«مجموعات الشغب» تحاول اغتيال حلم اللبنانيين بالتغيير .. انتفاضة 22 آب: الشارع يحاصر «النفايات السياسية»
افراسيانت - السفير - إنها انتفاضة 22 آب التي أنهت العصر الآذاري..
صحيح أننا انتظرناها طويلا، لكنها وصلت أخيرا ولو متأخرة عن الموعد الاصلي.
كان مشهد رياض الصلح معبّراً خلال اليومين الماضيين، برغم التجاوزات التي رافقته، إنما من دون أن تلجمه أو تشوّه منطلقاته المشروعة.
لم يعد الأمر يتعلق بنقمة أو انتقام ردا على أزمة النفايات العضوية التي كانت شرارة الشارع، ليس إلا، قبل ان يتدحرج الغضب ليجتاح .. «النفايات السياسية».
إنها على الأرجح الفرصة الأخيرة أمام الإنقاذ، بعدما تسبب سلوك المنتمين الى «سلالة» السلطة في إقفال كل ممرات التغيير الطبيعية، سواء عبر انتخاب رئيس الجمهورية أو عبر إجراء الانتخابات النيابية..
لكن، ولأن الفرصة ثمينة وربما نادرة، فإن من واجب جميع الحريصين عليها أن يتولوا حمايتها بكل الوسائل الحضارية، وبالتالي ان يحولوا دون جعلها رهينة بعض الغوغائيين ممن عاثوا في وسط بيروت فسادا، فأساؤوا الى القضية المحقة، وحرفوا وجهة التحرك عن مساره السلمي والحضاري، ما سمح لهذه السلطة المترهلة بأن تلتقط أنفاسها وتختزل الحراك بمجموعة من المتظاهرين المندسين، أو بعناصر غير منضبطة، أصرت حتى ساعة متأخرة من ليل أمس على استخدام كل فنون الشغب، تحطيماً وحرقاً، برغم أن حملة «طلعت ريحتكم» قررت مساء امس الانسحاب من الشارع، في انتظار معاودة الاعتصام عند السادسة مساء اليوم.
ليس مسموحاً لهذه القلة من الموتورين أن تحجب حقيقة الحراك المشروع وأن تخفي جوهر الأزمة، وعلى المسؤولين بدورهم عدم التلطي خلف غبار المشاغبين للهروب الى الأمام، لان من شأن أي سوء تقدير أو سوء توقيت في المقاربة الصحيحة واتخاذ القرارات المناسبة، ان يؤدي الى تفاقم الوضع وانزلاقه نحو المحظور الذي لاحت مؤشراته ليل أمس من خلال المواجهات بين بعض المجموعات والقوى الامنية، في شوارع وسط بيروت التي تحولت الى ساحة حرب، ما أدى الى سقوط عشرات الجرحى من المتظاهرين، أحدهم أصيب في رأسه وهو في حال حرجة جدا، إضافة الى عدد من المصابين في صفوف العناصر الامنية.
وفي دلالة على الآثار السلبية التي تركتها أعمال الشغب المشبوهة والمريبة، لم يتردد أحد الوزراء في القول لـ «السفير» ليل أمس ان مواجهات وسط بيروت أثبتت أن التحرك الاحتجاجي يفتقر الى القيادة والتنظيم، وان الداعين اليه ليسوا أهلاً لهذه المهمة، ناصحاً وزير الداخلية بمنع حملة «طلعت ريحتكم» من التظاهر لأنها غير قادرة على تنظيم تظاهرة! ونبه الوزير ذاته الى ان بعض التحركات المضادة كادت تحصل في عدد من المناطق وأحياء العاصمة دفاعا عن الحكومة، لكن جرى وقفها.
هذه القلة من الفوضويين والعبثيين لا تبرر بالطبع العنف المفرط المستخدم من القوى الامنية في مواجهة المحتجين عموما، وصولا الى إطلاق النار بغزارة، خصوصا أمس الاول، وهو تجاوز فادح وفاضح لا بد من محاسبة المسؤولين عنه.
وبرغم الشوائب والثغرات التي رافقت الحراك، وبالإذن من أصحاب نظرية المؤامرة، فإن الأصل والثابت هو أن هناك انتفاضة شعبية حقيقية على طبقة سياسية فاسدة ومفسدة، أخذت كل الفرص للتصويب والإصلاح، ولكنها أضاعتها جميعها، عن سابق تصور وتصميم، فجاء الرد من حيث لم تكن تتوقع.
والغريب أن هذه الطبقة المدانة والمحكوم عليها بـ «الفشل المؤبد» حاولت بخبثها المعروف الالتفاف على تحرك المحتجين وتجويفه من محتواه، فزايدت عليهم في المطالب، وذهبت أبعد منهم في رفع الصوت، مفترضة انها بهذه الطريقة قد «تنجو»، أو أقله قد تقلص الخسائر.
وهكذا، لم يستح بعض السياسيين من إطلاق المواقف الاستعراضية، والرقص فوق جراح المواطنين النازفة. لكن، فاتهم ان قواعد اللعبة أفلتت هذه المرة من أيديهم، وهم الذين لطالما اعتادوا على إدارة الازمات والتسويات وفق ما يناسبهم.
لقد فقد المتحكمون بمصائر الناس على مدى عقود زمام المبادرة بين ليلة وضحاها، وبات عليهم أن ينتظروا اجتماعا لأعضاء حملة «طلعت ريحتكم»، أو موقفا من أحد ناشطي المجتمع المدني، ليعرفوا المنحى الذي ستؤول اليه الامور.
وإذا كان السياسيون اللبنانيون معروفين بأنهم من المتخصصين في ترتيب الصفقات والتسويات، إلا ان مشكلتهم خلال اليومين الماضيين تمثلت في عجزهم عن إيجاد «شريك» متجاوب، لان الخصم هذه المرة ليس عاديا ولا تقليديا.
«خصم» الطبقة السياسية في ساحتي الشهداء ورياض الصلح هو جمهور «نادر»، عابر للطوائف والمذاهب والاحزاب والمناطق.. وعابر للقنابل المسيلة للدموع والرصاص الحي والمطاطي.
إنه تلك «الخلطة السحرية» التي بدت عصية على السيطرة والتطويع، الى حد أربك المسؤولين الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة حالة شعبية غير مسبوقة، لم تنفع معها كل «تعويذات» السحرة من أهل هذا النظام المتداعي.
هو جمهور «تلقائي»، تحرك عفواً من دون إيعاز أو إيحاء من أي مرجعية، بعدما جمعته «المصائب»: حكومة معطلة.. مجلس نواب مقفل.. رئاسة جمهورية مغيبة.. ديون.. نفايات.. تقنين.. فقر.. بطالة.. هجرة..
ولأن الشارع الغاضب تمرد على روزنامة «8 و14 آذار»، فإن كل القوى السياسية، التي كانت تتقاسمه الى مربعات طائفية ومذهبية، متضررة مما يجري على الارض، مع تفاوت في نسب الأضرار. بعضهم أصيب بخسائر سياسية مباشرة نتيجة تحمله المسؤولية عن الاعتداء على المتظاهرين، وبعضهم الآخر أصيب بشظايا في الصورة والموقع نتيجة شراكته في إنتاج جمهورية الاهتراء والفساد.
ولأن الانفجار الشعبي أتى على هذا النحو المدوّي، فإن المطلوب معالجة فورية، قبل ان يتطور الوضع الى فوضى عارمة، ستأخذ في طريقها آخر معالم الدولة.
صحيح أن الرئيس تمام سلام هو ضحية أكثر مما هو متهم.. وصحيح أنه لا يستطيع أن يستقيل ولا يستطيع أن يستمر هكذا، لكنه برغم ذلك، بل بسبب ذلك، مطالب بأن يحسم أمره، ويغيّر قواعد الاشتباك في مجلس الوزراء.
لم يعد لدى رئيس الحكومة ما يخسره بعدما وصلت النار الى أبواب السرايا.
إنها لحظة الحقيقة.. فليقدم الرئيس سلام ولا يتردد.. ليدفع نحو اتخاذ القرارات الجريئة والاستثنائية في الجلسة الحكومية المقبلة. وليضع الجميع أمام مسؤولياتهم وليفضح المعطلين والمعرقلين.
لقد ظهر سلام أمس صريحا وشفافا الى أبعد الحدود في كلمته المؤثرة التي وجهها الى اللبنانيين. بل يمكن القول انه بدا واحدا من المتظاهرين، ولم يكن ينقص سوى ان ينزل الى ساحة رياض الصلح لقيادة المحتجين.. ضد الحكومة.
قال سلام أمس ما يجب أن يقوله.. إنما لا يزال ينقص الفعل.
ولعل القرار الأسرع المطلوب من سلام هو تقديم موعد جلسة مجلس الوزراء من الخميس المقبل الى غد الثلاثاء، بعدما يكون قد تم اليوم فض عروض المناقصات المتعلقة باختيار الشركات التي ستتولى معالجة النفايات.
والقرار الآخر الملح، هو الإسراع في اتخاذ التدابير الكفيلة بمعالجة أزمتي النفايات والكهرباء اللتين تلقيان بظلالهما القاتمة على كل ذلك.
وبعد ذلك، يجب كسر الحلقة المفرغة التي تدور فيها المؤسسات الدستورية منذ شغور قصر بعبدا.
وإذا كانت أحداث 7 أيار قد فرضت في الماضي تسوية الدوحة التي أفضت الى انتخاب رئيس الجمهورية، فإن انتفاضة 22 آب ينبغي أن تكون حافزا للدفع نحو العثور على الرئيس المفقود، ومن ثم استقالة الحكومة وتشكيل أخرى تضع قانون انتخاب على أساس النسبية، يليه إجراء الانتخابات النيابية وإنتاج طبقة سياسية جديدة.
يبقى أن يُحسن اللبنانيون تطوير بارقة الأمل التي لاحت في الأفق المسدود، وأن يجيدوا إدارة انتفاضتهم على الواقع المرير..