افراسيانت - محمد نجيب عبد الواحد - بعد الانتهاء من صياغة الدستور الأميركي في نهاية القرن الثامن عشر، سُئل بنجامين فرانكلين، الأب الروحي للنظام الجمهوري الديموقراطي للولايات المتحدة وأحد الموقّعين الأساسيين على بيان استقلالها، ما إذا كانت أميركا قد حصلت في النهاية على جمهورية أم ملكية؟ أجاب: «جمهورية إن عرفت الحكومات كيف تحافظ عليها». وكأنه كان متوجّساً من عدم قدرة الأميركيين على إدامة هذه الديموقراطية الوليدة.
أميركا التي انطلقت خلال القرن التاسع عشر في مسيرة حازمة لبناء الدولة وبناء الديموقراطية، تمكّنت من التحول في نهاية القرن التاسع عشر وحتى منتصف العشرين من دولة ضعيفة، وميراثية وفاسدة، إلى لاعب مستقل، وقويّ وفعّال، عبر ثورة اجتماعية وجدت جذورها في الثورة الصناعية التي أفرزت لاعبين سياسيين جدداً، نجحوا في قيادة هذا التغيير غير آبهين بالنظام القديم.
لكن إن استطلعنا اليوم حال هذه الديموقراطية على الساحة الأميركية ومآلاتها، نجد صورة مغايرة عن ديموقراطية الأمس. نجد حراكاً فكرياً غير مسبوق قاده مفكرون كبار وقادة رأي مستقلون ينتمون إلى مؤسسات أكاديمية عريقة ودور فكر وبحث مرموقة. وقد نتج عن هذا الحراك كم كبير من الكتب والأبحاث والندوات التي حملت في طياتها سلسلة من الاستنتاجات والاعترافات المبنية على الشواهد والقرائن العلمية، أولها القول بتراجع النظام الديموقراطي الأميركي بعدما بدأت مؤشرات انحداره بالتنامي بشكل ملحوظ منذ العقدين الأخيرين للقرن المنصرم. وثانيها الاعتراف ببزوغ نمط أميركي خاص من الفساد الحكومي العميق و «المشروع»، رَكِبَ النخبَ الأميركية الحاكمة وانعكس سلباً على هذه الديموقراطية. أما ثالث هذه الاعترافات فيتعلق بمسؤولية الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، عن تمكين فساد الدولة من العديد من البلدان عبر «نقل تكنولوجيا» الفساد المنظم وتوطينها فيها، بخاصة تلك التي مرّت بحروب ونزاعات كأفغانستان والعراق. على وقع هذا الحراك وما تمخّض عنه من أصداء، انطلقت موجة غير مسبوقة من التصريحات الهادفة إلى التشهير بالوضع الفاسد الذي آلت إليه الديموقراطية الأميركية. فالرئيس السابق جيمي كارتر صرّح منذ أشهر قليلة أن «الديموقراطية الأميركية انتهت إلى أوليغارشية (حكم الأقلية) مقترنة بفساد سياسي غير محدود». ووصل الأمر بالمؤرخ الأميركي المعاصر جوان كول إلى إدراج عشرة أسباب لا مجال لذكرها هنا، تجعل من الولايات المتحدة «الأمة الأكثر فساداً في العالم»!
كما أطلق الكاتب الأميركي توم هارتمان تحذيراً مفاده أن «واجهة الولايات المتحدة التي كانت عظيمة يوماً ما سوف تتفكّك قريباً، وسيُكشف عن جوهرها المتعفّن بعد أن حلّ نفوذ المليارديرات وجشع الشركات محل البنية التحتية للديموقراطية والحوكمة». أما المفكر الأميركي فرنسيس فوكوياما، فقد أشار في أكثر من مقابلة أجراها على خلفية كتاب صدر له مؤخراً إلى أن «الولايات المتحدة مضت خلال العقود القليلة الماضية بالاتجاه العكسي: أصبحت أكثر ضعفاً، وأقل كفاءة، وأكثر فساداً».
ماهية هذا الفساد «على الطريقة الأميركية» باتت معروفة كما هي أسبابه ومظاهره: فاللامساواة الاقتصادية المتنامية وتركيز الثروة، أدّيا إلى تراجع الطبقة الوسطى. كما أن نفوذية المؤسسات السياسية تجاه النخب «الظلامية» ومجموعات النفوذ، سهّلت للنخب الحاكمة التلاعب بمنظومة الحوكمة بهدف تفضيل مصالحهم الخاصة. مما تسبّب بجمود إيديولوجي واستقطاب سياسي واجتماعي شديدين، جعلا الدولة أسيرة للنخب التي لم تعد تسأل إلا عن مصالحها الخاصة.
في حين توجّهت الممارسات «البديلة» نحو ذلك الطيف من العمليات «الآمنة» و «المجدية»، مثل ضخّ الأموال السرية في الحملات الانتخابية وشراء تصنيفات أفضل لمصلحة الشركات من مؤسسة «ستاندارد أند بورز»، وضمان جماعات تأثير وضغط في الكونغرس لتمرير قوانين وتشريعات محدّدة (أو الحيلولة دون تمريرها)، وتقديم هبات ضمنية إلى العاملين في قطاع معين لإبرام صفقات أو ترويج منتج ما...الخ. وهي ممارسات تنفذها نخب حاكمة، بمساعدة سماسرة للنفوذ، اعتادت، في سعيها للدفاع عن «حوكمتها الرشيدة»، أن تعزف على أوتار القرن الحادي والعشرين.
خطورة هذا النوع من الفساد تكمن في أنه يُمارَس حالياً على مستوى أوسع في العالم بفضل مجموعة من سماسرة النفوذ «المُعَوْلمين» والمرتبطين بالعديد من الجمعيات والتجمّعات غير الرسمية، التي نمت وترعرعت في هذا «المطبخ الأميركي»، وبدأت تمتلك تأثيراً أكبر على مستوى العالم. والأمثلة عديدة: نذكر منها تلك «المجموعة الاستشارية الدولية للشؤون الاقتصادية والنقدية»، المسمّاة بـ «مجموعة الثلاثين»، وهي، كما عبر عنها مديرها التنفيذي ستيوارت ماكينتوش، عبارة عن «مزيج من دار فكر ونادٍ «حصري جداً» يتألف أعضاؤها الثلاثون من رؤساء بنوك كبرى من القطاع الخاص وبنوك مركزية، فضلاً عن أعضاء من الوسط الأكاديمي والمؤسسات الدولية ينتمون إلى مؤسسات عدة متقاطعة في ما بينها. تركِّز المهمة الأولى لهذه المجموعة على «فهم» و «تشكيل» الاقتصاد العالمي. وهم يدَّعون أنهم لا يسعون إلى صنع السياسات المالية العالمية، ولكن توصياتهم لا تلبث أن تتحوّل، «بقدرة قادر»، إلى سياسات!
ولا يمكن في هذا الصدد إغفال الأدوار المريبة لمؤسسة غولدمان ساكس (التي يطلق عليها الأميركيون تندّراً عبارة «حكومة ساكس») التي لعبتها، من دون أي خرق للقانون، في الفترة ما قبل الأزمة المالية 2008، حيث تبيّن لاحقاً أن هذه الأدوار المريبة هي التي ساهمت، بشكل مباشر أو غير مباشر، في نشوء هذه الأزمة. كما لا يمكن نسيان تورّط «حكومة ساكس» في مساعدة اليونان بالتكتّم على ديونه في مطلع القرن الحالي. فعندما جاءت ساعة الحقيقة، لم تكن لا «غولدمان ساكس»، ولا النخبة الاقتصادية/السياسية في اليونان، من دفع ثمن الإجراءات التقشفية التي لا زال الشعب اليوناني يكتوي بنيرانها. ثم لا ننسى الفضيحة الأخيرة لبنك HSBC السويسري في استضافة الأموال المغسولة (أو حفظها بمنأى عن الضرائب) لكبار رجال الأعمال والمشاهير الأوروبيين، والتي تندرج ضمن هذا النوع من الممارسات المعولمة.