افراسيانت - وسيم ابراهيم - تزدحم على خط أنقرة ـ بروكسل رحلات المسؤولين الاوروبيين والاتراك المتبادلة. القضية الرئيسية طبعاً، هي مفاوضات المساومة المتواصلة، حول صفقة لشراء تعاون الأتراك في احتواء تدفقات اللاجئين إلى أوروبا. القيادة التركية حددت أخيراً الثمن المطلوب لإنجاز المرحلة الأولى: اتفاقية لإعفاء المواطنين الاتراك من «الفيزا»، مقابل اتفاقية تلتزم فيها أنقرة باسترجاع جميع اللاجئين الذين يعبرون منها إلى أوروبا.
إرساء هذا النصاب كأساس، لا بديل عنه، لأي صفقة مبدئية، تم التفاهم عليه خلال زيارة المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل إلى تركيا يوم الأحد الماضي. ما يمكن فعله وما ثمنه، كان واضحاً في كلام رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أغلو. شدد على أن «تسريع» اتفاقية تحرير «الفيزا» للأتراك، سيقابله بـ «شكل متزامن» دخول اتفاقية «إعادة القبول» حيز التنفيذ.
الأمران بحسب تقديراته يمكن أن يتما في تموز 2016، بدل موعد بداية 2017 السابق. ليست تقديرات، بقدر ما هو يقين بحاجة أوروبا لهذه السرعة، بعدما أدارت تركيا سيل اللجوء ليطوف عليها.
الأهمية الحاسمة لاتفاقية «إعادة القبول»، هي مسألة أشارت إليها «السفير» مراراً في تغطياتها السابقة. هذه الاتفاقية تتضمن التزاماً تركياً بإعادة استقبال كل «اللاجئين والمهاجرين» الذين يعبرون منها إلى أوروبا «بشكل غير شرعي».
هنا تصير القضية مؤطرة باتفاقية ملزمة. الأمر لا ينطبق، مثلاً، على التعهدات بمحاربة «شبكات التهريب» التي يبقى التساهل فيها قابلاً لاختلاق الأعذار. هذه الشبكات نقلت أكثر من نصف مليون لاجئ، من البر التركي إلى الجزر اليونانية هذا العام، بحسب ما قالت الأمم المتحدة أخيراً. يمكن استخدامها تركياً كوسيلة ضغط، تفتح صنبور اللجوء وتغلقه بحسب الحاجة، مع تكرار عبارات «استحالة» منع كل أعمال التهريب.
هذه المناورات لا تصح مع اتفاقية «إعادة القبول»، لذلك يصر الأتراك على قبض ثمنها كاملاً. تشمل الاتفاقية جميع المواطنين من دول «الطرف الثالث»، أيا كانوا، طالما قامت السلطات التركية بتسجيلهم. مسؤولون أوروبيون، ضمن فريق التفاوض مع تركيا، أكدوا سابقا لـ «السفير» أن الاتفاقية «تشمل إعادة اللاجئين السوريين، حالما تدخل حيز التنفيذ».
هؤلاء اللاجئون سيعتبرون، مثل غيرهم، مواطني دولة «طرف ثالث»، عبروا إلى أوروبا «بشكل غير شرعي». المسؤولون الأوروبيون شددوا على أنه يكفي أن تقوم تركيا بتسجيل اللاجئين السوريين حتى تتم إعادتهم إليها، سواء كان ذلك تحت عنوان «ضيوف» أم «لاجئين». بناء على ذلك، تمسك أنقرة بأكثر من مليوني لاجئ سوري، تتباهى عادة باستضافتهم، كورقة ضغط مهمّة. شروط «الإعادة» لن تنطبق على من حصلوا في أوروبا على وضع «لاجئ»، لكنها تنطبق على جميع من يصلون إليها بعد سريان الاتفاقية.
هناك مجال محدود للتحايل على ذلك. حينما يعبر اللاجئون تركيا، من دون أن يتم تسجيلهم هناك، فحينها لا يعودون مشمولين باتفاقية «الإعادة». هذا ما يعرفه الأوروبيون جيداً، لذلك طالبوا أنقرة، في خطة العمل المقرّة بينهما، بمواصلة تسجيل اللاجئين وتحسين انتاجية ذلك.
حينما عرض أوغلو نتائج التفاوض مع الأوروبيين، أكد أن أموال المساعدات لن تكون ثمناً مقبولاً، حتى لو وصلت إلى ثلاثة مليارات يورو كما طالبت حكومته. طبعا مرر ذلك في إطار المزايدة المستمرة، معتبراً أن تركيا ترفض التحول إلى «معسكر اعتقال» للاجئين السوريين لقاء الأموال، قبل ان يضيف خلال مقابلة تلفزيونية: «لا يمكننا قبول بقائهم على طريقة: أعطونا المال وسيبقون هنا».
تسريع مفاوضات عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي مدرج أيضاً على قائمة المساومة، لإبرام صفقة أكثر شمولاً تشمل ضبط الحدود وغيرها من سياسات الصدّ. هذه المفاوضات تسير ببطء شديد وتعثّر دائم، منذ تم إعلان ترشّح تركيا لعضوية التكتل في العام 1999. إطار التفاوض يشمل 35 فصلاً، تتضمن آلاف الاشتراطات، في كل المجالات. حتى الآن تم افتتاح 14 فصلاً منها، ولم يغلق سوى فصل واحد. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يطالب الآن بفتح خمسة فصول جديدة، لكن المستشارة الألمانية تحدثت عن إمكانية فتح فصلي الاقتصاد والسياسة المالية هذه السنة، مع إطلاق تحضيرات لفتح فصول الحقوق والعدل لاحقاً.
الأوروبيون لم يقصروا في إظهار مرونة قياسية للمقايضة. ميركل تعهدت بإنشاء مجموعة عمل مشتركة مع تركيا، لمساعدتها في تحقيق الشروط المطلوبة لتحرير «الفيزا» تدريجياً. المرونة تشمل أيضاً النفاق السياسي، الرفيع المستوى، حتى حول شعارات ملاحقة تطبيق القيم الأوروبية المتعلقة بالحريات الأساسية. كان يفترض أن تنشر المفوضية الأوروبية تقريرها السنوي حول تركيا، ووضع الحريات وتطبيق القانون فيها، لكنها أجلته من دون تقديم أي مبررات مقنعة.
من المنتظر ألا يستطيع هكذا تقرير تجاوز واقع اعتقال صحافيين أتراك، وكتاب، إضافة إلى الاعتداء على استقلالية القضاء بعد فتحه ملفات فساد حساسة. في أحدث تبريراتها لهذا التأجيل، قالت متحدثة باسم المفوضية إن رئيسها جان كلود يونكر «هو من يقرر موعد نشر التقرير»، حينما يرى أن «اللحظة المناسبة» حانت، بما يمكنه استقطاب أكبر درجة من «الاهتمام» بالتقرير. الجميع بات يعرف أن التأجيل جاء لأسباب مفاوضات المساومة الجارية، ولن ينشر على الأرجح قبل عقد الانتخابات التركية المبكرة في بداية الشهر المقبل.
عبر هذه المساومة، تحاول المفوضية الأوروبية، بالتشاور والعمل الوثيقين مع برلين، إنجاز الدائرة الصغرى من الصفقة مع تركيا، او نواتها. حول هذه النواة، يمكن فتح المجال أمام إضافة دوائر تفاهمات أخرى، بما يزيد تطويق سيل اللاجئين وصولاً إلى هدف إيقافه. «الميكرو سياسة» ستمضي مع خطوات الحد الأقصى الممكن، حتى ولو لم يتم الوصول إلى استراتيجية شاملة. في هذا السياق، تجهز المفوضية الأوروبية خطط إعادة توطين اللاجئين، من دول الجوار السوري، بالتوازي مع إيجاد آلية دائمة لتوزيعهم في الاتحاد الأوروبي.
بدا واضحاً تعويل برلين على استراتيجية «الميكرو سياسة». وزير الخارجية الالماني فرانك فالتر شتاينماير تحدث عن أهمية «سياسة الخطوات الصغيرة»، لحل أزمات متشابكة ومعقدة. حينما تحدث عن ذلك في الأردن، أمس، قال إن لديه مَثَلاً عَبَرَ به خلال جولته على المنطقة، يحمل روح فكرته: «جبل لجبل لا يلتقيان، لكن إنسانا لإنسان نعم».
تحتاج برلين لهذه «الخطوات الصغيرة»، في كل اتجاه، بعد الضغوط المتزايدة التي تتعرض لها الحكومة هناك. هناك خلافات حول إقامة مراكز تجميع للاجئين على الحدود مع النمسا، وكذلك حول إنشاء جدران صدّ. الخياران الأخيران يدعمهما قسم من حزب ميركل. كما أن رئيس الشرطة الاتحادية، رينر وينت، يجد أنه لا مناص من إقامة جدران مع النمسا، كما قال للصحافة الالمانية: «إذا أغلقنا حدودنا بهذه الطريقة، فسوف تقوم النمسا أيضاً باغلاق حدودها مع سلوفينيا، وهذا بالضبط التأثير الذي نريده».
سلوفينيا باتت الآن من دول المواجهة الرئيسية. المجر نفذت تهديداتها، لتغلق الحدود مع كرواتيا منتصف ليل الجمعة الماضي. صباح السبت، كانت السلطات الكرواتية تغيّر وجهة شحن اللاجئين، لتوجه الباصات والقطارات إلى الحدود الشمالية مع سلوفينيا. الضجة حول تدفقات اللاجئين تملأ العالم، منذ أسابيع، والمجر تهددّ ثم تنفذ تحت حكم يميني متشدد. ثم ماذا؟ السلطات السلوفينية تتصرف وكأنها مصدومة بالمفاجأة! الأعداد التي وصلت منذ الجمعة وصلت إلى عشرين ألفاً. لم تسمح سلوفينيا بمرور إلا أعداد قليلة من اللاجئين، واضعة سقف 2500 لاجئ، لأن النمسا بدورها لن تسمح إلا بمرور عدد محدود لاحقاً. هذه التقييدات تركت الآلاف عالقين على الحدود، في العراء، تحت المطر وبين الأوحال، لأن الدولة تفاجأت ولم تجهز ملجأ لما كان الجميع يتوقعه.
طلب الحاجة لـ«المساعدة العاجلة» حمله الرئيس السلوفيني بوروت باهور إلى بروكسل، حيث التقى قادة المؤسسات الأوروبية. بروكسل تحاول الآن اقناع قبرص بالتراجع عن «الفيتو» وبمرونة تجاه المفاوضات مع تركيا، خصوصاً تنشيط مفاوضات العضوية. القبارصة يتحركون في إطار هذا الموقف منذ الاحتلال التركي عام 1974، الذي فرض تقسيم الجزيرة إلى يونانية وأخرى تركية. ما تقوله برلين وبروكسل للممانعين إن لا خيارات ممكنة: إما إرضاء أنقرة بصفقة مقنعة، أو مواصلة إغراق أوروبا بتدفقات اللاجئين.