افراسيانت - عامر عبد الله - سوّق الغرب لمغامرته العسكرية في ليبيا بشعارات تقول إن مقاتلاته وصواريخه تنطلق إلى هناك لحماية المدنيين وكسر صدفة الدكتاتورية، وأنها تحرث الأرض وتزرعها ببذور الحرية والديموقراطية.
تبخرت هذه الوعود المسمومة بسرعة ولم يمر الربيع على ليبيا التي تبدو بعد خمس سنوات كما لو أنها قرطاجة بعد أن دمرتها روما وحرثت سهولها بالملح كي لا تقوم لها قائمة إلى الأبد.
تعامل الغرب مع هذه البلاد بطريقة خاصة، على عكس بقية دول ما يسمى بالربيع العربي. لقد انتهز الفرصة وبادر إلى تصفية حساباته القديمة والجديدة مع عدو لدود كان سدا منيعا وقف طويلا ضد سياساته ومصالحه في المنطقة. عدو كان يتعامل معه باستخفاف ويمنعه من الحصول على الثروات الليبية بالطريقة التي يريدها.
كان القذافي ونظامه يتعامل بندية مع الغرب، مرسخا سيادة وطنية بدرجة عالية من الأنفة والكبرياء، جعلت من بلاده منطقة محرمة على عربدته.
لقد نجح النظام السابق في تحقيق استقرار للبلاد التي بدت في عهده متماسكة مهابة الجانب غير قابلة للاختراق، ولذلك تحمس الغرب للتخلص منه، وطي صفحته من خلال تدخل عسكري انتهى إلى كارثة محلية شاملة بتداعيات إقليمية ودولية خطيرة.
ربما لم يقم القذافي نظاما نموذجيا في بلاده المحكومة بظروفها الذاتية بكل ما تحمل من قصور وضعف. إلا أنه حاول فعلا مواجهة الغرب، ودخل في مواجهات عسكرية مع الولايات المتحدة ومع فرنسا، ولم يهادن إلا بعد أن تغيرت ظروف العالم برمته، وانهارت كل الجبهات بغزو العراق وباستفحال التطرف وانتشاره في كل أرجاء المنطقة.
لم يثق الغرب في القذافي حتى بعد أن سلّم برنامجه النووي، وطبّع علاقاته مع واشنطن وبروكسل. ليس لأنه كان يقف بعيدا عن معايير ديموقراطيته وثقافته، بل لأنه كان في نظره متمردا ناصبه العداء عقودا طويلة واستهدف مصالحه في السر والعلن، وظل حتى بعد تسليم أسلحته يتحدى الغرب ويحرض ضده، فكان لا بد من إنهائه والقضاء عليه.
أسقط الغرب القذافي وسلمه لخصومه أسيرا جريحا بعد أن قصف رتله في مدينة سرت.. سلمه من دون خجل لمصير وحشي وهو الذي يتغنى صباح مساء أمام العالم بقيمه الحضارية الرفيعة ومبادئه الإنسانية السامية.
وقف الغرب بشكل مباشر مع التطرف والعنف والفوضى بمغامرته العسكرية الجوية في ليبيا. وكرر في هذه البلاد من جديد أخطاءه القاتلة التي سبق أن جرب مفعولها في أفغانستان والعراق.
قضى الغرب في ليبيا على نظام مستقر كان يمر بمرحلة تجديد وتغيير واضحة، وأفسح المجال للفوضى لتضرب أطنابها بقوة في هذا البلد المترامي الأطراف الذي أصبح في فترة وجيزة معقلا لـ"الدولة الإسلامية"، التنظيم الذي نشأ وترعرع في العراق وامتد لاحقا إلى سوريا وتغلغل بعد ذلك في كل مكان.
برر الغرب فعلته المدمرة بالقول إن العالم سيكون أكثر أمنا من دون القذافي. ومع أنه جرّب هذا الشعار البراق الكاذب مع صدام حسين، إلا أنه لم يتعظ وأعاد الكرة في ليبيا ثم مضى من دون تردد بنفس السيناريو إلى سوريا.
لقد حرث الغرب منطقة الشرق الأوسط لداعش ومهدها له بعد أن دمر حكومات تمكنت من تحقيق قدر كبير من الاستقرار والأمن، واستطاعت إخماد التناقضات الداخلية .. دمر الغرب هذه الأنظمة فخرجت كل الشرور من تحت الأرض.
فهل أخطأ هذا الغرب مرات عدة في تدخله الفض والعنيف بالصدفة؟ كل المؤشرات تدل على أن الغرب يعرف جيدا ما يفعل، وأنه على دراية دقيقة ومفصلة بالواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي لبلدان الشرق الأوسط. ولم يكن يجهل أنه يتعامل مع مجتمعات هشة، غياب السلطة المركزية يشتغل فيها مثل صاعق يولد انفجارات متسلسلة تحول البلد إلى ركام.
وهذا ما حدث تحديدا في ليبيا. ما أن تم القضاء على السلطة المركزية حتى اشتعلت التناقضات القبلية والجهوية والعرقية بعنف، وغابت القوانين والأعراف الرادعة، وتحول البلد إلى غابة للرعب وإلى فوضى تتسع وتشتد.
وضعت لعبة روما الجديدة العالم بأسره تحت مرمى الخطر، وتطايرت حمم البراكين التي فجرتها في المنطقة لتضرب باريس وتقض مضاجع برلين والعواصم الوادعة الأخرى. ومع ذلك لا يبدو أن الغرب، وخاصة ما وراء الأطلسي، يعي حجم الحريق الذي أشعله ولا تبعاته المخيفة، وهو لا يزال يظن أنه قادر على إدارة الحريق واحتواء الفوضى وتسخيرها لصالحه، وتحويل الدماء التي تسيل بغزارة إلى رصيد في استراتيجياته المرعبة.