افراسيانت - ازدادت الهجرة عسرا بعد انتشار الفوضى في العديد من الدول العربية والأفريقية، إضافة إلى القيود التي تفرضها الدول الأوروبية على القادمين إليها بشكل غير شرعي، هذه الأوضاع دفعت الحالمين بالعيش في دول تؤمن لهم كرامتهم إلى خوض مغامرات خطيرة عبر البحر الأبيض المتوسط انطلاقا من ليبيا، لكن بعضهم تتكسر أحلامه على أمواج البحر العاتية فيعود جثة هامدة إلى الشواطئ التي انطلق منها.
اذ “لا يكاد يمر يوم دون أن تصل جثث إلى الشاطئ”، هذا ما يحكيه منصور عبداللطيف، أحد عناصر حرس السواحل الليبي في مدينة “القره بوللي”، شرق العاصمة طرابلس.
وتطل القره بوللي على الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، وتقابلها شمالا جزيرة مالطا، وجزيرة صقلية الإيطالية.
شواطئ القره بوللي تمتد على خليج يسمى “مصيف القربوللي” ذو الأمواج الهادئة، يشكل منطلقا مناسبا للإبحار، حيث ينطلق منه المهاجرون السريون الراغبون في ركوب البحر للعبور إلى الضفة الشمالية من البحر المتوسط، إلّا أنه في الوقت ذاته يشكل أرضا لاستقبال جثث الغرقى منهم، والتي تقذفها أمواج البحر نحو الشاطئ.
ومع تكرار مشاهد الجثث التي يقذفها البحر على ساحل القرة بوللي في العامين الأخيرين، لم تعد جثث المهاجرين السريين الملقاة على شاطئ المدينة الريفية الصغيرة، حدثا يتداوله السكان، ولا حتى صورا ترعب الأطفال.
وفي هذا السياق، قال عبداللطيف الذي يحرس ساحل القره بوللي مع زملائه “للأسف لم يعد الأمر حدثا جديدا، بالنسبة إلينا أو إلى سكان المدينة”.
وأضاف “الناس تعوّدوا (على رؤية جثث المهاجرين السريين)، وأصبح الأمر جزءا من حياتهم، الكل يتجنب الجثث، ويبتعد عنها، ولم تعد تخيف الصغار كما في السابق”.
رحلة الموت
يسترجع عبداللطيف المشهد من بدايته بالقول “نرى المهاجرين ينتظرون فرصة للإبحار، لا نملك لهم شيئا، قانونيا مطلوب منا منعهم من الإبحار، ولكننا لم نعد نملك السيارات الرباعية التي تسمح لنا بالتجول على الشواطئ ومنعهم من الإبحار، ولا القوارب التي تسمح لنا بإنقاذهم في البحر”.
“عندما تصل الجثث إلى الشاطئ، تبقى في الكثير من الأحيان ملقاة لأيام، البعض يغطيها الرمل، ونكتشفها بعد أسابيع، بهذا الشكل يصف عبداللطيف، مصير الكثير من المهاجرين السريين القادمين من بلدان عديدة، عربية وأفريقية طحنتها الأزمات، على أمل تحقيق حلم العيش بكرامة ورفاهية في القارة الأوروبية، قبل أن ينتهي بهم الأمر جثثا مسجاة على الرمال، لا تملك حتى حق التعجيل بدفنها كبقية الأموات.
ويشير عبداللطيف، إلى أن “ملامح وجوه الجثث لم تعد تعرف، حتى تصويرها لغرض التعرف عليها، سواء من قبل أهاليهم أو من قبل الدول التي انطلقوا منها، ليس سهلا”.
ويتابع بنبرة حزينة “تصل الجثث بعد أن قضت أياما طويلة في مياه البحر، لذلك يكون لون الجلد قد تغير في الكثير من الأحيان جراء الماء المالح”.
وأكثر ما يقلق السكان في المنطقة، ليس بشاعة منظر الجثث، إنما “تسببها في انتشار الأمراض والأوبئة في المدينة، فالعديد من الجثث يظهر فيها الدود، وتصدر منها رائحة التعفن”، حسب المصدر ذاته.
ولأنه لا أهل يسألون عنهم أو يتعرفون عليهم، ولا وطن لديهم يحرص على نقل جثثهم ودفنها بما يليق بكرامة كل إنسان بعد الممات، يقوم أشخاص متطوعون بدفنهم في مقبرة قريبة من الشاطئ خصصت للمهاجرين الغارقين، قبل فترة.
ويلفت عبداللطيف النظر إلى أن “عادة، عملية نقل الجثث ودفنها لا تتم إلا بعد عدد من الإجراءات القانونية منها إصدار شهادة وفاة، ولكن ما يهمنا الآن هو سرعة دفن الجثث حتى لا تتعفن أكثر فأكثر”.
وحول سبب تقاعس حرس السواحل عن القيام بدوره يقول عبداللطيف “الدولة لا توفر لنا شيئا، حتى الرواتب لم تعد تصلنا، وإن وصلت، فنحن غير قادرين على الحصول عليها”.
أحد حراس السواحل: لم تعد جثث المهاجرين السريين الملقاة على شاطئ المدينة الريفية الصغيرة، حدثا يتداوله السكان، ولم تعد تخيف الصغار كما في السابق.
ويواصل “رأينا بعض القوارب تنطلق من هنا، مكتظة جدا، فالقارب الذي لا يمكن أن يحمل العشرات يحمل المئات، وهناك قوارب رأيتها، تحمل رجالا ونساء وأطفالا ورضعا، عدد منهم يكون جالسا على حافة القارب وهو يمسكه بقوة كي يستطيع الإبحار، أنا متأكد أن هذه القوارب لن تصل، وأنها غرقت في البحر، ولكن لا نملك شيئا للأسف؛ لا نملك منعها ولا نملك إنقاذها”.
وفي صورة تعكس عجز السلطات الليبية عن وقف الهجرة السرية، قال عبداللطيف، “حتى الذين سبق وأن منعناهم من الإبحار، لا نملك أكثر من احتجازهم لساعات أو لأيام.. ثم نطلق سراحهم”.
وبرر ذلك “نحن لا نملك لهم شيئا، لا المكان، ولا إمكانية رعايتهم، ولا حتى توفير الوجبات اللازمة لهم، حتى المؤسسات الدولية التي عملت على تقديم خدمات للمهاجرين في وقت من الأوقات، مثل الهلال الأحمر وجمعيات الأطباء التي كانت تنصب خياما وتقدم أبسط الخدمات الطبية وعددا من الوجبات، لم نعد نراها”.
ويقول عبداللطيف عن سبب غياب هذه المنظمات، “البعض يقول إنها لم تعد قادرة على العمل في ليبيا، والآخر يقول إن الوضع الأمني تفاقم ولم تعد لها القدرة والإمكانيات على العمل، لا ندري ولكن هناك شعورا بأن موضوع الهجرة لا يهم أحدا، سوى المهاجرين أنفسهم الساعين للوصول إلى أوروبا”.
في الاتجاه نفسه، يقول بسام الغربلي، العامل في إدارة مكافحة الهجرة غير الشرعية الليبية “هناك اهتمام كبير بمسألة الهجرة، وندعى إلى اجتماعات عديدة في طرابلس وفي تونس، مع منظمات دولية وسفراء دول أوروبية، في كل مرة تشكل لجان متابعة، ولكن على أرض الواقع لا نرى شيئا ملموسا، تُطلب منا تقارير عديدة، لا ندري ماذا يُفعل بها”.
وأشار الغربلي إلى أنه “ليست هناك وصفة سحرية لمسألة الهجرة، الآن الكل يعرف المسالك التي يمرّ بها المهاجرون، والدول التي ينطلقون منها، والوقت الذي يقضونه في ليبيا للعمل من أجل الحصول على المبلغ الكافي للهجرة ثم ينطلقون في قوارب الموت، ولكن في نهاية المطاف، لا أحد يملك لهم شيئا”.
ويستطرد الغربلي قائلا “ما الحل الذي يمكن أن يقدم إلى السوريين؟ أو إلى الإرتريين على سبيل المثال؟ لا نملك لهم شيئا، هم اليوم ينطلقون من ليبيا لأن الأمر سهل من هنا، وليس هناك أمن يمنعهم، ولكن عندما يعود الأمن والحرس إلى العمل في ليبيا، سينطلقون من أماكن أخرى إلى أوروبا”.
ظروف لا تراعي السلامة
يخوض الآلاف من السوريين شهريا البحر، باحثين عن حياة أفضل في دول الاتحاد الأوروبي التي عرف عنها أنها تمنح حق اللجوء الإنساني والسياسي للهاربين من جحيم الحرب في بلادهم، ينطلق بعض هؤلاء في مراكب بالية، متحدّين الموت، عبر البحر المتوسط، انطلاقا من ليبيا باتجاه إيطاليا كمحطة أولى قبل الوصول إلى ألمانيا أو السويد أو هولندا أو غيرها من الدول التي تستقبل اللاجئين السوريين وتمنحهم السكن والبدلات النقدية الشهرية التي تعينهم على بدء حياتهم في بلادهم الجديدة.
أحمد (اسم مستعار اختاره خوفا من دائرة الهجرة)، شاب سوري يعمل في محل حلاقة، في أحد أحياء طرابلس، يقول إنه أصيل ريف دمشق، غادر سوريا في 2014، وعاش أشهرا في تركيا، ثم انتقل إلى مصر، ووصل إلى ليبيا في منتصف 2015.
يروي أحمد “وصلت إلى ليبيا لتواجد أقارب لي استقروا هنا، ولجأت إلى العمل معهم، غير أنهم خلال الصيف الماضي قرروا ترك ليبيا وهاجروا إلى أوروبا بحرا، بعد أن دفع كل واحد منهم 2500 دولار للمهربين، وهم الآن في ألمانيا وعن قريب سيحصلون على أوراق لجوء وإقامة قانونية”.
لا توفر الدولة لحرس السواحل شيئا، حتى الرواتب لم تعد تصلهم بشكل منتظم، إضافة إلى عدم توفر السيارات لمراقبة الشواطئ والقوارب لإنقاذ الغرقى.
ولفت إلى أن “المبلغ يبدو أغلى من المعدل، الذي يتراوح بين 400 إلى 500 دولار، ولكن اشترطوا أن يكون القارب آمنا، وألا تكون حمولته أكثر من طاقته”.
ويواصل أحمد “أنوي كذلك الهجرة إلى أوروبا، ولكن أنتظر فرصة آمنة لأعبر البحر”، مضيفا “في ليبيا الناس طيبون، ولكن لا يمكننا أن نحصل على إقامة قانونية، وليس هناك استقرار يسمح لنا بأن نعمل ونستقر، فنحن هربنا من حرب في سوريا ليس لنعيش في حرب أخرى”.
وحول مخاطر الهجرة وإمكانية الغرق يقول أحمد “ليس لي خيار غير الهجرة، وسيكلف الأمر مبلغا كبيرا أعمل على توفيره، ويساعدني أقاربي في ذلك”.
ويقول أحمد “أدخر ما بين 100 إلى 120 دولارا شهريا، من عملي في محل الحلاقة، ومن إصلاح الهواتف النقالة أحيانا”. ويجزم “لن أهاجر في الرحلات التي تتكلف بـ400 و500 دولار للفرد، لأنها غير آمنة، ومخاطر الغرق لا تخيفني ولن تمنعني”.