افراسيانت - ثورة حوامدة - التنازل عن الحلم الذاتي يفضي إلى التقاعس عن تغيير الواقع المحيط وإلى انتظار القادم بلا رغبة، تلك الأخيرة في حالة طبيعية تؤدي إلى إشعال فتيل داخلي لتكون المساحة بين الواقع والخيال مسألة إرادة، واحتمال وقوة وصبر بلا انقطاع للأنفاس، وذاتها مربط الفرس لخذلانات متتالية، وافتعال الوهم لعَيش لطافته، وهذا جزء من كل، و صفة من مجموعة صفات اتسمت بها قصص الروائي والقاص الفلسطيني مشهور البطران في مجموعته القصصية "أوهام أوغست اللطيفة" الصادرة عن الإتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين، منتصف العام 2016م .
ثمة سؤال يربط شطري العنوان، عن علاقة أوغست شهر الصيف الحار واللطافة، كيف يلتقيان والمرء لا يطيق الحر الأوغستي؟ وما يُحدِثه فيه من شعور بالاختناق والبحث عن متنفس لا يجعله لطيفا أحيانا. وكيف للفلسطيني تحديدا _حسب وجهة نظر الكاتب_ أن يكون لطيفا وهو يشعر بكتلة حارقة داخله لما حوله؟ احتلال يهدد الأرض ولا يترك فرصة مواتية للمضايقة، أرضٌ تُسلب كل يوم، حواجز عسكرية على مداخل البلدات والمدن،تجاوزات إنسانية،المياه المصادرة والحياة غير الصحية. خط مواز يمكن استنتاجه، أو خيط ما يَنسَلُّ منه معان مختلفة، والفرق واضح بينهما لا يشوبه شائبة، بيد أن التقريب والتقارب في القصص مع متضاداتها هو من باب تأكيد مرارة الواقع لا أكثر، وأن لأوهامنا التي نأمل تحققها في يوم ما نارا تلسعنا كشمس أوغست وأكثر.
حاول القاص أن يتلاشى الحديث عن خيباته الأوغستية، أو آثارها التي ما تزال حارّة فيه، بطريقة غير مباشرة القصص نفسها كتبت خذلانات الواقع له، وأردفها أثناء حديثه عما توصل إليه من خلاصة تجارب ماضية "إنها فرصة فريدة كي أقول أنني أحتفي بكل ما كتبتُ، أحتفي بأخطائي، وإخفاقاتي وسَقَطَاتي وانزياحاتي، الجملة التي تحضرني في هذه اللحظة للتعبير بعمق وبلاغة هي : إنني نجحت في إخفاقاتي كلها" ص 12. هذا يعني بالضرورة أن الأوهام يمكنها أن تكون واقعا معاشا لو اعتدنا على ترجمتها، واقتناعنا بسيرورتها، وإمكانية صقلها في قوالب واقعية، ما دامت المفاهيم الثابتة في حياتنا المعاشة تبدلت، وأصبحت المتحولات الآنية تفرض واقعا مغايرا.
غلاف المجموعة القصصية كان من رسم الطفلة أمينة صوايفة، طالبة في الصف العاشر من بلدة إذنا جنوب الخليل، يتماوج فيه اللونين الأخضر والأزرق فقط، وللكاتب فلفسته الخاصة في اختيار هذا الغلاف تحديدا دون غيره، وهذين اللونين لا سواهما. الوجه ذو الخد الواحد والأنف العالي والفم المغلق، والعين التي تنظر من زاويتها بتركيز حاد على ما حولها دون قدرة على تحريك الوجه أو النطق بشيء، دمعتها تنزل بألم كبير، لتقف في المنتصف بين اللونين الأخضر والأزرق، وهو ما يمكن تسميته بالآمال المعلقة، بين ما هو هادئ ومستكين في زرقته، وبين ما يمكن أن يحدث وينبت ويَطلع من خضرته الندية، ولا بد للدمعة من أن تسقط مهما تعلق وبقيت حبيسة العين، ولهذا كان اختيار اللوحة اختيارا موفقا حسب ما اقتضت موضوعات القصص .
الرمز حالة ومحاولة
عشرون قصة، ترتبت حيثياتها حسب الوهم الذي بادر الكاتب إلى تلطيفه أو ملاطفته، وجهد واضح لمنّطَقة قصص معينة، وأخرى وقعت ضمن إطار اللامنطق، وابتعاد المعظم عن ما تفترضه الحياة الإنسانية بشروطها وقوانينها بتكثيف الرمز في أغلب القصص، لكنها تتقارب في فنتازيتها مع الواقع بدرجة كبيرة، أو تكاد تطابقه في أدق تفاصيله التي نخاف من الخوض فيها علنا، ليس للخوف نفسه، بل لأن الحديث عنها بشكل مباشر سيفقدها سمة جمالية خاصة في معانيها.
القصة التي حملت اسم "الرجل ذو العين الواحدة"، ترمز إلى احتلال ما حولنا، أو فينا ويتمترس في ذواتنا، وبإيدينا فقط يمكننا إزالته لأن لا يشعر بالجرح إلا صاحبه. فيها رغم الفنتازيا غير المنطقية ما يشبه الموعظة، أو الحكمة الرشيدة، التي لا تأتي من فراغ، خلاصة تجارب متتالية من السقوط والذل، وابتكار الحلول التي نكون في منأى عنها لعدم الاكتراث لها قبل حاجتنا لها والتفكير بأهميتها.
قصة أخرى مغايرة تماما حملت اسم "الدّمل الذي كاد يفقأ صاحبه"، رغم امتثالها للرمز أيضا إلا أن إسقطاتها على ما هو قائم الآن حقيقية، الدمّل الذي ينبت على وجهنا/أرضنا ليس شرطا أن يكون ورما طفيليّا، والمشكلة تكمن في رفض صاحب الوجه لفكرة التعايش مع هذا الجسم غير المتجانس والمشابه له، رفض الطبيب التخلص منه لأنه يشكل خطرا كبيرا، لامتداده في الجسم وتغلغله في مساحات واسعة. " لكن اللافت أن الأطباء – وبخاصة الذين تخرجوا من أوروبا وأمريكا ــ ما زالوا يُصرّون على أنه ليس مرضا بل جسما طبيعيا يجب التصالح معه". مع احتفاظ صاحب الوجه بأمله أن يكون المستقبل مخلصا له من هذا التفشي السرطاني، دون الحاجة لأن يتعايش على مضض طويلا .
والذي أكده الكاتب في قصة "حرب الصراصير" أن الاستسلام للتفاوض حين تكون ضعيفا مع الطرف الأقوى، هو قبول وخنوع وتهاون وسقوط الحقوق جميعها لصاحب الحق أولا، لذا يتداخل في قصصه/ قصته الماضي والحاضر وما يمكن أن يحدث للتعساء مستقبلا إذا لم يقرأوا التاريخ كما يجب. في هذه القصة حاول صاحب البيت أن يتخلص من الصرصور الذي دخل منزله دون إذنه و اختبأ في المطبخ، وهو الشخص الذي يكره أن يستوطن بيته أشخاصا غرباء باستثنائه وأولاده وزوجته، حاول أن يتخلص من تواجده لكنه لم يفلح، وفي غفلة منه تكاثرت أعداد الصراصير، وبات القضاء عليها بأقوى المبيدات معادلة فاشلة، فأعدادها كبيرة، وتمتلك مناعة قوية، لذا قرر أن يتفاوض معها لتغادر، فكانت النتيجة أن بات في نظر أبناءه مدعاة للاستهزاء، بسكوته وقبوله بمواعيد تفاوضية وهو صاحب البيت، طالما كان هو صاحب الحق وبإمكانه وحده أن يقرر خروجها، لا بقاؤها بشروط مضنية.
" _ولكن هذا اليوم موعدنا ؟
+ قال ببساطة : لا مواعيد مقدسة عند الصراصير" .