افراسيانت - بقلم: الدكتور بهيج سكاكيني - اذعانا للضغوط الامريكية ونزولا عند رغبة ادارتها وتجاوبا مع الصقور في حلف الناتو العسكري قرر وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في اجتماعهم الأخير في بروكسل تمديد العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا ستة أشهر أخرى.
هذا على الرغم من حجم الاضرار الذي تسببه هذه العقوبات على اقتصاديات بعض الدول الاوربية، وهي بالتالي كمن يطلق النار على قدميه كما يقول المثل. وحتى لا يقول البعض اننا نتحدث في الهواء، فها هو المعهد النمساوي للدراسات الاقتصادية يشير من خلال دراسة أجريت لخبراء اقتصاديين قد اضرت باقتصاد دول اليورو.
فبحسب الدراسة فان المانيا ستخسر ما يقرب من 27 مليار دولار الى جانب خسارة 1% من الدخل القومي للبلاد، الى جانب تهديد ما يقرب من نصف مليون وظيفة من سوق العمل المرتبطة بالتعامل الاقتصادي مع روسيا.
أما ايطاليا فأنها فمن المرجح أنها ستخسر 0.9% من دخلها القومي الى جانب فقدان 200 ألف فرصة عمل.
أما فرنسا فمن المرشح أنها ستخسر 0.5% من دخلها القومي الى جانب 150 ألف فرصة عمل.
ومن الواضح أن الأمور لن تقف عند هذا الحد وخاصة مع ازدياد النزعات العدوانية الامريكية نحو مزيد من التطرف فيما يختص بحربها على روسيا في محاولة عزلها وخنقها اقتصاديا وسياسيا على المستوى الإقليمي والدولي، متخذة من الازمة الأوكرانية التي خلقتها بالأساس الإدارة الامريكية وأجهزة مخابراتها وبتشجيع اعلامي وسياسي واسع للحركة الانقلابية.
نحن لا نريد هنا العودة الى الوراء كثيرا ولكننا نريد أن نؤكد على ان الولايات المتحدة هي من دعمت ومولت وقامت بالتشجيع المباشر والغير مباشر الانقلابيين الذين تجمعوا في الميدان بالانقلاب على السلطة الشرعية المنتخبة من قبل الشعب الاوكراني (بغض النظر عن رأينا بها).
وقد شكلت ميليشيات الحزب القومي المتطرف سفوبدا الى جانب ميليشيات من النازيين الجدد في أوكرانيا العصب الأساسي لهذ التحرك والذين قاموا بترويع الناس وقتل بعض المتظاهرين ورجال البوليس الاوكراني عن طريق القناصة كما تبين لاحقا لتأجيج الموقف.
وهذه الميليشيات الفاشية والنازية الى جانب تلك المنتمية الى الحزب القومي المتطرف شكلت وتشكل الان رأس الحربة بالاعتداء على منطقة دونباس التي تضم دونيتسك ولوغانسك في شرقي أوكرنيا حيث الغالبية من السكان من أصول روسية.
ولقد قامت هذه المجموعات المتطرفة بارتكاب المجازر بحق السكان هناك. هذه المجموعات الإرهابية هي من يقف خلف عدم تطبيق اتفاقية مينسك التي توصلت اليها دول الاتحاد الأوروبي واوكرانيا وروسيا (وهي بالأساس مقترحات الرئيس بوتين لحل الازمة).
ويجدر الإشارة هنا الى أن الكونغرس الأمريكي الذي يسيطر عليه الحزب الجمهوري صوت بالأغلبية المطلقة عدم تسليح احدى ميليشيات المجموعات النازية الذي يطلق عليها Azov Battalion نظرا لارتكابها المجازر في شرقي أوكرانيا ولكونها تتبنى الأفكار الفاشية.
وهم نفس المجموعة التي كانت قبل فترة قد وصفتهم صحيفة نيويورك تايمز بالأبطال المدافعين عن الحضارة الغربية في قتالهم في شرقي أوكرانيا. وهؤلاء الفاشيين ليسوا وحدهم في الميدان المدافعين عن "الحضارة والقيم الغربية" فلقد قامت الحكومة الأوكرانية اليمينة وتحت ضغوطات من مؤسسات حقوق انسان محلية ودولية باعتقال ثمانية أعضاء من مجموعة تنتمي الى ميليشيا لقوى قومية متطرفة المدعوة Tornado Battalion ومن ضمنهم قائد هذه المجموعة لارتكابهم جرائم في شرقي أوكرانيا من سرقات وعمليات تعذيب واختطاف وعمليات اغتصاب متعددة.
هذه المجموعات الفاشية التي تعيث بالأرض فسادا في شرقي أوكرانيا التي يتكلم أغلبية سكانها الروسية، تعمل على عدم تطبيق ما ورد في اتفاقية مينسك فيما يختص بإعطاء وضع خاص لهذه المناطق ضمن أوكرانيا موحدة. الولايات المتحدة تصر على أن سبب المشاكل في شرقي أوكرانيا هو الدعم الروسي لهاتين المنطقتين التي يدافع أهلها عن أرضهم وعرضهم أمام الهجمات البربرية لهذه المجموعات الفاشية والقومية المتطرفة، واللذين يشكلون رأس الحربة لبعض قطاعات من الجيش الاوكراني في تلك المناطق الذي يتجنب القتال المباشر مع وحدات الحماية الشعبية لهذ المناطق مكتفيا بالقصف المدفعي بين الحين والأخر، فيما تقوم المليشيات النازية بالهجوم المباشر في هذه الاحياء وارتكاب الفظائع فيها كما هو الحال مع داعش في سوريا والعراق.
ما لا تذكره وسائل الاعلام الغربية أنه وقبل ظهور هذه المجموعات الفاشية لم يكن هناك سلاح في تلك المناطق ولم يكن هنالك وحدات حماية شعبية مسلحة من أهالي هذه المقاطعات، وعلى ان كل ذلك آتى نتيجة الاعتداءات المتكررة عليهم فهبوا للدفاع عن أنفسهم نظرا لعدم وجود الأفق للحلول السياسية. وعل الرغم من كل هذه الحقائق على الأرض فان الولايات المتحدة مصممة على تأجيج الموقف وذلك بارسال الأسلحة والخبراء العسكريين والمدربين الى أوكرانيا الى جانب تخزين الأسلحة الثقيلة في الدول المحيطة بروسيا وخاصة دول البلطيق، التي وهبت أراضيها وأجواءها للجيش الامريكي ولقوات حلف الناتو.
وهنالك توجه لزيادة ما يسمى قوات التدخل السريع للقوات العسكرية لحلف الناتو من 6000 جندي الى 40000 جندي وهو زيادة كبيرة، مما يدلل على النوايا العدوانية للولايات المتحدة التي تريد أن تجر دول الاتحاد الأوروبي معها ضمن هذا الحلف الذي أبقي عليه بالرغم من انتهاء الحرب الباردة في بداية تسعينات القرن الماضي.
الولايات المتحدة لا تستطيع أن ترى أية قوة في العالم تقف حجر عثرة أمام سطوتها وهيمنتها على العالم اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، والتي لم ينافسها أحد عليها منذ انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك منظومة الدول الاشتراكية، التي أصبحت في معظمها دول منضوية في حلف الناتو او تحت سيطرته بفعل التوجهات الامريكية سواء من قبل الديمقراطيين أو الجمهوريين.
ومنذ ذلك الحين فقد صالت وجالت الإدارات الامريكية المتعاقبة وتم غزو العراق وأفغانستان على سبيل المثال دون أي مقاومة دولية تذكر وتحولت الأمم المتحدة الى مطية للولايات المتحدة الامريكية.
السنوات السابقة شهدت بروز روسيا والصين على الساحة الدولية وتنامي تأثيرهما السياسي والاقتصادي على الساحة الدولية وبروز الامكانية الواقعية للوقوف أمام العنجهية والعربدة الامريكية على الساحة الدولية، وكسر العالم أحادي القطبية التي تربعت على عرشه الولايات المتحدة لأكثر من عقدين من الزمن.
ومن هنا عمدت الولايات المتحدة الى زعزعت الاستقرار والامن الأوروبي بكل أبعاده السياسية والاقتصادية والأمنية الى جانب أمن الطاقة العصب الرئيسي للاقتصاد الأوروبي، متخذة من الازمة الأوكرانية قميص عثمان وذريعة للوقوف أما روسيا.
القضية ليست مرهونة بأوكرانيا بالطبع فهي أبعد من ذلك بكثير ومرتبطة بالاستراتيجية الكونية للولايات المتحدة والتي تحاول ان تجر معها "حلفاءها" وادواتها في أرجاء العالم الى هذه الاستراتيجية، وليكونوا رأس الحربة وخدم لهذا التوجه العدواني السافر.
يكفي أن ننظر الى منطقتنا وما يحدث بها الان ومن هو المستفيد من كل هذه الصراعات الدائرة ومن المحرك الرئيس لها لندرك هذه الحقيقة.
ويبقى السؤال الى متى تبقى دول الاتحاد الأوروبي تطلق النار على قدميها خدمة للولايات المتحدة ولمخططاتها؟