افراسيانت - وسيم ابراهيم - حينما تحضر ضروراتهم السياسية، يشمّر الأوروبيون عن سواعدهم وأرجلهم، ويمضون بكامل أناقة ابتساماتهم... حتى إلى المستنقع.
هناك يمكن أيضا للقيم الأوروبية، عن الإنسان وحقوقه، أن تسبح مثل أسماك ماهرة. لم تكن أقل من ذلك صور المفوض الأوروبي للهجرة ديمتريس افرامابوليس، مع مسؤولين أوروبيين آخرين، يتجولون على مراكز احتجاز اللاجئين في الجزر اليونانية. تحدثوا إليهم من خلف السياجات الحديدية العالية، كما لو أنهم في أقفاص. اللاجئون المقرفصون، أو الملتصقون بالسياج، أخذوا يصفقون، ويصفقون، بعدما تلقوا الوعود في تلك المجمّعات المنشأة كيفما اتفق.
المسؤولون الأوروبيون لم يكونوا يقولون، طبعاً، لجموع اليائسين كل الحقيقة. الجزء الأكبر منها كان يقفز من على منابر القمة الأوروبية في بروكسل، حين انتهت فجر أمس. أعلن قادة المؤسسات الأوروبية الاتفاق مع تركيا على خطة عمل، من أجل «معالجة أزمة اللاجئين» على حدّ وصفهم. التفاصيل كثيرة بما يكفي لتغليف الصفقة المنتظرة بالإنسانيات. لكنها بالنهاية قائمتان: ما يجب على كل جانب فعله لإنجاز المقايضة.
أمام عدم وضوح الثمن الدقيق، والجداول الزمنية للتطبيق، لم يجد الصحافيون إلا السؤال: ماذا يعني، في النهاية، كل هذا؟ المسؤولون الأوروبيون يحتاجون بعض الوضوح هنا، ليقولوا لسكان الاتحاد الأوروبي إنهم يعملون من أجله، خصوصاً وسط تنامي موجة اليمين المتشدد المعادي لبروكسل. هكذا وجد رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك نفسه غير قادر على منع تلك الابتسامة الماكرة، وهو يقول «نحتاج مسؤولية ودوراً أكبر من الجانب التركي»، قبل أن يضيف مع بعض التردد «المزيد من أجل المزيد، يجب أن يتم التطبيق (لخطة العمل)، أنتم تساعدوننا ونحن نساعدكم، فالأمر بهذه البساطة».
أكثر الحريصين على مكانة بروكسل، كعاصمة للاتحاد، فضّل الحديث إلى الأوروبيين بمنتهى البراغماتية كي يؤكد لهم أنه ينجز مهمة رعاية مصلحتهم. رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر قال إن جوهر خطة العمل واضح: «ضمان أن اللاجئين سيبقون في تركيا، هذه القضية الأولى، والثانية منع سفر اللاجئين والمهاجرين من تركيا للقدوم إلى الاتحاد الأوروبي».
أهم ما ستحصل عليه تركيا هو تسريع مفاوضات اتفاقية مهمّة، لسفر مواطنيها إلى دول الاتحاد الأوروبي من دون تأشيرة دخول. الاتفاقية في الأحوال العادية تتضمن خمسة أبواب، من إدارة الحدود والهجرة إلى القضايا الأمنية والحريات الأساسية وصولا إلى مكافحة الجريمة، لتتضمن عشرات الشروط التفصيلية. الأوروبيون يعدون أنقرة بتسهيل المفاوضات، ودعمها مالياً وتقنياً لتلبية الشروط الكثيرة.
عمليتا الدفع والتسليم، لإتمام الصفقة، ستجريان بالتوازي، خطوة بخطوة، ليتمكن كل طرف من ضمان الحصول على ما يريد. الأوروبيون هنا يعدون تركيا بتجاوز مصاعب سياسية، ناتجة أصلاً من اعتراض اليونان وقبرص، إضافة إلى فرنسا ودول أخرى. جميعها قالت إنه لا يمكن إعطاء تركيا وضعا خاصا بل عليها الإيفاء بشروط «تحرير الفيزا».
على المستوى نفسه، تتعهد أنقرة بمكافحة شبكات تهريب البشر. القصد هو منع وصول القوارب المطاطية إلى برّ الجزء اليوناني قادمة من اليابسة التركية، بعدما حوّلها التغاضي المقصود للسلطات هناك إلى ما يشبه ميناءً نظامياً ينزح إليه الآلاف يوميا.
سياق الصدّ لا يتوقف هنا، بل يمتدّ إلى تعهدات تركيا بأنها، في مرحلة لاحقة، ستعيد استقبال كل اللاجئين العابرين منها إلى أوروبا. المقصود أيضا اللاجئون السوريون، كما أكدت مصادر أوروبية قبل كل شيء، هذه القضية مؤطّرة في ما يعرف باتفاقية «إعادة القبول»، التي شددت على تسريع سريانها أيضا خطة العمل، بعدما تم توقيعها بين الجانبين أواخر عام 2013. هنا أيضا ستطبق قاعدة الدفع والتسليم المتزامنة. وفق الاتفاقية الأصلية، يفترض أن يبدأ نفاذ اتفاقية «إعادة القبول» عام 2017، لكن التطبيق سيتسارع وفق شروط الصفقة الجديدة.
حين سألت «السفير» مسؤولاً أوروبياً، عمل في نطاق التفاوض مع أنقرة حول وضع اللاجئين السوريين ضمن الاتفاقية، أكّد أن «الإعادة» ستطالهم في النهاية. مفضلا عدم كشف هويته، قال بكلمات واضحة «هناك في اتفاقية إعادة القبول بند حول الالتزام بقبول مواطني دول الطرف الثالث (غير الأوروبيين وغير الأتراك) الذين يهاجرون بشكل غير شرعي إلى الاتحاد الأوروبي، وهذا البند سيكون ساريا حين تدخل الاتفاقية حيز التنفيذ». لتجنب الالتباس، أكد أن «السوريين مشمولون بذلك طبعا، فهم مسجّلون في تركيا».
لتأكيد هذا المنحى، تتعهد أنقرة ضمن خطة العمل بمواصلة تسجيل اللاجئين. المسؤولون في بروكسل أكدوا أن التسجيل تحت مسمّى «ضيف» لا «لاجئ» لا يحول دون تطبيق اتفاقية «الإعادة» على السوريين، طبعا وغيرهم من مواطني الدول الذين يعبرون من تركيا إلى أوروبا، ما داموا قد عبروا بشكل «غير شرعي». الاتفاقية هذه لا تشمل إعادة من سيحصلون على وضع لاجئ في الدول الأوروبية، لأنهم سينتقلون حينها إلى وضع قانون مختلف تماما، لكنها ستشمل كل من لم يصلوا بعد سريان الاتفاقية.
تقييم كيفية تعمل الصفقة، بناءً على وتيرة تنفيذ كل طرف لتعهداته، سيتم في ربيع العام المقبل. الصفقة تشمل ترتيبات كثيرة، تمتد للتعاون القضائي والشرطي وفي إدارة الحدود، يجري استكمالها ووضع إطار زمني لتطبيقها. رفضت أنقرة إقامة ستة مخيمات جديدة، كانت الدول الأوروبية تطالب بها سابقاً. الدول الأوروبية ستقدم مساعدات بحوالي 3 مليارات يورو، يفترض أن تذهب من أجل «تقليل حوافز» مغادرة اللاجئين. يشمل ذلك تحسين شروط حياتهم في المخيمات التركية، أنظمة العناية الصحية والمدارس ووصولهم إلى سوق العمل. يسري ذلك أيضا، مع فرق معتبر في حجم المساعدات، على مساعدة لبنان والأردن والعراق، في سياق عملية «تقليل الحوافز» الشاملة. لكن هذا لا يلغي أن الأوروبيين يواجهون مشكلة في تأمين التمويل، خصوصا أن برامج مساعدة اللاجئين الحالية تواجه فجوة بنحو 2.3 مليار يورو، هي أموال وعدت بها الدول الأوروبية ولم تسددها حتى الآن.
سياسة هنغاريا المتصلبة ستنقل الأزمة إلى مستوى آخر، إذا ما نفذت تهديداتها بإغلاق حدودها مع كرواتيا. آلاف اللاجئين سيجدون أنفسهم ينتظرون في العراء ومن دون أفق.
القضايا السياسية لم تكن خارج النقاش على ما يبدو، وإن لم توضع طبعاً في قوائم تعهدات الطرفين. صحيح أن أنقرة تقف في موقع متقدم، بخصوص العداء لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، لكن أوروبا على اختلاف موقفها تبقى في الضفة نفسها. الجميع يقول إن وقف الحرب السورية بات ملحّا، ليكون بمثابة إبطال المضخة الأساسية لسيل اللجوء. أنقرة تقول إن لا حل مع الأسد، وأوروبا باتت تجمع على أن لا حل طويل الأجل معه، مع قبول ببقائه في فترة انتقالية.
القمة الأوروبية ناقشت تطورات المشهد السوري في حربه العابرة للدول. رئيس الوزراء الاسباني ماريانو راخوي قال معلقا على محادثاتهم «لا بد من تطبيع الوضع في هذا البلد»، قبل أن يضيف «العدو الرئيسي هو داعش، ومن هذه النقطة يجب أن تكون هناك حكومة مع أوسع تمثيل ممكن، لا يقودها الأسد».
هناك زعماء آخرون عزفوا على النغمة نفسها تقريباً. الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند تحدّث عن ضرورة «التحرك بأقصى سرعة ممكنة نحو عملية انتقالية سياسية». شدد على أن التدخل الروسي العسكري «قد يقوّي النظام السوري»، قبل أن يؤكد أنه «لن ينقذ الأسد».
لكن هذا لا يمنع وجود بعض التفاوت، يمكن قياسه بالتفسيرات المختلفة لمتى يجب أن يحين «المدى الطويل». حين سألت «السفير» رئيس الوزراء الايطالي ماثيو رينزي، عن الموقف من التحرك الروسي في سوريا، لم يتحدث بالنبرة التي يعتمدها نظيره الفرنسي. رد بالقول إنه «من المهم إشراك تحالف دولي واسع.. من المهم إشراك روسيا في هذا التحالف، لكن من الخطأ أن نترك فقط لروسيا أن تقود هذه الإستراتيجية»، قبل أن يشير إلى ضرورة ضبط الاختلافات الأوروبية في أوركسترا نافذة: «نحتاج إلى استراتيجية شاملة، لهذا السبب، مع كل الشركاء والزملاء، كل واحد (يجب أن يعمل) لنجد حلا، لكن هذا الحل يجب ألا يكون ببساطة ردّ فعل منقاداً خلف الرأي العام أو خلف الأخبار الساخنة، بل نحتاج استراتيجية للسنوات المقبلة وليس فقط للأيام المقبلة».