افراسيانت - أشرف الصباغ - عرج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في طريق عودته من قمة العشرين في الصين على أوزبكستان حيث التقى رئيس حكومتها في مدينة سمرقند ووضع الورود على ضريح الرئيس الراحل إسلام كريموف.
هذه الخطوة من جانب الرئيس الروسي حملت أهمية استثنائية، نظرا لخصوصية علاقات البلدين من جهة، والمنظومة السياسية والأمنية والاقتصادية التي تحكم العلاقات بين موسكو وطشقند من جهة أخرى. وفي الحقيقة، فقد أجمل بوتين كل ذلك في عبارات بسيطة وموجزة:
-"أوزبكستان، شعبا وقيادة، يمكنها أن تعتمد كليا على روسيا كصديق وفيِّ لها".
-"إسلام كريموف وضع أساسا متينا في العلاقات بين بلدينا، سواء كانت علاقات استراتيجية أو علاقات شراكة استراتيجية".
-"نأمل بطبيعة الحال في استمرار كل ما وضعه الرئيس إسلام كريموف. ونحن من جانبنا سنفعل كل ما بوسعنا لدعم مسيرة تطورنا المشترك ودعم الشعب الأوزبكي والقيادة الأوزبكية".
وفي نفس اليوم، الثلاثاء 6 سبتمبر/ أيلول، أعلن نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون جنوب ووسط آسيا دانيال روزنبلوم أن الولايات المتحدة تعتزم مواصلة علاقات الشراكة مع أوزبكستان بعد وفاة الرئيس إسلام كريموف. وقال "أنا هنا في طشقند في هذه الأيام، لتقديم العزاء بوفاة الرئيس كريموف، وكذلك للتدليل على الالتزام المستمر لشراكتنا مع أوزبكستان".
وإذا كانت أوزبكستان ضمن برنامج "الشراكة من أجل السلام" الذي أنشأته الولايات المتحدة عقب تفكك الاتحاد السوفيتي لتحتوي فيه الجمهوريات السوفيتية السابقة، تمهيدا للتعامل معها بعيدا عن روسيا، وبعيدا عن محيطها الإقليمي والتاريخي، فقد كانت هناك رابطة الدول المستقلة التي تم إنشاؤها لاحتواء أي آثار جانبية لعملية تفكك الاتحاد السوفيتي والتي ضمت 12 جمهورية سوفيتية، عدا دول البلطيق الثلاث (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا). وفي 15 مايو 1992، قامت 6 دول سوفييتة سابقة (روسيا وأرمينيا وكازاخستان وطاجيكستان وقيرغيزستان وأوزبكستان) بالتوقيع على معاهدة أمنية جماعية. وفي العام التالي انضمت أذربيجان وبلاروس وجورجيا. وبعد 5 سنوات وافقت 6 دول على تجديد المعاهدة لخمس سنوات إضافية، ما عدا أذربيجان وجورجيا وأوزبكستان. وفي عام 2002 وافقت الدول الست (روسيا وأرمينيا وكازاخستان وطاجيكستان وقيرغيزستان وبلاروس) على إنشاء منطمة معاهدة الآمن الجماعي. وفي عام 2006 عادت أوزبكستان للانضمام إلى المنظمة، لكنها انسحبت مرة أخرى في عام 2012.
لم تغادر أوزبكستان برنامج "الشراكة من أجل السلام"، ولكنها كانت على علاقة معقدة نسبيا مع الهيئات والمنظمات التي تضم الجمهوريات السوفيتية السابقة. ووصلت الأمور إلى أنه بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، عرض الرئيس إسلام كريموف على واشنطن إنشاء قاعدة عسكرية لها في أوزبكستان. وبالفعل تم إنشاء قاعدة "خان آباد" العسكرية الأمريكية في جنوب أوزبكستان. وبعد ما يقرب من 5 سنوات، أصدر كريموف قرارا بإغلاق هذه القاعدة، بنتيجة توحش الأمريكيين في بلاده، وتوسعهم في استخدام مجالها الجوي وإمكانياتها. وتصادف أن قامت احتجاجات واسعة في البلاد في تلك الفترة، ما أثار قلق وغضب الرئيس الأوزبكي من الشريك الأمريكي الذي كان قد بدأ يتعامل مع أوزبكستان كما يتعامل مع جمهوريات الموز في أمريكا اللاتينية.
على مدى 26 عاما هي كل فترة حكم الرئيس إسلام كريموف (1990 – 2016) خضعت بلاده للعديد من الاستقطابات، والشد والجذب، ومحاولات الاستمالة بشتى الطرق. وخلال السنوات العشر الأولى من حكم كريموف حاولت تركيا إعادة اللغة التركية إلى أوزبكستان أو استخدام حروف الكتابة التركية وفتح منافذ اقتصادية. ومن جهة أخرى حاولت دول الخليج إعادة الحروف العربية وضخ استثمارات هائلة في الاقتصاد الأوزبكي. ومن جهة ثالثة، بدأت الصين بضخ استثمارات بسيطة لاختبار الأجواء وردود الأفعال. وفي نهاية المطاف تمكن كريموف من العبور فوق "المغازلات السياسية والمالية والاستثمارية" ومحاولات الالتفاف على دولته التي تحتل موقعا استراتيجيا في آسيا الوسطى، ويواصل طريقه الأوزبكي المستقل، وعقد شراكات متكافئة مع الصين وروسيا وبقية دول المنطقة والعالم، والالتزام بسياسات متوازنة مع الحفاظ على مصالح الشركاء الذين تربطه بهم علاقات استراتيجية – تاريخية. وربما تكون عضوية أوزبكستان في منظمة شنغهاي للتعاون انعكاسا لكل هذا الكلام.
وعلى الرغم من كل ذلك، فالمحاولات الأمريكية لا تزال قائمة بشأن هذا البلد الذي تأسست بنيته التحتية في العهد السوفيتي، وكان مركزا للصناعات السوفيتية الثقيلة مثل الطائرات والجرارات وغيرها. فعقب وفاة الرئيس الأوزبكي عزَّاه الرئيس الأمريكي باراك أوباما بكلمات أثارت الدهشة والاستغراب. إذ أعرب عن تعاطفه مع شعب أوزبكستان، وهنأه بيوم الاستقلال، إلا أنه قال إن "أوزبكستان ستبدأ الآن فصلا جديدا في تاريخها يكون فيه مكان للسيادة والأمن والمستقبل ويقوم على احترام حقوق جميع مواطنيها". أي نفس التصريحات الملتوية التي يطلقها الأمريكيون قبيل الإقدام على عمليات الابتزاز السياسي في هذه الدولة أو تلك.
وجاء الرد سريعا على لسان رئيس لجنة مجلس الدوما للشؤون الدولية أليكسي بوشكوف الذي رأى أنه "لا مكان للولايات المتحدة في الفصل الجديد من تاريخ أوزبكستان". وقال "إن أوباما يعتقد أن أوزبكستان تفتتح فصلا جديا في تاريخها لكنه مخطئ إذا كان يعتقد بأنه سيتضمن واشنطن".
في الواقع، فالولايات المتحدة لا تكتفي بالتصريحات، ولكنها تقوم بخطوات مهمة في اتجاه التسلل مجددا إلى آسيا الوسطى. فقد أعلن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري عن إطلاق مبادرة مشتركة مع دول آسيا الوسطى حول "الحوار" بشأن محاربة الإرهاب في المنطقة. واستضاف، في 3 أغسطس/ آب الماضي، وزراء خارجية كازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان أوزبكستان في واشنطن، وقال موجها الحديث لهم: "يتعلق أحد البرامج التي سنطلقها اليوم، ببدء حوار في إطار المناقشات العالمية حول مكافحة الإرهاب، سيركز على دول آسيا الوسطى في التصدي لنزعات التطرف، وتخفيض الخطر التي يشكله الإرهابيون الأجانب في مناطق الصراع بالشرق الأوسط".
كما أعلن الوزير الأمريكي عن خطط واشنطن لتخصيص مبلغ قدره 15 مليون دولار لمساعدة دول آسيا الوسطى في إنتاج الطاقة الصديقة للبيئة والاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة. وأكدت السفارة الأمريكية في أوزبكستان على أن مبلغ 15 مليون دولار، الذي تحدث عنه كيري، سيخصص لتمويل مشاريع مشتركة في "محاربة الإرهاب، وتوسيع تبادل التجارة، وتطوير قطاع الطاقة المتجددة".
أما وزارة الخارجية الأوزبكية فقد قالت، تعليقا على اللقاء، إن "المناقشات ركزت على مواضيع التعاون المشترك في مجالات الاقتصاد والبيئة والأمن". ولكن لا أحد تحدث عن اللقاء بصيغة "С5+1" (دول آسيا الوسطى الخمس+ الولايات المتحدة) الذي شارك فيه ممثلو أوساط الأعمال في الولايات المتحدة والمستثمرون المهتمون بالعمل في سوق آسيا الوسطى. والمعروف أن أول لقاء بهذه الصيغة بين كيري ووزراء خارجية دول آسيا الوسطى عقد في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 في سمرقند بأوزبكستان.
في نهاية المطاف، تظهر ورقة أوزبكستان من جديد، وتُبعَث آمال وطموحات الولايات المتحدة في فتح قواعد عسكرية، أو ضخ استثمارات بحجم معين مقابل شروط ومطالب سياسية واقتصادية، وربما أمنية، خاصة وأن أوزبكستان تواجه عمليا ضربات الإرهاب من الداخل ومن الحدود، وهي تجاور أفغانستان أصلا. ولا يمكن أن نتجاهل أحداث وادي فرغانة، أو الصدامات العرقية على الحدود مع قيرغيزستان. وبالتالي، قد تبدأ الولايات المتحدة باستخدام بعض الأوراق بنفس طريقة استخدامها في الشرق الأوسط. ما يعني أنه كلما كانت فترة ما بعد كريموف قصيرة، كلما تم الحفاظ على الأوضاع الأمنية والاجتماعية والسياسية في البلاد. وهو ما أعرب عنه بوتين عشية توجهه من الصين إلى أوزبكستان بأن "تبقي القيادة الأوزبكية الجديدة على استقرار بلادها.. سوف تأتي شخصيات جديدة إلى السلطة في أوزبكستان، وهي التي ستقرر ما عليها فعله مستقبلا.. آمل كثيرا في أن يتمكنوا من الحفاظ على الاستقرار الذي أشرت إليه في بلدهم.. هذا الأمر يحظى بأهمية منقطعة النظير بالنسبة إلى بلد كأوزبكستان، إذ لا بد منه للحفاظ على الذات ومستقبل التنمية"، والحفاظ على أواصر الصداقة القائمة بين روسيا وأوزبكستان، وفي تطويرها مستقبلا.. سوف نبذل كل ما في وسعنا من أجل المضي قدما" في هذا الاتجاه".
أوزبكستان الآن في مواجهة "قطَّاع الطريق" من كل الأنواع: مغامرون سياسيون في الداخل، ومغامرون جيوسياسيون من وراء المحيط، وجماعات وتنظيمات إرهابية محلية ودولية.. وبالتالي فكلمات بوتين تمثِّل رسالة في غاية الأهمية لدولة ذات ثقل في منطقة آسيا الوسطى.