مجلة أفراسيا - ماري طوق - كان مالارميه قد تحدّث عن «الشتاء الواضح البصيرة»، وفيليب جاكوتيه عن هذا الفصل «الذاهب قدماً أكثر من باقي الفصول»، كذلك شتاء عباس بيضون في ديوانه الجديد «صلاة لبداية الصقيع» شتاء «مبصر ونظيف وكامل الوضوح»، شتاء يتسيّده الجفاف: «النهار قاحل تماماً وحين جرحته بظفري لم تنزل منه قطرة واحدة» («عتمة»)، والاحتراق الأعمى، والصمت.
إذ «كيف بإمكان عصفور أن يغنّي، على حدّ قول رينيه شار، وهو «محتبس في علّيقة الأسئلة؟»؛ حينئذٍ «يتركنا الهواء ثم يعود إلينا ومن جديد يعود الصمت إلى الدوران، وفي اللحظة التي لا نجد فيها كلمة لنا يلوح الخيط المدفون فينا كفكرة وربّما كاسم وربّما كنصل» («الصمت»).
عسير هذا الوحي الذي يريد الشاعر استنطاقه من الصمت: «لا شيء هنا سوى الوحي والوحي لا يتكلّم كثيراً وينفذ بالكاد من الفكّين المطبقين، يصل حرفاً واحداً ويتحطّم قبل أن نفهمه «(نساء الزهايمر»).
وإذا نطق الصمت فبالأسرار. لم تعد الكلمة تمطر كثيرا فوق الأشجار. كان هذا في زمن سابق. والنهار الكسير»بمصله الرمادي» فقد كلّ قدرة على الشفاء.
الصاعقة التي لم تسقط من السماء أحرقت كلّ ما في طريقها ولم تخلّف إلا «بقايا متفحّمة»، حرائقها لا تضيء بل تحيل كلّ شيء إلى رماد.
الكلمة لا تصطدم بالبياض بل بالرماديّ والمتفحّم الذي هو جواب الأسئلة كلّها، ومفتاح الطمأنينة، طمأنينة العدم، ذلك أنّ: «الاختبار الأعظم يعيدنا محترقين إلى المحطة. قبل ذلك تحترق الأجوبة كلّها، ونبقى مطمئنّين لأنّ الجثة تعرف».
للصمت ثقوب سوداء، والسباحة في بحره خداع، والعبور وهم في هذا اليمّ التوراتي الأبوكاليبتي:» فجأة ينعب غراب فتتراجع الموجة ولا ندري من أيّ زمن يصعد النعيب المتفاوت كثيراً»(«الغراب»). الإبحار مستحيل لأنّ الزورق غير موجود أصلاً:» لن تجد زورقاً هنا، لكنّ السابحين لا يدركون أنّ هذا الصمت قد يكون حطام سفينة، وأنّهم قد لا يخرجون أحياء من العصر التوراتي»(«الغراب»).
وإذا وُجد الزورق فهو لا يبلغ مرماه أو أنّه يبحر إلى حيث لا يصل أحد: «سرنا مع ذلك بعيون وصدور فارغة/ المدينة مرئيّة من خلالنا/ استرددنا أعيننا وسلاحنا / ووضعناها مع الذخائر في قارب/ وحججنا زمراً/ يطير فوقنا الهدهد / إلى حيث لا يصل أحد.» («في القارب» ولا يسعنا إلا أن تذكّرنا خاتمة هذه القصيدة بقارب عزرا باوند: «على متن تلك السفينة الداكنة وضعنا خرافنا وأجسادنا أيضاً»).
والماء حيثما وُجد أسود، أومُهلك: «رأسي وحده الذي نجا. فريقي اختفى كأنّما كان ينوي إغراقي» («خارج الصفحة»). ليس في هذه الصلاة أي فضاء خلاصيَّ فالملائكة ماتت والمزامير سكتت، والنحلات، وهنّ رسولات الكلام (اللواتي كنّ فيما مضى يحططن على أفواه الشعراء) أماتهنّ الصقيع.
ما أبعدهنّ عن نحلات ريلكه: «نحن نحلات اللامرئي. بكامل اللهف نجني عسل المرئي لنسكبه في فقائر اللامرئي الذهبيّة الكبيرة».
لا رحيق تجنيه لأنّ «الأزهار مريضة». يغدو الكلام ثقيلاً ثقل الحيرة واللايقين حيث كلّ كلمة تزن حجراً وإن التمعت فالتماع سكين. كلّ شيء في المشهد الجوانيّ كامد، ورمادي، ومتحجّر، فكيف بوسع صلاة بطيرانها الأرضي المتكسّر أن ترتفع إلى فضاء أعلى، وماذا بوسعها أن تفعل إزاء «هذا الأثير العديم الطعم»؟
وبمَ يتدفّأ هذا القلب «الذي يذرف دمعة من جليد» (البرد»)؟ كيف له أن يواجه الصقيع في أقصى حدود شراسته؟ ماذا بالإمكان فعله في هذه الحلبة المزدحمة بالحافلات الداهسة، والجرّافات، والأشلاء، والموتى في شجرة الأنساب وعلى الشاشات، والمعتقلات، والجثث، والمسامير، والسكاكين، والمكائد، والحرائق، وأكياس الهباء، والأكتاف المحطّمة، والقرون المتكسّرة، والخواتم المرمّدة، والأصابع المبتورة؟
تحول عاطفي
إلا أنّ المصارع ثور مستعدّ ومتأهّب للمواجهة وإن تحطّمت قرونه. إنّها معركته لرأب حطام الجسد في ملحمة النفس الفظيعة هذه: «جمعت أصابعي من عيدان الطريق وعظامي من الصفيح ومسامي من قطرات المطر.
كابدت على الحيطان حيث لحيتي معلّقة كقناعٍ مع شارب صغير وعينين ضيّقتين. خرجت برجلين مخيطتين وعمود في الظهر وكان عليّ أن ألصق كتفيّ بالمقعد حيث مرّت ثلاث سنوات من الانتظار.»(«أنا»).
المصارع «هوى من كتفيه» و»هذا الجسم لفظ كلّ براغيه» إلا أنه يجرجر نفسه متكئاً على عصاه المعقوفة من الخوف، متعهّداً أن يقتفي أثر الحبّ في أرض التجربة مهما تكن المجازفات ماحياً الغياب بطبشور الشعر، متقبّلاً تمدّد الوقت وصقيعه وكموده فدَيْن هذا الحبّ عظيم وحيّ، ليس كغيره من الديون الميتة، وعليه أن يجترح لإيفائه نقود الكلام: «تتحرّك الحياة في فكّ مهجور منذ ثلاثين عاماً.
إنّها قصة دَينِ لا يمكنني أن أردّه بكلماتٍ أقلّ، لكنّ الصوت الذي يتهيّأ لجوابي سيكون عظيماً (...) ستتكسّر في ذلك الصوت عشرة قرون»(سمّيني»). ولكن كم حريق عليه أن يجتاز لكي يحوز اسما من تلك المرأة العالية بحاجبيها المسنونتين كنصل وبساقيها المنتصبتين كبرج لا يطال وكأنّها صنم على الجبل، «جبل العميان» : «خمسة ظلال تقف حولي. لكن التي أجدها في الفرن مزيّنة أيضاً بخمسة خواتم، لا تزال تقبض على المنديل الذي انتظرته عاماً ولم يصلني. خاتم الزواج وحده صار رماداً» («الحبيس»)؟
وكم طوفان ينبغي على «نوح» أن يعبر: «وصلتِ. المياه تصل إلى وسط الصندوق وأنت ترفعين ثوبك لتعبري». العاشق يأنس إلى سجنه، إلى المعتكف الذي ارتضاه لنفسه: «لا أخرج سالما من هذا القفل إلا بكثير من المهارة، مع ذلك سأكون متسوّلا خارج هذه الجدران»(سمّيني»).
وكم لون، كم ريشة عليه أن يزهق عند قدمي هذا الحبّ: «الريشة تمرّ بسبعة ألوانِ أمامك، سبع أرواحِ تلفظها واحدة بعد أخرى»(«الحبيس»). على أيّة حال ثمة تحوّل في عاطفيّة الشاعر إذ لم تعد مجرّد إحصاء للألم بل استحالت تقبّلاً خطيراً، ليس استسلاماً لأنّ الانكسار الذي استنفد أدواته يرتضي بكلّ رواقيّة إيفاء هذا الدَيْن العاطفي.
ما همّ: المصارع يلملم جحيمه متابعاً هذا التوغّل الغسقيّ الذي لم تخلّف حرائقه التي حدثت سابقاً، التي تحدث الآن إلا «بقايا متفحّمة»، « إلا خيط نورٍ يؤدّي إلى السرداب» الذي يحفّ بصقيع الأضرحة ويحصي جينيالوجيا الموتى: «لقد مضت سنة / قبل أن يصلوا إلى ضريح الأخت المعذّبة / لكنّهم لن يجدوها/ في هذا الموسم لا أحد في ضريحه/ يتركونها إلى ضريح الأخ العاشر... لكنّ الأخ السادس / مدفون حيث وُزن / وحيث بيع بالأقّة» («في القارب»).
هذه الصلاة التي تقام عند تخوم العدم سبحتها محبحبة بمخيّلة الشاعر «التجميعيّة» (من تجميعة باتشوورك) المعربدة، الناهلة من مصادر لا تحصى المشبعة بإيحاءات توراتيّة ووثنيّة وطقوسيّة يتم تذويبها في نسيج النص ممزوجة بتفنيد متهكّم، إذ إنّ قتامة المراثي ومرارتها (خصوصاً مرثيّة الأب «مشغل التشابيه»: « كان عليّ أن أجمعه من رماد سيجارته وكسور ساعته وزجاج نظارتيه، أن أصلبه في عباءته، أن أنحته من الصمت شخصاً ومن الصمم عبارة.
وأن أرفعه مبدأ ثقيلاً يسقط كالمطرقة على جبهتي») يخترقها شعاع فكاهة بملامح طفوليّة تحكي جدليّة هذا الشعر كما في قصيدة الكاهنة: «إنّها تؤاخي حشرات البيت. تحبس الفئران، بكلمة، في جحورها. تجبر الذباب على أن يختصر دوائره.
تجمّد طيراً بإشارة وتقطع طريق نملة (...) باضت ولدين، حين صارت لهما حراشف أخذا يتضاربان». أو حين يواجه عنف الحبّ الزاجر بتهكّمِ معابث: «أصادف فردة حذائك إنّها توشك أن تنبح أمام المنزل»، أو في كاريكاتور نفسه وخرقها» شخص آخر سرقت حياته.
قد يكون ضخماً وطويلاً لكنّي اختصرته. قد يكون ناجحاً وبارعاً لكنّي جعلته يفشل في امتحان البكالوريا (...) هو الذي جعلني أدور كمروحة وأدوس على أقدام السيّدات (...) لست أنا الذي سقطت تحت الشاحنة إنه هو الذي قذف الى واجهتها كالقرد»(مقطوعة عن حياتي)...
أزهار الصقيع
على أيّة حال لا أحد يمكنه أن يعرف كيف ينسج عباس بيضون خيوط صوره، كيف تحلّق نحلة الكلام فوق «منملة الاستعارات « التي لا تهدأ، كيف يستطيع أن يرسم بضربة ريشة واحدة مشهد النسوة المصابات بالزهايمر ليجعل منه مشهداً توراتياً سورياليّاً معابثاً: «يمرّ قطّ وينضمّ إلى المجموعة، يعجّلن إلى احتضانه وفيما كان اللاشيء يتكوّن كنسيج العنكبوت، النسوة الثلاث أطللن من داخل العليقة.
بينما الوحي الذي أضرم النار فيها، يرفعهن على مهل في الشمس». وكيف يستطيع أن يخلق من لغة مغرقة في حسيّتها نبرة نبويّة إنشاديّة لا تلبث أن تخفت بنقرة واحدة من إصبعه، بلغةٍ غير معقّمة لا تشبه إلا نفسها: «ألقّم نفسي. عشّ شعر في لقمتي وأسحب شعرة على لساني».
تقتفي هذه الصلاة مقدّساً يملك طقوسيّاته اليوميّة في معبد - مرقد ممتلئ بكائنات يجرّها الشاعر كسفينة نوح»، ويملك ايضاً طلاسمه وأرقامه التي تتكرّر مسجّلة أضرار المعركة الغريبة أو متنبّئة بحصيلتها كما أشير آنفاً في قصائد «سمّيني» و»اليد» و»الحبيس»(الأرقام خمسة وعشرة الخاصة بالأيدي والقرون ورقم سبعة) ويقترن بإشارات وعلامات: « مع أنّ الوقت ليس مناسباً لفألٍ سيء فإنّنا نظلّ نعتقد أنّه (الغراب) يحمل رسالة في حوصلته.
براثنه المطبوعة على الرمل ستتحوّل في الغد إلى رموز مشؤومة يتجنّبها الصيّادون.»لكنّ هذه الصلاة تحفل بذخائرها الحيّة من عظم وفك وأسنان وأصابع وقلب، وكلها مرتبطة تقريبًا بالكلام والكتابة، ذخائر ليست محفوظة في حقّ ثمين: الأضراس تُرمى للكلاب.
واليد قطعتها المرأة، والقلب «يتم تشريحه في كعب شجرة». ذخائر قليلة هي كل ما تبقّى للشاعر في هذا الجفاف العميم، والصقيع الأصمّ الأخرس، وأفران الرماد القاتمة، وهباء المعاني حيث كلّ شيء بات « خارج الصفحة»، وحيث الحب مبتعد كرسالة في بحر، والجفاف يقتل الشمس...
لكن مهلاً من أين تأتي هذه الماويّة إذاً؟ وكيف بوسع قشّة أن تبعث دفئاً في الصقيع؟ ربّما كان مبعث الماويّة والدفء عائداً إلى يد الكتابة بأصابعها المتعارضة، تلك التي كلّما بترها الحبّ فرّخت أغصاناً جديدة وبسقت مالئة فضاء الكتابة من جميع الجهات، إلى حقيقة التجربة الذاهبة حتى آخرها، حتى أقاصي خوفها، الملتصقة بصوتها المدانية بلغتها لمّا يفلت منها، إلى انكسارها الذي استنفذ نفسه وبات تحدّياً ومزايدة، إلى مشغل تشابيهها الذي لا يهدأ، وغيومها الطبشورية، إلى الضوء الملتمع بين حاجبي الحبيبة، إلى جاذبيّة المعركة نفسها حيث «فرانكشتاين» يعيد إلحام نفسه بمزق شعره، إلى هذا «الأقل القليل» الذي أوجد هيكل القصيدة.
ربّما كان هذا المعجم الذي حصّله الشاعر غير ناجع وغير شافِ، لكنّ هذا القليل من الصور، وهذا اللحن الوحيد، وهذا الضوء الصغير، كلّ هذا القليل يكفي لأنّه قادر على أن يكون حافة.
وكما أنّ مقطعاً صوتيّاً واحداً لدى أوكتافيو باث قادرعلى تفجير العالم كذلك فإنّ الكلمة التي يبحث عنها عباس بيضون في تجربة شعره قادرة على إحياء العالم.
وإذا كان ثمة أزهار للشرّ فهناك أيضاً أزهار للصقيع.