افراسيانت - عند قيام دولة إسرائيل سنة 1948م بقرار ظالم من منظمة الأمم المتحدة، قسمت القدس إلى «شطرين»، القدس الغربية وقعت تحت الاحتلال الإسرائيلي، والقدس الشرقية وبقيت عربية ضمن ما يعرف «بالضفة الغربية» والتي كانت تحت الإشراف والإدارة الأردنية.
في ذلك الحين كانت مساحة القدس الشرقية المغتصبة تبلغ 20331 دونماً. ومع بدايات الاحتلالِ الصهيوني للقدس الشرقيةِ عام 1967م، بدأت خطواتُ تهويدِ المدينة ومحيطها، بالتزامن والتكاملِ معَ الإجراءات الصهيونيةِ على الأرض ضدّ العرب وتجمعاتِهم في المنطقة. في هذا السياقِ، أعلنت سلطاتُ الاحتلال عن توحيد شطريِ القدس بتاريخ 28/6/1967م. وطبقاً لنهج السيطرةِ على أكبر مساحة ممكنةٍ من الأرض معَ أقلّ عددٍ ممكنٍ من المواطنين العربِ، تمّ إدخال 28 قرية ومدينة عربية ضمن حدودِ القدس التي ضُمَّتْ، فاتسعت هذهِ الحدودُ من 6.5كم إلى 70.5 كم، ولتصبحَ مساحةُ القدس بشطريه 108.5 كم2، ثم توسيعها لاحقاً سنة (1990م) إلى 123كم2، ثم إلى 126كم2 حالياً. ولا يخفى أنّ عمليةَ التوسعِ المتكررةَ هذهِ ترمي إلى قضمِ المزيد من الأراضي لتكونَ خارج المساومةِ السياسيةِ في أيّ حلٍّ مستقبلي لمشكلة القدس.
وحسب دراسةٍ صدرتْ عن مركز العودةِ الفلسطيني في لندنَ، قُدّر عدد المقدسيين الذين هُجِّروا من ديارِهم وانتزعت أملاكُهم منهم عام 1948م بنحو ثمانيةٍ وتسعينَ ألف شخص، وقُدِّرت مساحةُ أملاكهم بنحو 273 ألف دونم. وبلغ عددُ القرى المقدسيةِ التي تعرّضت للتهجيرِ والمصادراتِ 39 قريةً. وبعد 50 عاماً (أي في العام 1998م) بلغَ عددُ اللاجئين الذين تعود أصولهم إلى هذه القرى أكثر من 600 ألف شخص.
وفي نطاق الممارسات الصهيونيةِ التي تأطّرَتْ بنهجِ تهويدِ القدس، تتابعت عملياتُ التهجير التي تعرض لها المواطنونَ العربُ. ويتبين من متابعةِ مفرزاتِ تلك الممارساتِ ما يلي:
- خلال السنواتِ الثلاثين ونيّفٍ الماضيةِ، تم إجبارُ نحو سبعينَ ألف مقدسيّ على النزوح.
- منذ العام 1982م، ترفضُ سلطاتُ الاحتلال تسجيل آلافِ المقدسيين الذين وُلِدوا في المدينةِ ولا تعترف بهم كمواطنين.
- مواصلةُ التضييقِ على المقدسيين لدفعهم إلى اليأسِ والرحيلِ.
- أسفرتِ الممارساتُ الصهيونيةُ عن خفض عددِ الفلسطينيين في المدينة القديمةِ، فيما ارتفع عددُهم في مناطق محيطة بالمدينة (بيت لحم، بيرنبالا، الرام، أبو ديس، العيزرية.. إلخ).
وحسب تقريرٍ نشرَهُ الجهازُ المركزي للإحصاء الفلسطيني (حزيران/يونيو 2000م) بلغتِ المساحةُ الإجماليةُ للأراضي التي صادرتها سلطاتُ الاحتلال من مناطق 85% من إجمالي مساحةِ هذه المناطق.
وفي القدس القديمةِ ومحيطها، انتهجتِ السلطاتُ الصهيونيةُ أساليبَ متنوّعةً للاستيلاء على العقاراتِ والمباني العربية منها:
- إصدار القائدُ العسكريُّ الصهيونيُّ في المنطقة أمراً بتاريخ 25/6/1969م بمصادرة سبعةَ عشرَ عقاراً ومتجراً وأماكنَ دينيةً في منطقة باب السلسلةِ، وحيِّ الواد يقطنها مئةٌ وخمسةُ أشخاص، وذلك لإقامة قواتِ الأمنِ فيها ونُقلت ملكيتُها للحكومةِ التي سَلَّمت قسْماً من هذه العقاراتِ للمستوطنين في عام 1991م.
- الاستيلاءُ على بعض العقاراتِ العربيةِ في عقبة الخالديةِ والسرايا والسعديةِ وغيرها بوسائل عديدة منها: الترغيبُ بمبالغَ كبيرةٍ من المال، الاحتيالُ بتوقيع عقودٍ بينَ مستأجرين ثانويين لهذه المباني (أو حتى مع أشخاصٍ لا يمتّون لها بصلة).
- التهديدُ والمضايقاتُ مثل أصواتِ الضجيج وإلقاءِ القاذوراتِ وغيرها كما حصل مع المجاورين لمدرسِة «شوفوبانيم».
- الاعتداءُ والقتلُ كما حدث مع الشهيدةِ فاطمة أبو ميالةَ التي قُتِلت عام 1983م من قِبَل المستوطنين والاستيلاءُ على بيتها.
- محاولةُ الاستيلاء على المناطق الخالية من السكان والتي تعود ملكيتها إلى أطرافٍ متعددة وقد تكرّرت في أكثرَ من موقعٍ في البلدة القديمةِ، ومن ذلك استيلاؤُهم على ساحة جامعِ خان السلطان وحاكورةِ الصبرة، واستخدامُ أسطحةِ سوق العطارين واللحامين والخواجاتِ كطريقٍ للمستوطنين وإقامة جسورٍ على هذه الأسطحةِ، وذلك لربط الحي اليهوديِ بمنطقتيْ القرمي وعقبة الخالدية، علماً بأنّ ملكيتها تعود للأوقاف الإسلاميةِ وللوقف الذريّ للعائلات الإسلاميةِ المقدسية.
- قيام دائرةُ القيّمِ على أموال الغائبين بوضع يدِها على البيوت التي يملكها مواطنونَ عربٌ خارجَ القدسِ، ممّن لا يحملون هويةَ القدس التي أصدَرَتْها سلطاتُ الاحتلال، وتأجيرِها للمستوطنين كطرفٍ ثالثٍ، كما حصل في بيت عدنانَ خميس قرش في حارةِ السعدية ودار مراد في حي الشيخِ جراح ودار أحمد شحادة الفراعين وبيوت آل عباسٍ في سلوان وغيرهم كثيرون.
- وفي الحالات المتنازعِ عليها، كان المستوطنونَ يقتحمون العقار لخلق واقعٍ جديدٍ على الأرض، وإذا لجأ صاحبُهُ أو مستأجره إلى المحكمةِ فإنّ القضية تستغرقُ سنواتٍ، ويكون المستوطنون خلالهَا قد سُمِحَ لهم بالبقاء في العقارِ المتنازعِ عليه، كما فعلوا في دارِ الزور في عقبة السرايا ودارِ محمود أبو سنينة في عقبةِ الخالدية وإحدى غرف بيت عارف أبو صبيح في الحيّ نفسه ودار عابدين وسابيلا في باب حطة.
لقد بلغ عدد المستعمرات الصهيونية التي أقيمت على أراضي محافظة القدس (حسب التحديدِ الإداريّ الفلسطينيّ) 43 مستعمرة تقوم على مساحةٍ من الأراضي تزيد عن 46 ألف دونم.
ويُلاحظ أنّ سلطاتِ الاحتلال الصهيونيِّ استمرتْ في إقامة المستعمرات على أراضي القدسِ بالرغم مما يسمّى عمليةَ «السلام» مع القيادةِ الفلسطينية، وذلك في تسابقٍ محمومٍ مع الزمن، بهدف خلق أمرٍ واقعٍ استيطانيّ يحول دون أيّ تغييراتٍ على الأوضاع القائمة، خلالَ مرحلة التسوية النهائية.
على الرغم من أنّ جميع المستعمراتِ في القدس تشكّلُ عواملَ مولّدةً للصراع والمواجهة، كونَها أقيمتْ على أراضٍ مغتصبةٍ من أصحابها الشرعيّين، إلا أنّ هناك نقاطاً ساخنةً يمكن أنْ تسهمَ في زيادةِ التوتر بينَ المواطنين العربِ والمستوطنين اليهودِ في المدينة.
السياسة الصهيونيّة إزاءَ عرب القدس:
لقد كانت أولى وسائلِ تهويد القدس التي اعتمدتها السلطاتُ الصهيونيةُ ولاتزال تعتمدها حتى الآنَ هي ذاتُها التي استخدَمتْها العصاباتُ الصهيونية قبل عام 1948م وبعده، أيْ عملياتُ القتلِ والتدمير. فقد أمطرَتِ القواتُ الغازيةُ مدينةَ القدسِ عامَ 1967م بوابلٍ من القصفِ المتواصل بالقنابل المحرقةِ، جواً وأرضاً، وبالأسلحة الرشاشةِ، ممّا أدّى إلى استشهادِ 300 مقدسيّ من المدنيّين، كانَ بينَهُمْ عائلاتٌ بكاملها داخلَ منازلها، وبعضهم في الطرقات والأزقة أثناءَ فزعِهم وهروبِهم من جحيم النيرانِ المسلطةِ عليهم.
ودمّرتِ القنابلُ الصهيونيةُ مئاتِ العقاراتِ السكنيِة والتجارية، داخلَ السورِ وخارجَهُ، وأحرقت عشراتِ المخازن، وألحقت أضراراً فادحة بالمساجد والمشافي وسواها. وقامت السلطاتُ الصهيونيةُ بعد أربعةِ أيام من دخول القدسِ الشرقيةِ، وفي أقلَّ من أسبوع، بإزالة 135 داراً في حي المغاربِة المجاورِ للحائط العربي للحرم القدسي (يسكنها 650 شخصاً) ومسجدِ الحيِّ ذاتِه، ونحو ألفيْ منزلٍ ومخزنٍ في المناطق مجردةِ السلاح. وتبع ذلك هدُم عددٍ آخرَ من العقارات بينها مجموعةٌ متفرقةٌ من الدور بلغت 24 داراً نسفها الجيشُ الصهيونيُّ بحجّة الانتقامِ من أعمال المقاومةِ. ولجأتِ السلطاتُ الصهيونيةُ عامَ 1969م إلى نسف وتدمير 14 مبنى دينياً وأثرياً، بحجّة الكشف عن امتداد الحائطِ الغربيّ، ومنها مسجدٌ إسلاميٌّ والزاويةُ الفخريةُ. وكان من نتيجة هذهِ الأعمالِ تشريدُ ما يقربُ من ألفِ شخصٍ آخرينَ من سكان القدس.
وفي السنواتِ اللاحقةِ توالت عملياتُ القتل والتدمير الصهيونيةُ التي تعرّض لها المقدسيّون، وبلغت خلالَ السنواتِ الممتدةِ بينَ 1988-1999م 110 شهداء. نصفُهم في العامين 1989 أو 1990 (أي خلالَ الانتفاضةِ الأولى) وتمّ هدمُ 298 منزلاً في الفترةِ ذاتِها. هذا باستثناء تدميرِ المباني بحجة (أسبابٍ أمنيةٍ!).
وفي الحقيقة فإن هدمُ المنازلِ العربيةِ في القدس كان دائماً لأسباب سياسيةٍ واعتباراتٍ صهيونيةٍ واضحةٍ، أبرزها:
- التضييقُ على المواطنينَ المقدسيين بهدفِ إجبارِهم على تركِ المدينةِ وإلغاء حقّهم بالإقامة في القدس، وسحبِ هوياتِهم في مرحلةٍ لاحقةٍ بذريعة نقل مركزِ حياتِهم إلى خارجِ المدينة.
- إعطاءُ مجالٍ أكبرَ للتوسّع اليهوديِّ على حساب الأرضِ الفلسطينية، واستخدامِ هدم البيوت بحجّةِ عدم ترخيصها كأداةٍ لتفريغ المدينة من مواطنيها العربِ، مقابلَ ضخّ المزيدِ من اليهود إلى المنطقة.
ومن الحالات المعبّرةِ عن استمرار عملياتِ القتلِ الصهيونيةِ، ما حدث إبّانَ انتفاضةِ الأقصى التي انطلقت منذُ يوم الجمعةِ الدامي (29/9/2000م). إذْ اقتحمت مجموعاتٌ كبيرةٌ من قوات الاحتلال ساحاتِ الحرم القدسي وهي تطلق النارَ عشوائياً باتجاهِ المصلينَ المسلمين، وكانت حصيلةُ اليوم الأول هي استشهادَ 4 أشخاص وجرحَ أكثر من 200 شخص (توفي أحدهم لاحقاً). وكانت الإصاباتُ في الجزء العلويّ من الجسم، الأمرَ الذي يعني أنّ الجنودَ الصهاينةَ رأوا في المصلين أعداءً ينبغي قتلُهم. ولولا عواملُ الحيطةِ التي اتّخذها الفلسطينيون لكان عددُ الإصاباتِ في ذلك اليوم أكبرَ. وفيما بعد تواصلتِ المواجهاتُ، ومنعت السلطاتُ الصهيونيةُ دخولَ الفلسطينيّين إلى القدسِ أيام الجمعةِ لأداءِ الصلاةِ. وبلغت حصيلةُ تلك المواجهاتِ خلالَ شهرين من الانتفاضةِ عشرةَ أشخاصٍ من البلدة القديمةِ والقرى المجاورةِ لها (24) فضلاً عن أكثرَ من 300 شهيد ونحو 13 ألف جريحٍ من مختلف الأراضي الفلسطينيةِ وتعرّضت غالبيةُ القرى إلى قصْفٍ مركّزٍ من الدبابات والحوّاماتِ الصهيونيةِ أسفر عن تدميرِ مئاتِ المباني والمنشآتِ، هذا إلى جانب الممارساتِ الإجراميةِ الأخرى.
وبعد تهجير غالبيةِ عربِ القدسِ، سعَتْ سلطاتُ الاحتلال إلى تذويبِ ما يمكنُ من الأقليةِ العربيةِ الباقيةِ في المدينة، فلجأت إلى فصلِ هذه الأقليةِ عن سكان الضفةِ الغربيةِ، وأصبح هؤلاءِ بالاسم جزءاً من سكانِ دولةِ «إسرائيلَ» لكنّهم ظلّوا عملياً بمثابةِ أجانبَ محرومينَ من حقوق المواطنةِ ومن الخدماتِ البلدية، وتعرّضوا لجميعِ أنواع القهرِ والتمييزِ العنصريّ.
خلالَ عمليةِ التهويدِ الشاملةِ، أصدرتِ السلطاتُ الصهيونيةُ (في 28/8/1968م) قانوناً جديداً لتطبيقهِ على عرب القدسِ أسمتْهُ «قانونَ التنظيماتِ القانونيةِ الإداريةِ لسنة 1968م. ومن القيود والشروطِ التي يفرضها هذا القانونُ على أبناءِ القدس مايلي:
- كلُّ عربيٍ صاحبِ عملٍ أو مهنةٍ وكان يمارسُ عملَهُ أو مهنتَهُ يجب عليه أنْ يحصلَ على رخصةٍ «إسرائيليةٍ» وبموجب القوانينِ «الإسرائيلية».
- كلُ شركةٍ عربيةٍ (خاصةٍ أم عاديةٍ أم محدودةٍ) قائمةٍ في القدس ومسجلةٍ بموجب القوانين الأردنيةِ، عليها أنْ تعيدَ تسجيلَ نفسِها لدى المحاكم «الإسرائيلية» وبموجبِ القوانين والأنظمةِ «الإسرائيلية».
- كلُّ عربيٍ يعمل طبيباً أو مهندساً أو محامياً أو مدققَ حساباتٍ عليه أنْ يتقدَّم للسلطاتِ «الإسرائيلية» بطلبِ موافقةٍ تتيحُ له الاستمرارَ بمهنته بموجبِ القوانينِ «الإسرائيليةِ».
- كلُّ عربيٍ صاحبِ امتيازٍ أو علامةٍ تجارية أو اختراعٍ عليهِ أنْ يعيد تسجيلَ امتيازِهِ أو علامتِه أو اختراعه لدى السلطاتِ «الإسرائيلية» وبموجب القوانينِ «الإسرائيلية».
ونلاحظ هنا أنّ تكرارَ عبارةِ «بموجبِ القوانينِ الإسرائيلية» يعني إعادةَ تشكيلِ الهويةِ الخاصة بجميعِ أشكال الأنشطة والأداءِ العامِ لعربِ القدس، لتكون النتيجةُ تهويداً للشخصية العربيةِ المقدسيةِ، حسبَ الأهدافِ الصهيونية.
لقد تعدّدت أساليب التضييقِ الصهيونيةُ على عمليات البناءِ والإسكانِ العربية، فتمّ تقليصُ المساحاتِ المخصصةِ للإنشاءات السكنيةِ للعرب شرقيَّ القدس، وتصنيفُ غالبيةِ الأراضي الخاصةِ بهم كمسطحات خضراءَ يمنعُ فيها البناءُ، لتكونَ احتياطاً استراتيجياً للاستيطانِ اليهودي، وشُقَّتْ شوارعَ تهدف إلى منعِ البناء العربيِّ وصودرت أراضٍ واسعةٌ لاعتباراتٍ واهيةٍ متنوعة.
في نطاق هذه الأساليبِ، لم تخصّصِ السلطاتُ الصهيونيةُ للأبنية السكنيةِ العربيةِ سوى 5 كم2 في المناطق الواقعةِ شرقيَّ القدسِ من أصل 17.5 كم2 حددت للبناء، أي نحو 7% من مجموع الأراضي التي صودِرَتْ منذُ العام 1967م وفي الوقتِ ذاتِه، لا تسمح سلطاتُ الاحتلال للعربِ بتشييدِ أكثرَ من ثلاثة طوابقَ في المبنى الواحدِ (مقابل السماحِ بثمانيةِ طوابقَ لليهود) وتضع أمامَ هذا التشييدِ عقباتٍ وشروطاً قاسيةً تكاد تكون تعجيزيةً منها رسومٌ وضرائبُ تصل إلى مئاتِ آلافِ الشيكلاتِ فضلاً عن المصاعب القانونيةِ والبيروقراطية لذا يواجه العربُ خياراتٍ صعبةً منها: مواصلةُ العيش في المكانِ ضمنَ أوضاعٍ وظروفٍ خانقةٍ، أو تكبدُ مصاريفَ عاليةٍ للبناء القانوني، أو المغامرةِ بالبناء دون ترخيص، أو مغادرة المدينة.
والنتيجةُ نشوءُ قوةٍ طاردةٍ تدفع العربَ للنزوح عن المدينة. ولا يخفى ما لهذا النزوحِ من آثارٍ كارثيةٍ على مستقبل القدس، في المنظوريْنِ السياسيِّ والاستراتيجي.
و بعدَ الإحصاءِ السكانيِّ الذي أجرته سلطاتُ الاحتلال لسكان القدس الشرقية المحتلةِ عامَ 1967م، تبيّن أنّ هناك 66 ألفَ مواطنٍ فلسطيني مقدسي ظلوا داخلَ حدود المدينةِ. آنذاك لم تقمِ السلطات بمنح هذا العددِ الحقَّ للمواطنة بموجب القانونِ الصهيونيّ، بل منحتهم «حقَ الإقامةِ»، والفرقُ واضحٌ بين الحالتين، إذ أنّ الأولَ يعني حقاً أبدياً لا يملكُ أحدٌ إلغاءَهُ إلا ضمنَ ظروفٍ معينة تتعلق بأمن الدولةِ، ومن قِبَلِ السلطاتِ الشرعية وليسَ سلطاتِ الاحتلال، أمّا الثاني فيعني أنّ وزيرَ الداخليةِ يملك الصلاحياتِ في كلّ وقتٍ لإعطاء تعليماتٍ يمكن بموجبها حرمانُ الشخصِ من الإقامِة في المدينة، ويطبّق موظفو الداخليةِ هذه التعليماتِ بصورةٍ آلية دونَ الرجوع إلى أيّ مرجعٍ آخرَ.
كان النصُّ القانونيُّ المعتمدُ في هذه الحالةِ ما ورد في «قانون الدخول لإسرائيل» (لعام 1952م) الذي طبّق على سكانِ القدس واعتبروا بموجبهِ مقيمين موجودين بتصريحِ هويةٍ تتيح لهم السكنَ والعمل، وذلك على غرارِ أيّ أجنبيٍ مقيمٍ في القدس ويحمل هذهِ الهويةَ. وفي العام 1974م صدرت أنظمةٌ تحكُمُ مسألةَ الدخول إلى «إسرائيلَ»، وكانت المادةُ الحاديةَ عشرةَ من هذهِ الأنظمةِ تنصُّ على أنّه يكون الشخصُ خارج َ«إسرائيلَ» إذا وُجِد خارج حدود دولة «إسرائيلَ» مدة 7 سنوات أو أكثرَ، أو حصل على الإقامةِ الدائمةِ والجنسيةِ في دولة أخرى «وفسّرَتِ الأجهزةُ الصهيونيةُ هذهِ المادةَ بأنّ أيّ مقدسيّ يقيمُ خارجَ القدس في الضفةِ الغربيةِ أو خارجَها ينطبق عليه هذا التعريفُ، أيْ إمكانُ سحبِ هويته المقدسية».
وفي التطبيق العملي، سمحَتِ السلطاتُ الصهيونيةُ للسكان المقدسيين وسواهم من المناطقِ المحتلةِ بالسفر إلى الدول العربيةِ عن طريق الأردنِ أو السفرِ إلى الخارج عن طريق مطارِ اللدِ، وذلك على أملِ ألا يعودوا إلى موطنِهم. وكانتْ مدةُ تصريحِ الخروجِ عبرَ الجسورِ معَ الأردن ثلاثَ سنواتٍ، أمّا الخروجُ من مطار اللدِ فكان يتمُّ بواسطة وثيقةِ سفرٍ سياسيةٍ تصدرها وزارةُ الداخليةِ الصهيونيةِ ومدتها سنةٌ واحدةٌ. أما بالنسبة للسكان المقدسيّين الذين سكنوا مناطقَ الضفةِ الغربيةِ فلم يكونوا بحاجةٍ إلى تصريحٍ معيّنٍ للدخول إلى القدس وحافظوا على الإقامة، ويبلغ عددُ هؤلاءِ حالياً نحو 70 ألف مقدسيّ من أصل نحو 170 ألف مقدسيّ يحملون الهوياتِ الصادرةَ عن وزارة الداخلية الصهيونيةِ.
وفي أوائل العام 1996م، قامت سلطاتُ الاحتلال بتبليغ المئاتِ من السكان المقدسيين بأنّ تصريحَ الإقامةِ الدائمة قد انتهى ولهذا فعليهم تركُ القدسِ وتسليمُ هوياتهم، وَوُجّهتْ هذهِ الإجراءاتُ على وجه الخصوصِ للمقدسيين المقيمين خارجَ حدود بلديةِ القدس. وطُبّقت بأثرٍ رجعيّ، مما عرّض الألوفَ منهم إلى خطر سحبِ الإقامةِ الدائمةِ وشطبِ أسمائهم من سجلات السكّانِ، بحجّة أنّهم نقلوا مركزَ حياتهم إلى خارج المدينة أو البلادِ. ولوحِظ أنّ حملةَ مصادرةِ هوياتِ الإقامة قد تصاعدَتْ في عهد حكومةِ اليمينِ الصهيوني (برئاسة نتنياهو) لكنّها استمرَّتْ في عهد حكومة باراكَ. وحسب إحصائيةٍ فلسطينية بلغَ عددُ المقدسيين الذينَ صودِرَتْ هويةُ إقامتهم في المدينة خلالَ السنوات 1996-1999م ما مجموعُهُ 2955 حالة مبلّغاً عنها، وذلك من أصل نحو 6179 حالةً مصادرةً للهويات المقدسيةِ منذُ العامِ 1967م.
تعبيراً عن الرفض التامِ للإجراءات الصهيونيةِ، أقامت عشراتُ العائلاتِ المقدسيةِ اللواتي سُحبت هوياتُهم مخيمَ الصمودِ والرباطِ على أرضِ وقفيةِ حي الصوانة المقدسيّ، بهدف الضغطِ على سلطات الاحتلالِ وحملِها عن التراجع عن إجراءاتها والكفّ عن حرمان العربِ من الإقامة في مدينتهم. ولكن وفي الوقت ذاتِه، وكرد فعل عكسيٍ شهدت مدينةُ القدسِ عودةً كثيفةً من أبنائها إلى الاستقرار في مدينتهم، ونشطت مؤسساتٌ أهلية وغيرُ حكوميةٍ في تمكين العائلاتِ من مواجهة الظروف القاسيةِ التي تكتنف الإقامةَ في المدينة. وقامت أطرٌ وفعالياتٌ فلسطينيةٌ بتنظيم أنشطةٍ إعلاميةٍ وحقوقيةٍ وسياسيةٍ واجتماعيةٍ ترمي إلى تعزيزِ صمودِ أبناءِ القدس.
أقلقتْ هذهِ الظاهرةُ السلطاتِ الصهيونيةَ، فحاولت تهدئةَ التوتّرِ باعتماد مناورةٍ جديدةٍ تقضي بالكفّ عن سحب هوياتِ المقدسيين (أواخر العام 1999م) وأخذت تُطبقُ مناورتَها هذهِ بصورةِ محدودة،ٍ وذلك بانتظار فرصةٍ أخرى يتمّ الإعدادُ لها وتكون بمثابة حلّ جذريِّ يترتّبُ عليهِ تفريغُ القدسِ من أكبرِ عددٍ من مواطنيها العربِ.
في إطار التوجّهاتِ الصهيونيةِ المستقبليةِ إزاءَ مسألةِ المواطنةِ المقدسيةِ للعرب في المدينةِ وضَعَ طاقمٌ مِنَ المسؤولين والخبراءِ والصهاينةِ خطةً جديدةً، من المتوقّع تطبيقُها لدى إنضاجِ ظروفِها الذاتيةِ، تتضمّن تقسيمَ العرب في القدسِ إلى خمسِ مجموعات، كما يلي:
- المجموعةِ الأولى: تشملُ سكانَ القدس الشرقيةِ الذينَ شَملَهمُ الإحصاءُ الصهيونيُّ عامَ 1967م، والذينَ يقطنون رسمياً داخلَ حدودِ بلديةِ القدسِِ ويحصلون على تأشيراتِ إقامةٍ دائمةٍ. وهؤلاءِ تعترفُ السلطاتُ الصهيونيةُ بإقامتهم ويمكنُهُمْ الحصولُ على حقوقِهِم الإداريةِ والاجتماعيةِ والخدميةِ.. إلخ.
- المجموعةِ الثانيةِ: تشملُ سكانَ القدسِ الذين كانوا يحملون تأشيرةَ الإقامةِ الدائمةِ التي أُلغِيَت من قِبَل السلطاتِ الصهيونيةِ لأسبابٍ متعدّدةٍ، ويقيم هؤلاءِ في تجمّعاتٍ محيطةٍ بالقدس ويبلغ عددهم نحوَ 70 ألف مواطنٍ. وترى سلطاتُ الاحتلالِ أنّ من حقّ أولئك السكان الاحتفاظُ ببطاقاتِهِم (الزرقاءِ) لتكونَ بمثابةِ تصريحٍ لعبورِهِم الخطَ الأخضرَ لكنْ يتمّ حرمانُهم من الحقوقِ المدنيةِ والاجتماعيةِ والصحيةِ والتعويضاتِ ولا يملكون حقَّ المواطنةِ في القدس.
- المجموعةِ الثالثةِ: تتكونُ ممّن جاؤوا للسكن في القدس عن طريق جمعِ الشملِ، وكان هؤلاءِ يعامَلونَ كمقيمين أجانبَ، ثم سُمِح لهم بالإقامةِ الدائمةِ، وتعتزمُ السلطاتُ الصهيونيةُ حرمانَهم من جميعِ حقوقِهم الاجتماعية والصحية.. إلخ.
- المجموعةِ الرابعةِ: تضمّ مواطني القدسِ الذي يقيمون فيها لكنّهم يحملون بطاقاتِ الضفةِ الغربيةِ (مثلَ سكانِ: بيت حنينا القديمةِ، الشيخ سعد، بيت إكسا، الولجة، بيرعونة) ممن ليس لهم مدخلٌ أو مخرجٌ بينَ قراهم والمناطقِ المجاورةِ إلا عبر حدودِ بلديةِ القدس الغربيةِ الكبرى. وهؤلاءِ ستكون بطاقاتُهم شبهَ تصاريحَ خاصةٍ تخوّلهم الدخولَ أو الخروجَ إلى مناطقهم وإلى حدود غربيِّ القدسِ فقط، دونَ منحِهم حقَّ المواطنةِ المدنيةِ والاجتماعيةِ وسواها، وعدم اعتبارهم مواطنين مقدسيّين، على الرغم من استمرارِ فرضِ الضرائب على ممتلكاتِهم وأنشطتِهم.
- المجموعةِ الخامسةِ: تتألفُ من سكان القرى الفلسطينيةِ المحيطةِ بالقدس التي شملها حقُّ الاقتراعِ للمجلس التشريعي الفلسطيني (مثل: العيزريةِ، أبو ديس، بدو، حزما، مخماس، الرام) وهيَ تجمّعاتٌ لن يكونَ لسكّانها أيُّ حقوقٍ ويمكنهم الحصولُ على تصاريحَ دخولِ القدسِ، مع إرغامِهم على دفع الضرائبِ لأنّهم ينتمون إلى المجالِ «الإسرائيلي»، بينما سيكونون من الناحيةِ الإداريةِ تابعين للسلطةِ الفلسطينيةِ.
إنّ من شأن تطبيقِ هذه الخطةِ إضافةَ تعقيدٍ آخرَ إلى مواطنة العرب في القدس، وسوف يترتّب على ذلك تقليصُ أعدادِ هؤلاءِ العربِ، وحصولُ الكيانِ الصهيوني على مكاسبَ سياسيةٍ وعمليةٍ تسرع وتأثّر في تهويد المدينةِ.
إزاءَ هذا الواقعِ المؤلم لسكان القدس بشكل خاص والفلسطينيين بشكل عام انطلقت انتفاضة الأقصى التي تحوّلت على الساحة العربيةِ-الإسلاميةِ إلى قوةِ توحيدٍ هائلةٍ يكاد لا يضاهيها أيُّ حدثٍ آخرَ، ففي الدائرة الأولى استقطبت المواجهةُ جميعَ شرائح الشعبِ الفلسطيني وقواه وفعالياتِه في الضفة والقطاع، وتلاشى «الخطُّ الأخضرُ» بانخراطِ عربِ فلسطينَ المحتلةِ منذ 1948م في الانتفاضة، مؤكّدين بالشهداء والجرحى والخسائرِ الماديةِ وحدةَ الشعبِ والأرضِ والقضيةِ، ومعبّرين عن مركزيةِ القدسِ في انتمائهم الديني والوطنيّ. وفي الدائرةِ الثانيةِ عمّتْ مواقفُ التأييدِ والتضامنِ مع الانتفاضةِ مختلفَ العواصمِ والمدنِ العربيةِ والعالميةِ. وفي هذا دلالةٌ واضحةٌ على مكانةِ القدسِ والمدافعين عنها لدى العرب والمسلمين وقوى السلم والحرية في العالم.
وفي هذا المنحى، أفضتِ انتفاضةُ الأقصى إلى جملةٍ من الدروسِ والعِبَرِ التي عمّقت مساربَها بين مجملِ ثوابتِ الصراعِ العربي الصهيوني، وفي مقدّمتها:
- في زمن الأفرادِ قد تستطيعُ سلطاتُ الاحتلالِ أنْ تحقّق نصراً عسكرياً أو أنْ تفرضَ الأمرَ الواقعَ بالقوة الغاشمة، بيْدَ أنّه في «زمن المجمّعاتِ» يخسر الصهيونيّون أيَّ معركةٍ حتى قبل أنْ تبدأَ، بفعل القدرةِ الواعدةِ في الجانب العربيِّ الإسلامي.
- إنّ السيطرةَ الصهيونيةَ على القدس جعلتِ المدينةَ والمسجدَ الأقصى أقربَ إلى المسلم من ظلّه، وأنّ لعبةَ الموتِ التي تمارسها قواتُ الاحتلالِ أخفقت في بلورة حالةِ الردعِ التي يتوخّاها الصهيونيّون.
- أثبتت عملياتُ إطلاق النارِ وإجراءاتُ الإغلاق وحرمانُ المسلمين من الوصول إلى الحرمِ القدسيِّ أنّ سلطاتِ الاحتلالِ تسعى إلى مواصلةِ نهجها عبرَ تأجيجِ المشاعر، وتصوير الأمرِ على أنّه مجرّدُ كراهيةٍ إسلاميةٍ لليهود. وفي هذا تزييفٌ لطبيعة الصراعِ وأسبابِهِ المتعلقةِ باغتصاب الأرضِ وتهجير سكانِها، وتغطيةٍ على المساعي الراميةِ إلى شلّ قدرةِ الباقين في الوطن على البقاءِ والصمود.
- تشكّل قضيةُ القدس مدخلاً واسعاً للتاريخ الحقيقّي الذي يكتبه الشهداءُ والجرحى بدمائهم، كبديلٍ لرواية التناخ (العهد القديم) وللأضاليل والترهاتِ التي روّجَها العابثونَ بهذا التاريخِ. وفي ضوء ما يجري، فمن غيرِ الممكن عزلُ هذهِ القضية عن مجملِ الموضوعاتِ التي يدور حولها الصراع.
- يمكن، منذُ الآنَ، اعتبارُ أيِّ حلٍّ وسطٍ «قد يتمّ التوصلُ إليه بشأن القدسِ، قنبلةٌ موقوتةٌ قابلةٌ للانفجار في أيّ لحظة، لأنّ حلاً كهذا سوفَ ينتقصُ بالضرورة من الحقّ العربيِ الإسلامي الثابتِ في القدس، ويعطي لليهود شرعيةً ترفضُ الأمةُ التسليمَ بها.
تؤكّد هذهِ الدروس أنّ الاحتلالَ يواجهُ أفقاً مسدوداً، فقضية القدسِ تختزل في سياقها الطبيعي صراعَ الوجودِ بينَ نقيضين يتعذّر التوفيقُ بينهما، أولاهما استمرارُ العملِ لاستكمال المشروعِ الصهيوني الاحتلالي، وثانيهما رفضُ الأمةِ الانصياعَ إلى مشيئة أعدائِها، مهما بلغت قوتُهم.
وفي خضمِ هذا الصراعِ فالأملُ معقودٌ على المخلصين من العربِ والمسلمين لإنقاذ القدسِ من براثن الاستعمارِ الاستيطاني الصهيوني وعودتِها عاصمةً لفلسطين، ولا سبيلَ إلى ذلك إلاّ بوحدةِ العربِ، فبالوحدةِ تعودُ القدسُ وبالفرقة لن تعود.
* * *
المراجع
- حسين، غازي: الاستيطان اليهودي في فلسطين من الاستعمار إلى الامبريالية، اتحاد الكتاب العرب 2003م.
- روبرتس، ج.م. ترجمة فارس قطّان: موجز تاريخ العالم ج1، منشورات وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية، دمشق 2004م.
- زريق، قسطنطين: الأعمال الفكرية العامة، المجلد الأول (معنى النكبة)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت – لبنان ط3 – 2001م.
- سويد، ياسين: الفن العسكري الإسلامي، أصوله ومصادره، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، لبنان 1990م.
- هيكل، محمد حسنين: الانفجار، حرب الثلاثين سنة ط1، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة – مصر.
- وايزمن، حالييم: مذكرات حاييم وايزمن، دار الفنون للطباعة والنشر، بيروت، ودار قانون النهر للأبحاث والدراسات الإنسانية، صور 2006م.
- يوسف، محسن: سكان القدس في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي، مجلة المؤرخ العربي (العدد 57 – 1999م)، الأمانة العامة لاتحاد المؤرخين العرب – بغداد – العراق.
* * *
د. محمد يحيى خراط: باحث في التراث العربي ووزير سابق.
المصدر : مجلة المعرفة – العدد 544