افراسيانت - عمر فارس - ظلت القضية الفلسطينية لعقود طويلة أسيرة الرواية الإسرائيلية في الإعلام الغربي، حيث جرى تصوير إسرائيل باعتبارها "الضحية المحاطة بالأعداء"، فيما جرى تقديم الفلسطينيين كمصدر للعنف والتهديد.
كان هذا الانحياز الإعلامي يتجلى بوضوح في طريقة طرح الأسئلة على الضيوف الفلسطينيين أو المتضامنين معهم، إذ غالبا ما يطلب منهم أولا أن "يدينوا" حركات المقاومة، وعلى رأسها حركة حماس، قبل أن يسمح لهم بالخوض في تفاصيل الاحتلال والانتهاكات الإسرائيلية.
أحد أبرز الأمثلة على ذلك كان أسلوب الصحفي البريطاني المعروف بيرس مورغان، الذي اعتاد في مقابلاته أن يوجه السؤال المحوري: "هل تدين حماس؟"، ليضع الضيف في موقع دفاعي منذ اللحظة الأولى.
لكن مع مرور الوقت، بدا أن مورغان نفسه قد شهد تحولا ملحوظا في خطابه، إذ بدأ يطرح أسئلة مشابهة ولكن هذه المرة للطرف الإسرائيلي، من قبيل: "أنتم قتلة الأطفال في غزة، كيف تبررون ذلك؟"
هذا التحول لا يمكن اعتباره ببساطة انتقالا من "صف إسرائيل" إلى "صف فلسطين"، بل هو انعكاس لمعادلة أوسع: تراجع قدرة الرواية الإسرائيلية على احتكار الخطاب الإعلامي في الغرب، وصعود الرواية الفلسطينية إلى قلب النقاش العام.
المقاومة الفلسطينية، رغم ضعف إمكاناتها مقارنة بترسانة إسرائيل، أثبتت قدرتها على فرض معادلات جديدة وعرقلة المشروع الإسرائيلي في غزة.
الفخ الإعلامي: السؤال عن "إدانة حماس"
السؤال الموجَه إلى الضيف الفلسطيني: "هل تدين حماس؟" ليس سؤالا حياديا، بل هو أداة سياسية وإعلامية مقصودة. فهو يفرض على الفلسطيني أو مناصره أن يبدأ بموقف اعتذاري أو إدانة، بدل أن يبدأ بشرح جذور المأساة: سبعة عقود من الاحتلال، والتطهير العرقي، والحصار الخانق، والاستيطان المتسارع.
اللافت أن هذا النموذج من الأسئلة نادرا ما يوجَه إلى الطرف الإسرائيلي أو أنصاره.
لا أحد يسألهم: "هل تدينون قصف المستشفيات والمدارس؟ هل تدينون قتل آلاف الأطفال في غزة؟ هل تدينون الاستيطان وتهجير الفلسطينيين؟" هذه الازدواجية تكشف انحيازا بنيويا في الإعلام الغربي، حيث يختزل الاحتلال إلى "رد فعل دفاعي"، بينما تقدَم مقاومة الفلسطينيين بوصفها "إرهابا".
من حرب الأيام الستة إلى عجز اليوم
لعل المفارقة التاريخية الأكثر دلالة في هذا السياق هي المقارنة بين حرب يونيو/حزيران 1967 والحرب الجارية على غزة منذ 22 شهرا.
ففي 1967، استطاع الجيش الإسرائيلي خلال ستة أيام فقط أن يهزم عدة جيوش عربية مجتمعة، ويحتل أراضي تفوق مساحتها أضعاف مساحة فلسطين التاريخية، بما في ذلك الضفة الغربية وغزة وسيناء والجولان.
كان ذلك انتصارا عسكريا سريعا عزز صورة إسرائيل كقوة لا تقهر، وأدخلها في وعي الغرب كحليف إستراتيجي قادر على فرض وقائع جديدة بالقوة.
لكن اليوم، وبعد عقود من التفوق العسكري والتكنولوجي، تقف إسرائيل عاجزة أمام مقاومة محاصَرة في قطاع غزة. وعلى الرغم من امتلاكها واحدًا من أقوى الجيوش في العالم، وبدعم مباشر من الولايات المتحدة وحلفائها، فإنها لم تتمكن منذ ما يقارب عامين من القضاء على فصائل المقاومة.
هذا التباين يكشف أن ميزان القوى لا يقاس فقط بعدد الطائرات والدبابات، بل بإرادة الشعوب وقدرتها على تحويل الظلم التاريخي إلى طاقة مقاومة مستمرة. فالمقاومة الفلسطينية، رغم ضعف إمكاناتها مقارنة بترسانة إسرائيل، أثبتت قدرتها على فرض معادلات جديدة وعرقلة المشروع الإسرائيلي في غزة.
التحولات في الإعلام لا تنفصل عن التحولات في الرأي العام. فجيل الشباب في الجامعات الغربية، وخاصة في الولايات المتحدة وبريطانيا، صار أكثر وعيا بالقضية الفلسطينية.
تحول بيرس مورغان: من الانحياز إلى النقد
في هذا السياق، تبرز أهمية التحول في خطاب شخصيات إعلامية غربية مثل بيرس مورغان. فقد كان في البداية جزءا من النموذج الإعلامي التقليدي الذي يحمل الفلسطيني عبء الإدانة، لكنه مع مرور الوقت، وبعد توثيق المجازر المتواصلة في غزة، لم يعد قادرا على تجاهل الحقيقة.
بدأ مورغان يواجه المسؤولين الإسرائيليين بأسئلة لم يكونوا معتادين عليها في الإعلام الغربي: عن قتل الأطفال، وعن تدمير البنية التحتية المدنية، وعن الحصار غير الإنساني.
هذا التحول لا يعكس بالضرورة انحيازا كاملا إلى الرواية الفلسطينية، لكنه يعكس إدراكا متزايدا أن الرواية الإسرائيلية فقدت صدقيتها أمام الصور القادمة من غزة، وأمام تقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية.
الرأي العام الغربي: جيل جديد وصوت مختلف
التحولات في الإعلام لا تنفصل عن التحولات في الرأي العام. فجيل الشباب في الجامعات الغربية، وخاصة في الولايات المتحدة وبريطانيا، صار أكثر وعيا بالقضية الفلسطينية.
ولعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورا مركزيا في كسر احتكار الرواية الإسرائيلية، إذ باتت صور الأطفال تحت الركام ومقاطع القصف تبث مباشرة إلى ملايين المتابعين حول العالم.
هذا الجيل يرى إسرائيل بوصفها دولة احتلال وعنصرية، لا مجرد "ديمقراطية مهددة". ويرى الفلسطيني كضحية استعمار استيطاني، وليس كـ "مخرب". وقد انعكست هذه التحولات في التظاهرات الضخمة التي شهدتها عواصم العالم، حيث خرج مئات الآلاف يطالبون بوقف الإبادة في غزة وإنهاء الحصار.
إن تحول بيرس مورغان وغيره من الإعلاميين الغربيين ليس إلا مؤشرا على تصدع جدار الرواية الإسرائيلية في الإعلام العالمي. لم تعد الأكاذيب قادرة على إخفاء الحقائق المروعة في غزة والضفة الغربية.
الفجوة بين الشعوب والحكومات
لكن المعضلة تكمن في الفجوة العميقة بين مواقف الشعوب الغربية وسياسات حكوماتها. فبينما يتزايد التعاطف الشعبي مع فلسطين، لا تزال الحكومات الغربية، خصوصا الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، تقدم دعما غير مشروط لإسرائيل، سياسيا وعسكريا واقتصاديا.
هذا التناقض أصبح أوضح من أي وقت مضى: الشعوب تخرج إلى الشوارع دفاعا عن فلسطين، بينما القادة يذهبون إلى الأمم المتحدة ليكرروا خطاب "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها". هنا تكمن الأزمة الأخلاقية الكبرى للغرب: ازدواجية المعايير في التعامل مع القانون الدولي وحقوق الإنسان.
ما هو مؤكد أن الفلسطينيين أثبتوا، مرة أخرى، أن المقاومة ليست مجرد خيار عسكري، بل هي تعبير عن إرادة شعب لا يقبل أن يمحى من التاريخ.
إن تحول بيرس مورغان وغيره من الإعلاميين الغربيين ليس إلا مؤشرا على تصدع جدار الرواية الإسرائيلية في الإعلام العالمي. لم تعد الأكاذيب قادرة على إخفاء الحقائق المروعة في غزة والضفة الغربية. الصور والقصص الإنسانية اخترقت أقوى الحواجز الإعلامية، وصارت جزءا من الضمير العالمي.
لكن السؤال الحاسم يبقى: هل يتحول هذا التعاطف الشعبي إلى ضغط سياسي يغير السياسات الرسمية؟ أم يظل مجرد موجة عاطفية تشتعل ثم تخبو؟
ما هو مؤكد أن الفلسطينيين أثبتوا، مرة أخرى، أن المقاومة ليست مجرد خيار عسكري، بل هي تعبير عن إرادة شعب لا يقبل أن يمحى من التاريخ. وإسرائيل، مهما بلغت قوتها، لا تستطيع أن تخضع أمة قررت أن تبقى.