحدود الروسية.
كما هناك 4 طائرات مقاتلة ألمانية ترابط في مطار "ايموري" في استونيا. وفي بولندا يجري العمل على قدم وساق في استقبال المعدات الحربية للناتو. ففي قاعدة "مالبورك" الجوية ترابط 4 طائرات مقاتلة من طراز "أف 16 " قدمت من هولند،ا وفي قاعدة "لاسك" 18 طائرة وصلت من ايطاليا اضافة الى طائرات نقل عسكرية من طراز "C-130J". وفي مدينة لوبلين البولندية يجري تشكيل لواء عسكري خاص ليتواني- بولندي- أوكراني مشترك للرد السريع. اضافة لهذا يستمر العمل في بناء قاعدة امريكية لمنظومة الدرع الصاروخية الأمريكية بالقرب من مدينة ريدزيكوفو البولندية.
إضافة الى نقل قوات الناتو والمعدات العسكرية الى جمهوريات البلطيق وبولندا، طلب من كافة الدول في المنطقة شراء أسلحة جديدة لتعزيز قدرات قواتها الذاتية، لذلك تشتري بولندا 70 مروحية مقاتلة ومنظومات مدفعية مختلفة و40 صاروخا مجنحا يمكنها اصابة اهدافها على بعد 370 كلم وطائرات من دون طيار.
أما لاتفيا فقررت شراء 120 عربة قتالية مجنزرة من بريطانيا، وتبقى ليتوانيا في انتظار وصول منظومات صاروخية مضادة للجو من الولايات المتحدة وبولندا. أما استونيا فاتفقت مع هولندا على شراء 44 عربة مشاة قتالية مدرعة.
يبرر السكرتير العام للناتو ينس ستولتنبرغ، قرار الناتو انشاء 6 مقرات قيادة في جمهوريات البلطيق وبولندا ورومانيا وبلغاريا لقوات الرد السريع، بالقول "قررنا انشاء 6 مقرات قيادة على وجه السرعة على اراضي بلغاريا واستونيا وليتوانيا ولاتفيا وبولندا ورومانيا، لكي تكون على استعداد تام لمواجهة الأزمات المفاجئة وضمان تنسيق ردود فعل القوات الوطنية وقوات الناتو".
يضيف ستولتنبرغ "قررنا تعزيز قوات الرد السريع للناتو. وحددنا حجم وعدد المجموعة القتالية المدربة جيدا، حيث ستكون متألفة من 5 آلاف عسكري، مدعومة بقوات جوية وبحرية وقوات خاصة".
واشار ستولتنبرغ في اجتماع وزراء دفاع الدول الأعضاء في الحلف الى ان هذا الاجتماع فرضته "الأوضاع الحرجة لأمن أوروبا والعالم بكامله". وقال موضحا "التطرف ينتشر في شمال أفريقيا والشرق الأوسط. كما يزداد العنف في أوكرانيا وتتعمق الأزمة هناك". مشيرا الى ان روسيا "مستمرة في انتهاك مبادئ القانون الدولي ودعم الانفصاليين في منطقة الدونباس".
يحاول الناتو اقناع الرأي العام وروسيا خاصة ان هذه الاجراءات لا تهدد أمن روسيا. يقول سكرتيره العام "اريد ان أوكد ان كافة القرارات التي سيتخذها وزراء الدفاع بشأن هيكلية قوات الرد السريع هي اجراءات دفاعية بحتة، وهي رد فعل الحلف لما فعلته روسيا في القرم وأوكرانيا".
تشبه تصريحات المسؤولين في الناتو بأنهم "ليسوا في مواجهة مع روسيا" تلك التي كانت تطلق عند قرار انشاء القطاع الأوروبي من منظومة الردع الصاروخية الأمريكية (الدرع الصاروخية) ، حينها اعلن ممثلو الناتو والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ان نشر هذه المنظومة ليس موجها ضد روسيا، بل لمواجهة الصواريخ الايرانية، مما أضطر روسيا بعد ذلك الى نشر منظومات صواريخ "اسكندر" في مقاطعة كالينينغراد، التي بإمكانها تدمير كافة مواقع منظومة الردع الصاروخية.
عموما ان الخطة "الدفاعية" لحلف الناتو تتطابق والسياسة الأمريكية التي منذ الصيف الماضي بدأت بتعزيز قواتها في بولندا وجمهوريات البلطيق، وتدرس حاليا مسألة تزويد أوكرانيا بأسلحة فتاكة لتتمكن من مواجهة "الانفصاليين".
موسكو تراقب كل شيء
ان مضمون الاجراءات التي يتخذها حلف الناتو ليست سرا بالنسبة لموسكو، فقبل بضعة ايام أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ان الحلف يحاول انتهاج سياسة احتواء روسيا جيوسياسيا، وتستخدم لتحقيق هذا الهدف القوات المسلحة الأوكرانية.
وقال بوتين بشأن الجيش الأوكراني "في الواقع هذا ليس جيشا، بل فيلقا أجنبيا، وفي هذه الحالة هو فيلق اجنبي تابع للناتو، لا يهدف الى حماية المصالح الوطنية الأوكرانية. لأن اهدافه مغايرة، ومرتبطة بتحقيق احتواء روسيا جيوسياسيا، وهذا لا يتطابق مطلقا مع المصالح الوطنية للشعب الأوكراني".
ألا يهدد تزويد أوكرانيا بأسلحة فتاكة، أمن روسيا، خاصة وقد اعترف الجانب الأوكراني بعدم وجود قوات نظامية روسية في جنوب شرق البلاد، رغم انهم بحثوا عنها "تحت المجهر" خلال فترة 10 أشهر؟
يقول رئيس اكاديمية العلوم الجيوسياسية، قسطنطين سيفاكوف، بشأن تزويد أوكرانيا بالأسلحة الفتاكة، انه من الناحية العسكرية لا توجد ضرورة لذلك. ولكن يجب ان نفهم انه يمكن ان يرافق المعدات الحربية الأجنبية في أوكرانيا خبراء ومستشارون عسكريون. أي يمكن ان تصبح الولايات المتحدة طرفا رسميا في النزاع المسلح، وهذا يجعل النزاع عالميا. وكما نعلم كان الجانب الأوكراني عند بداية العمليات الحربية بعد التهدئة يتفوق على جيش الدفاع الشعبي(في شرق اوكرانيا) بالعدد والمعدات، ولكن هذه المعدات إما دمرت أو استولى عليها جيش الدفاع الشعبي. لذلك سيكون مصير المعدات الجديدة مماثلا.
أما باسكال بونافيس، مدير المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية والاستراتيجية، فيقول "حتى في حالة التنديد بالتدخل الروسي في أحداث أوكرانيا، فإن تسليح أوكرانيا يعني صب الزيت على النار وليس إطفاء الحريق. ان عدم وجود حلول سياسية حاليا، لا يعني ان المواجهات الحربية تقربنا من هذه الحلول. لا يمكن ان تنتصر كييف على موسكو في هذا النزاع، وليس في نية الاتحاد الأوروبي الدخول في نزاع مسلح مع روسيا. ولكن منح المليارات لأوكرانيا التي انفقت احتياطاتها على الجيش الذي هو في حالة بائسة يرثى لها كمساعدات عسكرية تكون نتائجها عكسية، وقد تؤدي الى مواجهات عسكرية لا يمكن التحكم بها".
ويضيف: فرنسا فعلا تريد انهاء الأزمة دبلوماسيا، ولكن أوباما لا يريد ذلك بسبب اختلاف المصالح الاقتصادية للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. لذلك فهو يظهر الصرامة في علاقاته بالرئيس بوتين، بهدف تبرير سياسته في العراق وأفغانستان وليبيا.
أن حلف الناتو يصب فعلا الزيت على النار، محاولا تبرير وجوده، ومصورا نفسه كحاجز امام الخطر الروسي. الناتو يذكرنا برجل الاطفاء المصاب بهوس اطفاء الحريق، يستفز روسيا لترد عسكريا. لقد سبق لجورج كليمانصو ان قال "إن الحرب شيء مهم جدا، لذلك يجب ألا تناط بالعسكريين فقط". ان علاقات روسيا مع أوروبا مهمة جدا، لذلك يجب الا تعهد الى الناتو. بل من الأفضل ابعاد الناتو من التحاور مع روسيا.
ينشر الناتو بسرعة كبيرة قواته في أوروبا، وكأن الدبابات الروسية تطوق برلين أو وارشو. مع العلم ان للناتو 10 أضعاف ما لروسيا على مسرح العمليات العسكرية الأوروبية. وهذا التفوق يزداد حاليا أكثر.
لقد اصبحت الأزمة الأوكرانية هدية جميلة لصقور الحلف و"عرابه" واشنطن. الآن يمكن اسكات الحلفاء الذين اقترحوا تحويل الناتو الى حلف سياسي وكذلك الذين طالبوا بحله، واجبارهم على زيادة النفقات العسكرية في ميزانياتهم. ومن جانب آخر فُسح المجال لمجمع الصناعات العسكرية( الأمريكية) جني مليارات الدولارات من الطلبات الجديدة، والأهم من ذلك التجذر على الساحة الأوروبية مع منظومة درعهم الصاروخية وغيرها من البنى العسكرية.
لقد كان السفير الأمريكي لدى روسيا جون تيفت، صريحا وغير دبلوماسي عندما قال : تنوي واشنطن اجبار موسكو تغير سياستها بشأن الأزمة الأوكرانية.
ولكن زيادة عدد الدبابات والطائرات على مقربة من الحدود الروسية تشبه جدا بالتحضيرات لشن الحرب. لقد تفاعلت موسكو مع هذه الأمور بسرعة، فقد أعلن وزير دفاعها سيرغي شويغو، عن اتخاذ قرار زيادة عدد القوات على الاتجاهات الاستراتيجية، التي اهمها أوروبا.
المصدر: وكالات