افراسيانت - عبد الحليم قنديل - يبدو أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اكتفى في حرب أوكرانيا بلعب دور هامشي كوميدي الطابع، فقد صعد مؤخرا إلى سطح مبنى البيت الأبيض، وكان الصحافيون يخاطبونه ويرقبونه من أسفل، وسألوه عما إذا كان ينوى تجديد وبناء قاعة للرقص هناك، ومازحهم قائلا في نبرة عالية الصوت، أنه ينوى بناء صواريخ نووية، وتدفقت الأسئلة المذعورة، مع استفسارات قلقة عن ما يقصده الرئيس، وبالذات بعد قرار ترامب المعروف بنشر غواصتين نوويتين أمريكيتين بالقرب من سواحل روسيا، ولم يفاجأ عاقل ولا مجنون بجواب ترامب لاحقا، حين أعلن أنه ينوى سحب الولايات المتحدة بالكامل من حرب أوكرانيا، وقال في لهجة مسرحية هذه ليست حربي، وأضاف إنها حرب جو بايدن، جريا على عادته في تحميل الأوزار كلها للرئيس الأمريكي السابق، وإن كان لا ضير عنده من توزيع الشتائم والبلاوي على آخرين أحيانا، وعلى الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما بالذات .
وعلى سبيل إكمال دوره الكوميدي البائس، قرر ترامب أن يرسل صديقه ومبعوثه المقاول الصهيوني اليهودي ستيف ويتكوف إلى موسكو، سعيا للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي سبق لترامب أن أنذره وهدده إن لم يوقف حرب أوكرانيا، ومنحه مهلة خمسين يوما، قرر اختصارها فيما بعد إلى عشرة أيام، ومن دون أن يرمش جفن بوتين، فكان قرار ترامب أن يرسل ويتكوف لاستمالة عطف بوتين، الذي لم يغير حرفا في شروطه لتسوية النزاع الأوكراني.
هكذا بدا مشهد إرسال ويتكوف في نهاية مهلة أيام ترامب، وكأن الأخير كان يعطي مهلة وإنذارا لنفسه لا للرئيس الروسي، ولكي يوحي بأن هناك تقدما ما في سعيه للحصول على جائزة وقف حرب أوكرانيا، وكان ترامب قد ادعى أن بوسعه وقف حرب أوكرانيا في 24 ساعة، ثم تداعت الأيام والشهور إلى اليوم، ومن دون أن يحدث شيء، اللهم إلا اشتداد وطأة الحرب، واتساع خرائط التقدم والتمدد العسكري الروسي في الأراضي الأوكرانية، وكان ترامب عبّر مرارا عن ضيقه من مراوغات بوتين، رغم أنه ـ أي ترامب ـ أنفق ساعات طويلة في ست مكالمات هاتفية طويلة مع سيد الكرملين، وفي ذروة ضيق ترامب المعلن من استخفاف بوتين به، هدد روسيا بفرض عقوبات أمريكية إضافية، وفرض رسوم جمركية إضافية بنسبة مئة في المئة على صادرات روسيا وشركائها التجاريين في الهند والصين بالذات، وجاءت النسبة أقل بكثير من نصوص مشروع قانون في الكونغرس، أعده السيناتور لينزي غراهام الصهيوني اليهودي، ورفع فيه نسبة الرسوم المفترضة عقابا لروسيا والشركاء إلى 500%، ورغم تواضع عقوبات ترامب قياسا لما أراده غراهام، فقد عاد ترامب إلى التشكك في جدوى أي عقوبات على روسيا، وقال في تصريحات لاحقة ما نصه، أن الروس ماكرون وبارعون جدا في تجنب (أثر) العقوبات.
تواصل روسيا امتيازها وتفوقها الميداني، وحرب أوكرانيا كانت من بدايتها حربا ذات طابع عالمي جارية في الميدان الأوكراني، وواجهت فيها روسيا تحالفا من 54 دولة على رأسها أمريكا.
وهكذا بدا ترامب كأنه يريد التراجع عن قصة التهديد بالعقوبات على روسيا، ويسعى لإخراج التراجع بقرار إرسال ويتكوف للقاء بوتين لمدة ثلاث ساعات، خرج بعدها يوري أوشاكوف مستشار الرئيس الروسي، ووصف المحادثات بالبناءة الحافلة بإشارات متبادلة بين موسكو وواشنطن، وهو ما اعتادت موسكو على قوله كل يوم تقريبا، ولكن بمفهومها الخاص، الذي يريد تصريف مباحثات إسطنبول وغيرها في جوانب إنسانية، من نوع تبادل الأسرى وتسليم جثث آلاف القتلى الأوكران، أو حتى وقف إطلاق نار نوعي عابر، أما وقف الحرب فمشروط بقبول الشروط الروسية الكاملة، وإعلان كييف عن الاستسلام الكامل، وهو ما عبّر عنه الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، حين قال للصحافيين، إن العملية طويلة، وتتطلب جهدا، وعلى الأرجح يتزايد فهم هذا الأمر في واشنطن، فيما لا تعبر موسكو عن شبهة جزع من فرض عقوبات جديدة عليها، فاقتصاد روسيا ينمو بمعدلات كبيرة، رغم أو بفضل فرض 24 ألف عقوبة اقتصادية على موسكو، ومعدل نمو الاقتصاد الروسي بلغ 4.3% في العام الأخير، والعملة الروسية الروبل تبدى ثباتا مدهشا، فقد كان الدولار الأمريكي يساوى 75 روبلا قبل حرب أوكرانيا، وبعد نحو ثلاث سنوات ونصف السنة من الحرب الضروس، لا يزال سعر الدولار عند مستوى 78 روبلا روسيا، وهكذا تبددت أوهام الغرب كله عن إمكانية خنق روسيا بسلاسل العقوبات الغليظة، وفرض أسعار تحكمية مخفضة للبترول الروسي إلى 43 دولارا للبرميل، على نحو ما فعله الاتحاد الأوروبي في حزمة عقوباته الأخيرة المضافة، وهو ما تهزأ به روسيا صاحبة الاحتياطات المهولة من البترول والغاز الطبيعي، وصاحبة أسطول الظل، والمكانة المميزة في (أوبك بلس) ومنظمة بريكس وتحالف شنغهاي وغيرها، ولا يضيرها أن تبيع بترولها لأصدقائها بأسعار تفضيلية مخفضة .
وفي الميدان العسكري الملتهب، تواصل روسيا امتيازها وتفوقها الميداني، وحرب أوكرانيا كما هو معروف، كانت من بدايتها حربا ذات طابع عالمي جارية في الميدان الأوكراني، وواجهت فيها روسيا وتواجه تحالفا من 54 دولة معادية على رأسها أمريكا، وأدار الرئيس الروسي حربه على نحو مدروس متدرج، دون إعلان التعبئة العامة، ولجأ إلى بناء وتطوير مجمع عسكري صناعي هائل، تزيد إنتاجيته اليوم أربعة أمثال ما ينتجه الغرب الأمريكي الأوروبي كله، وثبت بحقائق الميدان المرئية، أن ما سماه بوتين بالعملية العسكرية الخاصة، تحرز تقدما يوميا مطردا على الأرض، يتجاوز المقاطعات الأوكرانية الأربع، التي أعلنت روسيا ضمها رسميا في أواخر سبتمبر 2022 (لوغانسيك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون).
ففي كل يوم، تسيطر روسيا على بلدة أو بلدتين مما تبقى من المقاطعات الأربع، تحت اليد الأوكرانية، وتضيف إليها تقدما محسوسا في ثلاث مقاطعات أخرى هي سومي وخاركيف ودنيبرو بتروفسك، وتخطط لعبور نهر دنيبرو، الذي تريد موسكو جعله حاجزا طبيعيا يفصل أراضيها الجديدة عما تبقى من أوكرانيا، إضافة للسيطرة مع القرم على حزام من المناطق الآمنة شمال وغرب ما تسميه روسيا الجديدة، مع توجيه ضرباتها الصاروخية شبه اليومية إلى مخازن وخطوط الإمداد والتدريب بالسلاح الغربي، وتسعى لاستنزاف متصل لأسلحة الغرب ومئات مليارات دولاراته جميعا في الميدان، وتمتص الضربات المتفرقة لأراضيها بأسراب الطائرات المسيرة المنطلقة من أراضي أوكرانيا، ولا يمكن لأحد عاقل، أن يتصور حدودا بعينها للتوسع الروسي الدؤوب في غير تعجل، فأهداف روسيا أبعد من إخضاع أوكرانيا ونزع سلاحها، أو منعها من الانضمام لحلف الناتو والاتحاد الأوروبي، والجيش الأوكراني غادر مربع الإنهاك إلى هاوية الهلاك الفعلي، وإلى حد أن الرئيس الأوكراني اليائس زيلينسكي، قرر مؤخرا جواز تجنيد الرجال فوق سن الستين، وبما آثار سخرية الرئيس الأمريكي نفسه،
رغم أن الأخير قرر استئناف توريد المعدات العسكرية للميدان الأوكراني، وبشرط أن يدفع الحلفاء الأوروبيون الثمن مقدما، فهو يدرك قبل غيره، أن هزيمة الغرب في أوكرانيا صارت أمرا مقضيا، ولا يلتفت كثيرا إلى أقوال ساذجة تصدر أحيانا عن مسؤولين أوروبيين، بينها ـ مثلا ـ تصريح عبثي صدر عن وزير الخارجية الألماني الجديد يوهان فاديفول، الذي قال قبل أسابيع، إن أوكرانيا لا تخسر، وأشاد بالتحول في موقف ترامب إلى مواجهة بوتين ، فيما لا تصدر عن الرئيس الروسي غير أقواله المحسوبة بعناية، وقبلها أفعاله بقرار فك القيود عن نشر شبكات الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى باتجاه أوروبا وآسيا، وعبر المحيط الهادي.
ثم فاجأ بوتين الغرب بإعلانه عن دخول صواريخ أوريشنيك إلى الخدمة على أراضي بيلاروسيا المجاورة الشقيقة المتحالفة مع موسكو، كان الإعلان صادما لأوروبا المتخوفة من جيش روسيا، الذي يستعيد سمعة الجيش الأحمر في الحرب العالمية الثانية، وصواريخ أوريشنيك متعددة الرؤوس كمعناها في اللغة الروسية شجرة البندق، وتستطيع حمل رؤوس تقليدية ونووية معا، ويصل مداها إلى 5500 كيلومتر، وليس بوسع أي نظام دفاع جوي في العالم اعتراضها، وتزيد سرعتها عن عشرة أضعاف سرعة الصوت، وتقطع 1200 كيلومتر في الدقيقة الواحدة، وجرت تجربتها النهائية قبل شهور على أراضي أوكرانيا نفسها، وأتى إعلان أوريشنيك المفزع للغرب، عقب إعلان ترامب عن نشر غواصتين نوويتين بالقرب من روسيا، وعقب المجادلة العنيفة لفظيا بين ترامب وديمتري ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، التي هدد فيها ميدفيديف بنظام اليد الميتة الموروث عن الاتحاد السوفييتي السابق، وهو نظام آلي للرد تلقائيا على أي هجوم نووي يستهدف روسيا.
وباختصار، دفعت روسيا الوضع كله إلى حافة الحرب النووية، وتركت ترامب لمقاطعه الكوميدية المصورة تلفزيونيا.