افراسيانت - عرض: محمد ثابت - شارلوت مكدونالد" صحفية مخضرمة، أمضت سنوات عديدة مراسلة لوكالة فرانس برس في أفغانستان وباكستان وجنوب شرق آسيا..تسرد شارلوت في عمل فريد أزمة اللاجئين المستمرة نتيجة الحرب في سوريا؛ فتصف في كتابها القصص المؤلمة والقرارات المستحيلة والخيارات الصعبة التي يضطر اللاجئون إلى اتخاذها وهم متوجهون إلى ما يظنون أنه حياة أفضل.
تشرح شارلوت الأزمة التي تراها عبر عيون خمسة من اللاجئين الذين واصلوا القدوم إلى سواحل أوروبا منذ عام 2011 وحتى نهاية 2015.
واقعان متناقضان
تستهل المؤلفة كتابها بمقطعين ترى فيهما تناقضا مؤلما بين واقعين، الأول هو الواقع الافتراضي الذي تمثله الفقرة الثانية من اتفاقية الاتحاد الأوروبي التي يقرر ويؤكد فيها على أن الاتحاد تأسس على قيم احترام الكرامة الإنسانية والحرية والديمقراطية والمساواة وحكم القانون واحترام حقوق الإنسان بما فيها حقوق المنتمين إلى الأقليات. وهذه القيم الشائعة في الدول الأعضاء في مجتمع تسود فيه التعددية وعدم التمييز والتسامح والعدالة والتضامن والمساواة بين الرجل والمرأة.
والثاني هو الواقع الحقيقي على الأرض، والذي تفضحه كلمات لاجئة سورية تفيض ألما وهي تقول: "كل هذا القتل وكل هذه الدماء؟! لا أصدق أن هناك حربا كالحرب في سوريا. الناس لا يمكنهم البقاء هناك في هذه الحرب. يحاولون القدوم لأوروبا، ولكن انظر إلى ما تفعله أوروبا. تتركهم للمهربين يتقاضون منهم ما بين خمسة أو ستة أو عشرة آلاف يورو، فقط ليخوضوا البحر وتذهب أرواحهم. ثم إذا وصلوا لغايتهم يرحبون بهم. لماذا؟ لم لا تحاولون جلب أولئك الناس إلى هنا بأمان؟ إذا وصلت عندهم يقولون "مرحبا"، وإذا مت في البحر يقولون "حسنا لا يهم".. لماذا؟!
الحديث عن حركة الناس نحو أوروبا أمر مثير للجدل. تقول المؤلفة: لأنهم مزيج من أولئك الذين يسعون إلى الدخول بطريقة غير شرعية للعمل بالقارة الغنية، وبين الذين يفرون من ويلات الحرب، وبالرغم صلاحيتهم القانونية للدخول؛ فإنهم لا يملكون أوراقا تمكنهم من ذلك. وتشير "شارلوت" إلى أنها استخدمت مصطلح الناس للإشارة لهؤلاء ولكن لمصلحتهم على المدى البعيد وللتمييز بينهم وبين المهاجرين غير الشرعيين يفضل الإشارة إليهم باللاجئين.
مهاجرون أم لاجئون؟
يتم استخدام مصطلح المهاجرين في الإعلام على مدى واسع على اعتبار أنه الأكثر حيادية في الوصف، لكن الحقيقة أن الهجرة تنطوي على عنصر اختيار في قرار الشخص لمغادرة وطنه، بينما اضطر معظم هؤلاء للخروج من بلادهم.
تقول المفوضية الأوروبية لشئون اللاجئين إن 84% من القادمين إلى أوروبا في 2015 كانوا من الدول الأعلى إنتاجا للاجئين، وتأتي سوريا على رأس هذه الدول بنسبة أكثر من 52% من عدد اللاجئين، كما كانت الأولى أيضا في عدد من نجحوا في الحصول على حق اللجوء لأوروبا بنسبة 94% تليها إريتريا. وحتى الأقلية التي لن تحصل على اعتراف رسمي بها كلاجئين؛ فإنها فرت من بلادها هربا من الفقر المدقع، وتؤكد المؤلفة أنه لا أحد يضع حياته في مثل هذه المجازفة الخطرة لمجرد المتعة.
تسرد المؤلفة، عبر مقدمة واثنين وعشرين فصلا وخاتمة، مأساة اللاجئين الفارين إلى القارة العجوز من خلال أفراد وشخصيات مروا بالتجربة وعاشوا ليرووا تلك الملحمة، وهي تقول: هذا الكتاب هو قصة ماجد ونارت ومحمد وسينا وحنان وعائلتها. هم المصدر الرئيسي للمقابلات المكثفة والصور ولقطات الفيديو للرحلات إضافة إلى ما قدمته منظمات حقوق الإنسان ووسائل الإعلام.
من بين مئات الآلاف من الأشخاص الذين خاضوا أو أجبروا على خوض ملحمة الهرب لأوروبا "سينا" و"داني"، اللذين يحاولان يائسين إنقاذ طفلهما الذي لم يولد بعد من حياة الخدمة العسكرية في إريتريا. و"ماجد حسين" الشاب النيجيري المتميز الذي فر من العنف الطائفي. "نارت باجوي" المحامي السوري المثالي الذي خاطر بحياته محاولا الإطاحة بنظام الأسد. "محمد كازكجي" المراهق السوري الذي يطمح فقط في الدراسة بجد ليسعد والديه. "حنان الحسن" التي شاهدت مرعوبة الحياة المستقرة التي شيدتها لأطفالها في دمشق وهي تنهار!
قصص مؤلمة وقرارات مستحيلة
على مدى أعوام قليلة امتدت صناعة تهريب البشر من الصحراء الأفريقية إلى الدول الإسكندنافية. كانت تجارة يغذيها الابتزاز والاستغلال، ولم يكن لزبائنها حل آخر يتجهون إليه. فلم تكن هناك وسيلة قانونية لطلب اللجوء من بلادهم للاتحاد الأوروبي لذلك كان السبيل الوحيد هو الرحلة الأكثر خطورة في العالم.
آلاف الناس لقوا حتفهم ويرقدون في قاع البحر؛ لا يجدون دولا أو حتى دولة على استعداد لاستعادة جثامين مواطنيها أو معرفة مصير الأبناء والأزواج والزوجات. وحتى الجثث التي جرفتها الأمواج إلى شواطئ أوروبا لم يتوفر لها التمويل لتحديد هويتها عبر الحمض النووي.
تحتفظ المنظمة الدولية للهجرة بقاعدة بيانات تسرد تقرير كل وفاة منذ عام 2000، كل حياة لإنسان تقلصت إلى مجرد سطر واحد فقط، وسبب الوفاة مجرد لمحة فقط من قبيل، امرأة تموت أثناء الولادة على قارب الإبحار من تركيا وتم إلقاء الجثمان بالبحر؛ أو رجل سقط أسفل عجلات الشاحنة التي اختبأ فيها ليدخل اليونان، أو فتاة صغيرة في عداد المفقودين بعد غرق قارب يحملها لتعبر نهر "إفروس". وفي كل يوم تضاف قصة جديدة قصيرة عن ضحية مجهولة.
صوت يصرخ في الحشد يحث الناس على التخلص من مقتنياتهم وأمتعتهم لتخفيف وزن السفينة الموشكة على الغرق، يفتح محمد حقيبته ويتطلع لمحتوياتها التي ترمز لحياته كلها حتى تلك اللحظة، الكتب الهندسية التي تمثل دراسته وملابس الطفولة التي تذكره بالسنة التي قضاها في ليبيا. لم يتوقف عند رمزية أشيائه كثيرا وألقاها في البحر آملا أن يكسبهم ذلك بعض الوقت للطفو فوق الماء ريثما تهرع قوات بحرية أوروبية نحوهم لإنقاذهم. لكن ذلك لم يسعفهم فبعد قليل كانوا ينتظرون قوارب الإنقاذ بينما أطلق قاربهم آخر صرخة له ثم ابتلعه البحر كاملا!
التحول للخوف والعدائية
انتهى عام 2015 بالرعب والخوف؛ شهدت فرنسا هجوما غير مسبوق على أراضيها عندما فتح متطرفون تابعون لداعش (تنظيم الدولة الإسلامية) النار، وفجروا بارات ومطاعم في باريس يوم الجمعة 13 نوفمبر/تشرين الثاني وقتلوا 130 شخصا، ثم في الأسبوع التالي وصلت العاصمة البلجيكية إلى طريق مسدود عندما أغلقت المدارس ومراكز التسوق ودور الحضانة ووسائل النقل العام لعدة أيام نتيجة تحذير السلطات من هجوم وشيك مماثل.
مركز المدينة الذي يستضيف مؤسسات الاتحاد الأوروبي تحول إلى مدينة أشباح، والعربات المدرعة تسد الأرصفة والجنود يراقبون القلة المرعوبة التي تغامر بالمرور وسط المدينة. وفي يوم 31 ديسمبر/كانون الأول -اليوم الذي تستعد أوروبا فيه لتوديع سنة صاخبة وترحب بحذر بعام جديد- ألغت بلدية بروكسل عرضا للألعاب النارية بعد تلقيها تحذيرا آخر من عمل إرهابي.
وفي ميونيخ، تصرفت السلطات الألمانية بناء على معلومات من أن متشددين يخططون لهجوم وشيك، وأغلقت اثنين من محطات القطار قبل منتصف الليل بساعة. ولكن لم تتحقق المخاوف البلجيكية إلا بعد بضعة أشهر عندما قامت خلية لمتشددين في 22 مارس/آذار 2016 بتفجير قنابل في مطار بروكسل وفي مترو المدينة مما أسفر عن مقتل اثنين وثلاثين شخصا.
كان المفترض أن تكون أوروبا مكانا آمنا بعيدا عن الحرب ولكن فجأة بدا كل شيء مختلفا ومخيفا، وكما يحدث دائما عندما يُساء التعامل مع الخوف ويتم استغلاله، تحول الخوف إلى كراهية وعدم ثقة. وصورة جثة الطفل "إيلان الكردي" البالغ من العمر ثلاث سنوات على الشاطئ التركي أصبحت نسيا منسيا.
تقول شارلوت: ومرة أخرى يصبح اللاجئون السوريين الذين فروا من العنف في بلادهم ضحية لنفس النوع من العنف ولكن على أيدي المتعصبين في باريس، حين أصبحوا هدفا للغضب والشك.
لقد انتشرت السياسات العدائية في جميع أنحاء أوروبا، وهنا تضيف المؤلفة: مرّرت الدانمارك قانونا يسمح بالاستيلاء على المجوهرات والأشياء الثمينة من اللاجئين عند وصولهم بحجة تغطية تكاليف سكنهم وإقامتهم، متجاهلة المخاوف من أن تتشابه تلك القوانين والسياسات مع ما كان النازي يصنعه مع اليهود من استيلاء على ممتلكاتهم ومتعلقاتهم.
ويلقي الرئيس التشيكي "ميلوش زيمان" كلمة أمام مسيرة مناهضة للاجئين نظمها ما يدعى بـ "التكتل ضد الإسلام" في ذكرى الثورة المخملية. وتقدم المجر قوانين الطوارئ ضد اللاجئين، وتشمل السجن لمدة ثلاث سنوات للأشخاص الذين يحاولون عبور السياج الذي أقامته مؤخرا مع صربيا لصد تدفق اللاجئين إليها. وهكذا أصبح الفرار من أوروبا مطلبا لبعض اللاجئين بعد أن رأوا الكثير مما يكرهون.
المصدر : الجزيرة