افراسيانت - باسل العودات - يتجه اللاعب الكردي الغائب عن مسرح المفاوضات في جنيف إلى الثأر من مسألة إقصائه من الحضور والمشاركة في هذه العملية التي تعتبر مرحلة هامة في تقرير مصير سوريا السياسي، عبر فرض واقع جديد على الخارطة الجغرافية والسياسية السورية، مستغلا الظرف الهش في البلاد لتثبيت سلطته الذاتية على الأرض والاقتصاد في المناطق التي يتواجد فيها الأكراد، في استنساخ لتجربة أقرانهم في العراق. وفيما يحاول الفرقاء السياسيون السوريون إيجاد نقاط التقاء لحل الأزمة في بلادهم، أعلن الأكراد بشكل مباغت عزمهم تكوين فيدرالية كردية في الشمال السوري تشمل الأراضي التي استولوا عليها بقوة السلاح في السنوات الماضية، وهو ما ترفضه المعارضة السورية وبعض الدول الكبرى.
فقد أعلن الأكراد في سوريا، الخميس، خلال اجتماع عقد في مدينة رميلان بمحافظة الحسكة (شمال شرق سوريا) عن تطبيق الفيدرالية الإقليمية، بشكل منفرد، في الأراضي التي تسيطر عليها قوات عسكرية كردية، لتوسيع إطار الحكم الذاتي.
وقال سيهانوك ديبو، مستشار الرئاسة المشتركة في حزب الاتحاد الديمقراطي، الحزب الكردي الأهم في سوريا لـ”فرانس برس” “تم إقرار النظام الفيدرالي في روج آفا- شمال سوريا”، مشيرا إلى أنه “تم الاتفاق على تشكيل مجلس تأسيسي للنظام ونظام رئاسي مشترك”.
وشارك في اجتماع الرميلان، التي تضم مقر الحكم المشترك لمقاطعة الجزيرة، القريبة من الحدود السورية- العراقية- التركية، ممثلو قوى كردية مختلفة كالإدارة الذاتية وحزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماسة الشعب الكردي وقوات حماية المرأة الكردية ومجلس سوريا الديمقراطية والمجلس الوطني الكردي وبعض العشائر والأحزاب غير الكردية الصغيرة، بالإضافة إلى ممثلين عن عشائر عربية وسريان وآشوريين وتركمان وأرمن.
والمناطق المعنية هي المناطق التي يسيطر عليها الأكراد ويُطلقون عليها أسماء كردية كـ”روج آفا” و”كوباني” و”سري كانيه”، فيما يعرفها السوريون بأسماء الجزيرة السورية وعين العرب ورأس العين على التوالي؛ بالإضافة إلى تلك التي سيطرت عليها قوات سوريا الديمقراطية مؤخرا خصوصا في محافظتي الحسكة (شمال شرق) وحلب (شمال)، ما يعني توسيع إطار الحكم الذاتي الذي شكله الأكراد هناك.
تحالف العشائر العربية التركمانية يرفض أي فيدرالية
أعلن تحالف العشائر العربية التركمانية عن رفضه لأي فيدرالية في شمال سوريا، وقد أشار إلى ذلك بيان صادر عن الاتحاد لإعلان الفيدرالية في المناطق التي يسيطر عليها الأكراد في شمال سوريا، مستغلا الأزمة القائمة في البلاد. وجاء في البيان “لا يمكننا قبول أي فيدرالية في شمال سوريا، حيث يسعى حزب الاتحاد الديمقراطي من خلال زعمه الحصول على دعم أصدقاء الشعب السوري، إلى إعلان الفيدرالية وتحقيق مشاريعه المتعلقة بالتقسيم”.
وأضاف أن “الشعب السوري هو من يقرر شكل الحكم وتنظيم دستور للبلاد، وليست مجموعة من الإرهابيين أو القوى الظلامية، وأن اتحادنا الذي يمثل الأغلبية الكبرى للشعب في شمال البلاد يرفض تقسيم البلاد، وسنعارض بكل ما أوتينا من قوة كل من يرغب في ذلك”.
وكانت مجموعة من العشائر العربية والتركمانية بمحافظات الرقة ودير الزور والحسكة، اجتمعت يوم 7 ديسمبر الماضي، بمدينة شانلي أورفة التركية، وأعلنت في بيان لها عن تشكيل “تحالف القبائل والعشائر العربية التركمانية” بهدف محاربة قوات النظام، وحلفائه من الميليشيات الكردية وتنظيم داعش.
وفي محاولة لإقناع الجهات الخارجية الرافضة لهذا الإعلان، قال إليزابيث كورية، عضو حزب الاتحاد السرياني المشارك في اجتماع رميلان، في تصريح لوكالة فرانس برس إن “الفيدرالية ليست حكما ذاتيا للأكراد فقط، وإنما تشارك فيها كل المكونات من العرب والسريان والكرد”.
لكن، وبالرغم من دعمها لوحدات حماية الشعب الكردي التي تساعدها في قتال تنظيم الدولة الإسلامية، إلا أن واشنطن أعلنت أنها “لن تعترف بمناطق ذات حكم ذاتي في سوريا”، مؤكدة أن أي نموذج للفيدرالية ينبغي أن يستند إلى محادثات جنيف، التي لم يدع الأكراد إليها.
ويمثل الأكراد قضية مشتركة لأربع دول رئيسية في المنطقة هي العراق وتركيا وسوريا وإيران، الأمر الذي يجعل القضية الكردية ليست “قضية دولة” وإنما “قضية إقليم”. ويجتمع النظام السوري والمعارضة على رفضهما لفيدرالية كردية في شمال سوريا، كما تجتمع تركيا وإيران على رفضهما بشكل مطلق أيضا، وهما الدولتان اللتان تضمّان أكرادا يمكن أن تنتقل إليهما عدوى التجربة السورية.
وقوبل إعلان أكراد سوريا عن سعيهم لإقامة فيدرالية برد تركي سريع وحاسم، فقد أعلنت الخارجية التركية أنها تدعم وحدة سوريا الوطنية وتعتبر كل الإعلانات أحادية الجانب عن الحكم الفيدرالي باطلة.
وحذّر النظام في دمشق من “النيل من وحدة” سوريا، وقال مصدر في وزارة الخارجية إن الحكومة السورية “تحذر أي طرف تسوّل له نفسه النيل من وحدة أرض الجمهورية العربية السورية وشعبها تحت أي عنوان كان بما في ذلك المجتمعون في مدينة الرميلان”. وأكد أن “طرح موضوع الاتحاد سيشكل مساسا بوحدة الأراضي السورية (..) ولا قيمة قانونية له”.
رفض المعارضة
فرض فيدرالية كردية بقوة السلاح غير مقبول بالنسبة إلى المعارضة السورية وهو أمر سيؤدي إلى توترات لا نهاية لها. وقد ردّ الائتلاف السوري المعارض على إعلان الأكراد بأن “لا مكان لأي مشاريع استباقية تصادر إرادة الشعب السوري”، وحذر “من أي محاولة لتشكيل كيانات أو مناطق أو إدارات تصادر إرادة الشعب السوري”.
وشدد الائتلاف على أن “تحديد شكل الدولة السورية، سواء أكانت مركزية أو فيدرالية، ليس من اختصاص فصيل بمفرده أو جزء من الشعب أو حزب أو فئة أو تيار”، بل سيتم ذلك “بعد وصول المفاوضات إلى مرحلة عقد المؤتمر التأسيسي السوري الذي سيتولى وضع دستور جديد للبلاد”.
وفي استطلاع أجراه المرصد السوري لحقوق الإنسان على موقعه في وسائل التواصل الاجتماعي، فإن غالبية المكون العربي تعارض إنشاء فيدرالية في الشمال السوري وتعتبره خطوة على طريق الانفصال، فيما أيّدت الأغلبية الساحقة من المكون الكردي قيام الفيدرالية في الشمال السوري تحت اسم (اتحاد شمال سوريا الفيدرالي).
ورفض المعارض السوري منذر آقبيق، عضو ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، الإجراءات الكردية وقال لـ”العرب” إنها “صادرة عن طرف واحد وغير مقبولة لدى المعارضة التي تعتبرها غير قانونية، ومن قبل طرف يسيطر على بقعة جغرافية بقوة السلاح، ولن يعترف السوريون بها”.
وأوضح “على التوازي مع رفضنا لهذه الخطوة، فإننا ندعو كافة الأطراف إلى عدم اتخاذ أي إجراءات استفزازية من ذلك النوع، فهي سوف تؤدي إلى توترات لا نهاية لها، ويجب الانتظار إلى حين حل المسألة السياسية الرئيسية في سوريا، وتحقيق انتقال السلطة والانتقال الديمقراطي، وبعد ذلك تحقيق التمثيل الشرعي للشعب، ويقوم ذلك التمثيل بعدئذ بدراسة أشكال اللامركزية التي يرتضيها الشعب”. وترفض المعارضة السورية فكرة الفيدرالية في الوقت الراهن على الرغم من عدم رفضها لمناقشة المبدأ بعد استقرار سوريا وتغيير النظام.
وفي هذا السياق حذّر المعارض السوري ميشيل كيلو، عضو الائتلاف، السوري المعارض من أن ما يقوم به الأكراد هو تقسيم وليست فيدرالية، وقال “إذا كانت الفيدرالية التي تحدث عنها سيرجي لافرورف، أي حكم ذاتي بموافقة جميع السوريين، فلا مشكلة لدينا بخصوصها، فالفيدرالية تقوم على وحدة الدولة والحفاظ على مهامها الأساسية وفي الوقت عينه حرية واسعة للمكونات المحلية بإدارة أمورها، لكن من غير المقبول الحديث عن دولة كردية كجزء من مشروع إقليمي وليس سوري يفرض علينا بالقوة، فهذه ليست فيدرالية بل تقسيم”.
وتقول المعارضة السورية إن هناك عقبات أساسية وكبيرة تحول دون تطبيق الفيدرالية الإقليمية في شمال سوريا وفق ما يريد الأكراد، بسبب التنوع العرقي والمذهبي في تلك المنطقة، ووجود قوميات ومكونات طائفية وإثنية عديدة لا ترضى بها وتُخبر عليها بحكم الأمر الواقع والقوة.
توقيت خاطئ
استغل أكراد سوريا، الذين لم يخوضوا نزاعا مسلحا مع الحكومات السورية المتعاقبة منذ استقلال البلاد، وكانوا قد التزموا الحذر الشديد عند انطلاق الاحتجاجات في مارس 2011 للمضي في خطوتهم هذه، دعما تلقوه من النظام السوري طوال أربع سنوات تلاه دعم سياسي وعسكري روسي، ومؤخرا تقاطُع المصالح العسكرية مع مصالح التحالف الدولي الذي تتزعمه الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، بالإضافة إلى دعم من غالبية الأكراد السوريين لفكرة الفيدرالية والحكم الذاتي وصولا إلى دعم كبير منهم حتى لفكرة الانفصال عن سوريا في ما يدعونه “غرب كردستان”.
وروّج المبعوث الأممي لسوريا ستافان دي ميستورا للفكرة بشكل كبير خلال الأشهر الستة الأخيرة، وأقنع روسيا والولايات المتحدة بأن الفيدرالية هي أحد أشكال الدولة التي يمكن أن تصلح لسوريا المستقبل، وهو ما لقي صدى إيجابيا لدى روسيا وبشكل أقل لدى الولايات المتحدة.
ويقول المعارض السوري إياد بركات، من الجيش السوري الحر، لـ”العرب” “إن فرض مثل هذه الفيدرالية من طرف واحد ورغما عن قرار السوريين سيكون وصفة لاستمرار القتال وتحوّله من قتال ضد النظام إلى قتال بين السوريين، ولا يمكن القبول بمثل هذه الأطروحات إلا عبر استفتاء أو مؤتمر وطني جامع بعد انتهاء الأزمة وتغيير النظام السياسي، وكل ما يقرره الأكراد اليوم لا معنى ولا قيمة له بالنسبة إلينا”، وفق قوله.
وتعتبر أكثر الفصائل الكردية السياسية والتي تشكل المجلس الكردي الوطني أن تصرف حزب الاتحاد الديمقراطي وإعلانه الفيدرالية بشكل أحادي الجانب دون تفاهم مع باقي المكونات السورية تصرّف يضر بالأكراد، منتقدين التوقيت الخاطئ ومعتبرين أن الإعلان جاء بمثابة ردة فعل على عدم دعوتهم إلى جنيف.
بدورها، رفضت هيئة تنسيق قوى التغيير الديمقراطي المعارضة، المتحالفة مع الأكراد والمتضامنة معهم، والتي كان حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري جزءا منها قبل أن يُجمّد نشطه صلبها، الفيدرالية بالشكل الذي يتبناه هذه الحزب ويعمل عليه، وكتب منذر خدام، الناطق باسم الهيئة على صفحته “تتناقل وكالات أنباء مختلفة خبرا يفيد بأن الأكراد السوريين في شمال سوريا أعلنوا من طرف واحد قيام الفيدرالية، ومثل هذا التصرف المنفرد سيفتح جبهات جديدة لصراعات سيكون الأكراد الخاسر الأكبر فيها، وهذا لا يعني أبدا أن الأكراد لا يحق لهم أن يديروا شؤونهم بأنفسهم في إطار شكل من أشكال الحكم الذاتي، على أن يتم التوافق عليه مع بقية الشركاء في الوطن”.
ويقول سوريون إن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، الذي يعتبر الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني التركي، وبعد أن أطلق فكرة الإدارة الذاتية الكردية في منطقة الجزيرة السورية، ونفّذها بالقوة عبر تشكيل ميليشيات كردية تحت مسميات مختلفة كوحدات حماية الشعب وقوات حماية المرأة والأسايش، وتشكيله ما يشبه البرلمان والحكومة لهذه المنطقة، تعمّقت أفكار الحكم الذاتي والفيدرالية والانفصال لدى الشريحة العظمى من أكراد سوريا، ورسّخها تحقيق هذه الميليشيات لانتصارات على الأرض بدعم من النظام وروسيا والتحالف الدولي.
ولا توجد إحصائية دقيقة لعدد الأكراد في سوريا، وتُقدّرهم بعض الأوساط السورية بنحو 2 مليون أي 9 بالمئة من السكان، فيما تقدرهم بعض الأوساط الكردية بنحو 3 مليون أي نحو 12 بالمئة من السكان.
ورغم أن المعارضة أعربت عن خشيتها من أن يكون الموقف الكردي ابتزازا ومحاولة للصيد في الماء العكر لتحقيق أكبر مكاسب ممكنة للأكراد حتى لو كانت على حساب وحدة المصير، إلا أنها تؤكد على ضرورة حل المشكلة الكردية في سوريا وأن لا يتعارض ذلك مع حقيقة سوريا موحدة، وتشدد على ضرورة منح الأكراد حقوقهم الثقافية كاملة، وتأمين المساواة بينهم وبين كافة أطياف الشعب السوري دون تمييز، لكنها ترفض أي تطلعات قومية أو انفصالية لهم، أو منحهم حكما ذاتيا في المستقبل كما هو الحال في العراق، لأن شروط تواجدهم في سوريا لا تسمح بمثل هذه الفيدرالية.