افراسيانت - وسيم ابراهيم - السفير - النتيجة كانت معروفة سابقا: تحصيل حاصل. رأى الأوروبيون بأم أعينهم ما الذي يمكن أن يفعله من شهدوا الويلات حينما تعترض السدود طريقهم. إنهم ببساطة يفيضون، مقتلعين تلك الحواجز. عواقب الوقوف أمام السيل هو ما يحصل الآن، خصوصا على حدود المجر مع صربيا. هناك أطلقت حكومة بودابست، اليمينية المتشددة، حملة قمع غير مسبوقة لصد اللاجئين. الانتفاضات الصغيرة التي قام بها اللاجئون في اليونان، في محطات قطار بودابست، مرشحة الآن للتصاعد أمام المنع.
فشل أوروبا في احتواء أزمة التدفق على طريق البلقان، وفشلها في انشاء سياسة موحدة للجوءٍ يراعي قيم حقوق الانسان التي تنادي بها، سيضعها أمام «ثورة اللاجئين» التي ظهرت بوادرها مسبقاً.
كما كان متوقعا، فشل وزراء داخلية الاتحاد الأوروبي في الاتفاق على آلية دائمة لـ «تقاسم الأعباء». العديد من دول التكتل ترفض سياسة «الحصص الالزامية»، مدركة تماما أن هذا يفتح الباب على تغيرات لا تريدها. دول البلطيق: ليتوانيا ولاتفيا واستونيا، ليست مستعدة لتجريب مجتمع «متعدد الثقافات» سيفرضه استقبال حصتها من اللاجئين. السبب ذاته يحرك رفض النواة الصلبة، بالتوازي مع سياساتها اليمينية المتشددة تجاه اللاجئين والمهاجرين.
هذه النواة لا تزال تتمسك بموقف صلب، قاد لصدام مع فرنسا وألمانيا. رأس الحربة هي هنغاريا، وخلفها تقف الدول الثلاث الأخرى، سلوفاكيا والتشيك وبولندا، مبررة سياسة «ترهيب» اللاجئين.
العجز عن حل الأزمة جعل الحدود تعود مجددا إلى أوروبا. منطقة التنقل الحر «شنغن»، حيث أزالت 26 دولة الحدود بينها، عادت اجراءات التفتيش لتعطلها. ألمانيا نصبت الحواجز على حدودها، للضغط على من يعارض «تقاسم الأعباء»، فلحقتها النمسا والتشيك وسلوفاكيا. وزير الداخلية السلوفاكي روبيرت كاليناك نفى ردا على «السفير» أن تكون الاجراءات هي إعادة لنصب الحدود. قال مبررا عودة اجراءات الرقابة: «قمنا بهذه الاجراءات فقط لأننا أردنا القيام بمحاربة جدية أكثر للمهربين»، قبل أن يضيف: «نحن نرصد السيارات المشبوهة ونقوم بتعزيز وجود الشرطة لتطبق هذه الاجراءات الجديدة».
لكن المنطق الذي يسرده الرجل يقول إن بلاده تعامل اللاجئين كخصوم، وليس فقط المهربين. يقول مبررا رفض استقبال «حصص إلزامية» من اللاجئين: «الحصص لا تعمل، فالاسبوع الماضي كان هناك 14 ألفاً عبروا الحدود النمساوية، وفقط 700 منهم طلبوا اللجوء هناك. إنهم ليس فقط لا يريدون اللجوء في المجر وسلوفاكيا، بل أيضا لا يريدون اللجوء في النمسا وهي دولة جميلة ومسالمة».
بوادر «ثورة اللاجئين» صارت تلوح بوضوح في أفق القمع. الحكومة المجرية نفذت تهديداتها، وشرطتها اعتقلت عشرات اللاجئين خلال محاولتهم عبور حدودها مع صربيا. الحدود باتت مغلقة تماما، ودوريات الشرطة منتشرة كل 35 متراً، بجوار شريط شائك على طول 175 كيلومتراً. تم ارسال قطع من الجيش لمؤازرة الأمن في حملة القمع. المروحيات تحلق والكلاب تطارد كل من يحاول التسلل عبر الشريط الشائك.
الاحتقان من هذه الاجراءات بدأت مفاعليه في الظهور فوراً. التلفزيون المجري صار يعرض صوراً لأجزاء مخرّبة من السياج الشائك، لكن طبعا في إطار التجييش ضد اللاجئين. القوانين الجديدة تجرّم العبور «غير الشرعي»، مع عقوبة تصل الى السجن ثلاث سنوات. أبقت السلطات المجرية على «منطقة عبور» عند حدودها، لكنها تحوّلت إلى منطقة ترحيل فوري: يسمح فقط بدخول من يحملون تأشيرات رسمية، أو من قدموا مسبقا طلبات لجوئهم في إحدى دول العبور، من اليونان إلى مقدونيا ثم صربيا. أمام منطقة العبور صارت حشود المنتظرين تغلي، فيما صيحات الاحتجاج تعلو مطالبة بفتح المعبر. ليس من داع لإعمال الخيال حول القادم. الصدامات مع منع الشرطة لطالما تكررت على حدود المجر وفي محطات قطاراتها.
مسؤول في داخلية دولة أوروبية كبرى، ترفض سياسات المجر، أكد لـ«السفير» أن حكومته حذرت بودابست من التداعيات بشكل صارم. فحوى المحادثات كانت إنذاراً واضحاً، تجاهلته المجر: «قلنا لهم لا تفعلوا ذلك، لا تغلقوا الحدود لأن لذلك عواقب لا يمكن التكهن بها. قلنا لهم إن الحل هو فقط في إنشاء مراكز استقبال كبيرة وهناك يمكن تقييم طلبات اللجوء بسرعة».
الجميع يتحسب لفيضان اللاجئين فوق السدود. إغلاق منفذ المجر يفتح الاحتمال على «طرق أكثر خطورة»، كما رددت «منظمة العفو الدولية». قالت إن حملة هنغاريا تظهر «الوجه القبيح» للاستجابة الأوروبية. المعادلة واضحة: تشدد أكبر سيدفع اللاجئين لمخاطرة أعلى. عمل المهربين سيزيدهم أكثر، مع امكانية الالتفاف على المجر. يمكن للمهربين سلوك طريق أطول من صربيا، عبر كرواتيا للوصول إلى النمسا.
ليست فقط دول نواة الرفض هي من تتفهم المجر. هولندا، مثلا، قامت أيضا بفرض اجراءات المراقبة الحدودية على بعض معابرها مع المانيا. وزير الداخلية الهولندي كلاس دايكهوف يعرف تماما أي رد فعل يمكن أن يواجه وضع السدود أمام سيل اللاجئين. قال ردا على «السفير» إن الصدام مع موجات اللاجئين «أمر يمكن أن يحدث»، قبل ان يضيف متجنبا الحديث عن كيفية مواجهة ذلك: «من الممكن أن هناك أحدا يريد دخول الحدود بشكل غير مسموح، وحينها نرى ما سيحدث».
الوزير الهولندي انضم إلى جوقة متفهمي حملة القمع المجرية. برر ما تقوم به بودابست بالقول إن «هنغاريا تعمل نزولا عند واجبها في حماية الحدود الخارجية لمنطقة شنغن، فهناك مجال لمن يهرب من الحرب كي يجد ملاذا آمنا، لكن إذا هربت من الحرب فهذا لا يعني أن تقرر بنفسك المكان الذي تريد اللجوء فيه».
تنهار المرافعة، بوجود «مجال مفتوح» للجوء هربا من الحرب، في دولة عضو في «شنغن». سويسرا هي جزء من منطقة التنقل الحر، مع أنها ليست من دول الاتحاد الأوروبي. من هناك تخرج قصص فضائحية حول قناع شعارات حقوق الانسان الأوروبية.
الدولة السويسرية تشهد أيضا مزاجا شعبيا متناميا ضد المهاجرين واللاجئين. أحد اللاجئين السوريين تم رفض طلب لجوئه هناك هذا الشهر. كان طالبا يدرس هناك، وأنهى جامعته، وهو مطلوب للالتحاق بالخدمة الالزامية. أرسل أهله له طلب الالتحاق لكي يقوّي ملف لجوئه، مع العلم أن لاجئين كُثراً قُبلت طلبات لجوئهم في دول أوروبية، بناء على المبرر نفسه، من دون وجود إثبات كالذي لديه. سلطات اللجوء السويسرية رفضت طلبه، وبررت ذلك بأنه «يخالف القوانين السورية لأنه هارب من الجيش الذي يحارب الارهاب». فرّ الشاب إلى المانيا، وهناك طمأنه المحامي بأن الرفض «غبي ولا مبرر له».
حاولت «السفير» الاستيضاح من وزيرة الداخلية السويسرية، سيمونيتا سوماروغا، خلال دخولها للاجتماع مع وزراء التكتل الأوروبي. تهربت مرارا من الاجابة، وتجاهلت السؤال خمس مرات. كانت مصرة على الحديث فقط إلى وسائل الإعلام السويسرية، بالفرنسية والالمانية، وتجاهلت رفع عيار استفزاز السؤال: «لماذا ترسلون اللاجئين إلى الحرب؟».
كانت الوزيرة سوماروغا تتباهى بأن حكومتها تحول دون تفاقم أزمة اللاجئين، كما هي الحال في دول الاتحاد الأوروبي. الحديث عن الفشل الأوروبي بات على كل لسان. معسكر الرافضين عطّل قرارا بإعادة توزيع 120 ألف لاجئ وفق نظام الحصص الالزامية. هذه الخطوة هي الأولى على طريق إنشاء آلية دائمة للأزمات المشابهة، يمكن لأي دولة طلب تفعيلها في حال واجهت وضعاً كهذا. المبادرة تقودها المانيا وفرنسا، اللتان حرصتا على إظهار وحدة موقفهما عبر ظهور وزيري داخليتهما معا خلال الحديث أمام وسائل الإعلام. المطلوب هو تجريب «الآلية الدائمة» عبر البدء بنقل آلاف اللاجئين من اليونان والمجر وإيطاليا. الأخيرة لا تزال مفتوحة على طريق التهريب عبر البحر المتوسط، ولم توقف تدفقاته التهديدات بحملة عسكرية على التهريب ولا حتى إعلان الشروع بها أخيرا.
ما تم الاتفاق عليه، في اجتماع بروكسل الطارئ امس الاول، هو بضعة خطوط عريضة. بعد وعود باريس وبرلين بسياسة «تقاسم الأعباء»، وافقت ايطاليا واليونان على إنشاء مراكز استقبال ضخمة للاجئين. ستكون تلك المراكز «نقاطاً ساخنة» لتسجيل كل اللاجئين الواصلين، على أن يرسل الأوروبيون فرق دعم لتسريع النظر في طلبات اللجوء. هنا تأتي القضية الثانية التي باتت محط توافق: سياسة ترحيل «فعالة»، بأقصى سرعة ممكنة، لكل من سيتم اعتبارهم «مهاجرين اقتصاديين». سيصدر الأوروبيون قائمة «الدول الآمنة»، ليرحّلوا إليها كل القادمين منها، بعد الاتفاق مع هذه الدول، وتقديم مساعدات لتشجيعها على التعاون.
الجهة التي ستتولى عمليات الترحيل، كما ظهر من الاجتماع الأوروبي، هي وكالة المراقبة الحدودية «فرونتكس». سيعمل الأوروبيون على زيادة عديدها، مع توفير التجهيزات اللازمة لقيامها بهذه المهمة. لكن حجر أساس كل هذه السياسة يبقى «الحصص الالزامية»، لاعادة توزيع اللاجئين من الدول التي يتركزون فيها.
مع ذلك، هناك شكوك جدية إن كان ذلك سينجح. توقع وفود مليون لاجئ إلى المانيا، مع تمام هذه السنة، أربك المستشارة أنجيلا ميركل. بعض حزبها وحكومتها يرون أن حملة تحسين صورتها أوروبيا ستكون مكلفة، مع أعداد تفوق بكثير حاجة الاقتصاد الالماني. المانيا والنمسا طلبتا عقد قمة أوروبية عاجلة، الأسبوع المقبل، للضغط من أجل إنجاز تسوية. إن لم يتم الوصول الى حل وسط سيكون الحل بالكيّ: توعدت باريس وبرلين بالتصويت بالغالبية لفرض «الحصص» على رافضيها. برلين تركت لباريس توجيه التحذير: «ليس لدينا أوروبا على الطلب، والتضامن ليس قابلا للتملص».