افراسيانت - إذا كانت جرائم الاختطاف في العراق تنتهي دائما بإهمال القضايا وإقفال الملفات دون معاقبة الجناة، فذلك لأن من يرتكب الجريمة هو ذاته من يتولّى زمام الأمن في البلاد ومن توكل إليه، بشكل غير مباشر، مهمّة تخليص المخطوفين وتعقّب الخاطفين ومعاقبتهم.
فقد اكتفى وزير الداخلية العراقي قاسم الأعرجي الأحد بوصف عمليات الاختطاف المتفاقمة في البلد بأنّها “جريمة يعاقب عليها القانون”، قائلا إنّ وزارته “لن تتهاون في التعامل مع الخاطفين”.
وجاء كلام الأعرجي الذي كان يتحدّث إثر استضافته من قبل لجنة الأمن والدفاع البرلمانية لمناقشة قضايا الخطف والابتزاز، فيما الشارع العراقي ما يزال يردّد أصداء عملية اختطاف سبعة من نشطاء الحراك المدني المطالب بالإصلاح، أطلق سراحهم الأسبوع الماضي، دون الكشف عن هوية الخاطفين والإجراءات التي ستتّخذ ضدّهم.
ومثل المئات من القضايا المشابهة، يتوقّع أن تنسب الجريمة لمجهول ويغلق الملف دون متابعة وأن تصمت أجهزة الدولة عنه، وأن يجبر المخطوفون وذووهم أيضا على الصمت حفاظا على حياتهم، نظرا لأنّ الجهات الخاطفة ليست سوى إحدى الميليشيات الشيعية ذات السطوة والنفوذ، والشريكة في حكم البلاد عبر وزراء ومسؤولين كبار من بينهم وزير الداخلية قاسم الأعرجي الذي ينتمي إلى منظمة بدر إحدى أقوى وأشرس تلك الميليشيات.
وكثيرا ما يثير عراقيون مسألة استيلاء أطراف حزبية شيعية تمتلك ميليشيات قويّة على مناصب ووزارات سيادية في الدولة في مقدّمتها وزارة الداخلية، قائلين إنّ تلك الميليشيات تكون في قضايا كثيرة مثل قضايا الاختطاف بمثابة الخصم والحكم، فهي التي تختطف وتساوم، وهي من جهة أخرى التي تسند لها بطريقة غير مباشرة مهمة ملاحقة الخاطفين وتخليص المخطوفين، الأمر الذي يفسر نفاذ من يرتكبون جرائم الاختطاف من القضايا دون عقاب.
وقال الأعرجي إنّ “موضوع الخطف جريمة يعاقب عليها القانون بكل أشكالها سواء للابتزاز أم المساومة أم لأغراض عشائرية، وأن غايتنا الأولى هي تحرير المختطف ومن ثم التعامل مع الخاطفين”.
وتابع أن “الوزارة لن تتهاون في التعامل مع الخاطفين قائلا إنّ “القضاء يقوم بإجراءاته في هذا الصدد وأن الوزارة ستقوم بنفس الإجراءات مع كل من يقوم بالخطف”.
وأرجعت لجنة الأمن والدفاع البرلمانية التي استضافت الوزير، توسّع عمليات الخطف والجريمة المنظمة إلى أنّ العصابات التي تمارسها “تستمد قوّتها من خوف عناصر السيطرات الأمنية (نقاط التفتيش) من المجاميع الإجرامية التي ترتدي الزي العسكري”.
فوضى السلاح وتغول الميليشيات يقلصان آمال العراقيين في مرحلة جديدة من الأمن والاستقرار بعد الحرب المرهقة ضد داعش
ويتضمّن ذلك إشارة واضحة إلى الطريقة التي تتم بها عمليات الاختطاف على أيدي مجاميع مسلّحة تخترق شوارع وأحياء المدن بما فيها العاصمة بغداد التي تعجّ بالحواجز والدوريات الأمنية، بأسلحتها وسياراتها رباعية الدفع والخالية من لوحات الأرقام، دون أن يتعرّض لها أحد كونها تتمتّع بنوع من الحصانة، بل إنّ سلطاتها تفوق في الكثير من الأحيان سلطات الأجهزة الأمنية.
ويصنّف تفاقم ظاهرة الاختطاف في العراق ضمن فوضى السلاح المستشرية وبلوغ الميليشيات الشيعية درجة غير مسبوقة من القوّة والتسيّب بفعل مشاركتها في الحرب ضدّ تنظيم داعش ضمن ما يعرف بالحشد الشعبي.
ويعتمد الخطف كوسيلة لتحصيل مكاسب مالية عن طريق أموال الفدى، ولتصفية الحسابات مع الأفراد والأحزاب وحتى الدول.
وسبق أن اختطفت ميليشيا حزب الله العراق عمّالا أتراكا استُخدموا في الضغط على تركيا التي تخوض صراعا وتنافسا في المنطقة مع إيران ذات الصلة الوثيقة بأغلب الميليشيات الشيعية في العراق.
كما تمّ اختطاف مجموعة من الصيادين القطريين أثناء وجودهم بصحارى جنوب العراق، وأطلق سراحهم مؤخرا ضمن صفقة مالية، وأيضا سياسية تجاوزت حدود العراق لتشمل الملف السوري.
ويُظهر منفذو عمليات الاختطاف في العراق درجة عالية من التنظيم والتسليح ويستخدمون أزياء موحّدة وسيارات دفع رباعي لا تتوفر عادة لعصابات الجريمة المنظمة ولكنها متاحة للميليشيات.
وكثيرا ما يثير تنقل منفذي عمليات الاختطاف في مواكب كبيرة ومكشوفة للعيان أسئلة عن دور القوات الأمنية خصوصا في مدينة مثل بغداد تخضع أغلب مناطقها لرقابة أمنية مشددة ينفذها عشرات الآلاف من الجنود ورجال الشرطة.
وتحوّل الاختطاف في العراق إلى حدث يومي “عادي” وغدا من النادر ألا يتم الإعلان عن حالة خطف فردي أو جماعي.
وغالبا ما يحرص ذوو المختطفين على السرية حفاظا على حياة أبنائهم وأقاربهم. كما أن المختَطفين أنفسهم بعد أن يتم إطلاق سراحهم مقابل فدية مالية يلتزمون الصمت في ظل عزوف الأجهزة الأمنية عن متابعة قضاياهم. ولا يبدو غريبا أن تكون لتلك الأجهزة يد في عمليات الاختطاف كما حدث مؤخرا لسكان إحدى القرى الواقعة في ضواحي بغداد، حين جرى اختطاف أكثر من أربعين شابا منها بحضور ممثلي الأجهزة الرسمية.
وتُصنّف ظاهرة الاختطاف ضمن الفوضى الأمنية التي يشهدها العراق وتمتزج فيها الجريمة المنظمة التي تقوم بها عصابات تهدف إلى الربح المادي بعمليات الانتقام السياسي التي تقوم بها ميليشيات محمية من قبل جهات رسمية وشبه رسمية ضد المناوئين والمناهضين لمنظومة الفساد، والداعين للتخلّص من نظام المحاصصة الحزبية والطائفية. وكثيرا ما يسقط الجدار الذي يفصل بين الأمرين فيمتزج الانتقام بالبحث عن مكاسب مادية.
وتثير فوضى السلاح وتغوّل الميليشيات حالة من اليأس لدى العراقيين بشأن مستقبل بلدهم وإمكانية الخروج من دوامة العنف التي يشهدها بعد الحرب المرهقة ضدّ تنظيم داعش، والتي توشك على نهايتها دون أن تلوح من ورائها آفاق مرحلة جديدة من الأمن والاستقرار.
العرب اون لاين