افراسيانت - بقلم: محمد صابرين - تظل العلاقة مع الولايات المتحدة ملتبسة، وفي الكثير من الأحوال معقدة وتحيط بها الشكوك، ويرى العديد من خبراء الشئون الدولية أن واشنطن كثيرا ما تصرفت مثل فيل ضخم في متحف الخزف. وأذكر هنا حوارا دار بيني وبين الجنرال الأمريكي ويسلي كلارك قائد قوات حلف الناتو الأسبق في المنتدى الاستراتيجي العربي بدبي بعد غزو العراق. حيث كانت واشنطن تحث العرب على مساعدتها، ولقد قلت له لحظتها في عام 2006 هناك مثل شهير لديكم يقول «إذا كسرت شيئا فعليك إصلاحه»، ولقد فوجئت لحظتها بعاصفة من التصفيق من الحضور، وهو ما كان ومازال يعكس الرأي العام من الغزو الأمريكي غير الشرعي لبلد عربي لأسباب كاذبة.
والأمر الآخر أن الشعوب العربية أدركت من اللحظة الأولى أن المسألة كلها لا علاقة لها لا بأسلحة الدمار الشامل ولا بنشر الديمقراطية. بل كان الأمر مرتبطا بالنفط ، وبتهويمات الفوضى الخلاقة التي ستعيد تشكيل الشرق الأوسط الجديد، وسوف تجعله هادئا ومستقرا ومزدهرا، وبالطبع قفز البعض مع الأمريكيين، ولكنها كانت قفزة في المجهول. والآن يجد الأمريكان صعوبة بالغة في مشروع الناتو العربي، وفي المقابل تجد الكثير من النخب العربية صعوبة في الثقة في حرب أمريكا ضد الإرهاب، أو قدرة واشنطن على توفير الأمن ومواجهة تحديات عدم الاستقرار في العالم العربي. وهنا نرصد بعض التطورات في العلاقة مع واشنطن.
البداية تتعلق بتقييم الجنرال أنتوني زيني قائد القيادة المركزية الأمريكية سابقا لخطط واشنطن الأمنية للمنطقة، فقد قال إن فكرة إنشاء الناتو العربي كانت طموحة للغاية، ويبدو أن علينا التقليل من مستوى الطموحات لدينا، لم يكن هناك أي شخص على استعداد للقفز والمشاركة في تحالف على غرار الناتو؛ وهو ما دفعنا إلى التركيز على توقعات أكثر واقعية مثل تعزيز التعاون الإقليمي في مجال الطاقة والتجارة. ومؤخرا كشفت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية عن مغادرة اثنين من المسئولين المشرفين على التخطيط لمشروع إنشاء الناتو العربي، مما أدى إلى عرقلة جهود إنشاء التحالف، وهما: كيرستن فونتنروز، المسئول الكبير في البيت الأبيض ومدير شئون الخليج بمجلس الأمن القومى وأنتونى زيني، الجنرال البحري المتقاعد الذي استغله ترامب لقيادة محادثات بناء التحالف ومبعوثه لحل الأزمة الخليجية.
ومن هنا نرى نهاية مبكرة لقفزة هائلة أطلقها المسئولون في إدارة ترامب، وتتعلق بفكرة إنشاء تحالف لمواجهة إيران، كانوا يأملون أن يصبح حجر الزاوية في ائتلاف واسع النطاق لمواجهة خطر طهران، لكن الفكرة بدأت بحماس شديد ثم ما لبثت في التلاشي شيئا فشيئا.وكشفت الصحيفة عن أن جهود إدارة ترامب باتت أقل طموحا، ولا ترقى إلى إنشاء تحالف مشترك على غرار الناتو، وصار الحديث مقتصرا على إبرام صفقات تجارية وإنشاء مراكز تدريب عسكرية مشتركة.
وقال مسئول خليجي للصحيفة الأمريكية، إن الرؤية الأصلية التي تلقيناها في البداية تختلف كثيرا عما تجري مناقشته حاليا، لقد فقدت الفكرة قوتها. وأحسب أن مؤتمر وارسو لمواجهة طهران، والغيوم التى تحيط بصفقة القرن لحل القضية الفلسطينية هي محطات تدلل بوضوح على مصير القفز مع واشنطن في سماء المجهول.
ومن ناحية أخرى هناك القضية الكبرى المعروفة بالحرب على الإرهاب، وهي ساحة مفتوحة للكثير من الجدل، والشكوك، والاتهامات، بل صارت النكتة السوداء الآن المتداولة أن لكل من الدول إرهابها، وليس المقصود فقط الإرهاب الذي تعانيه بل التنظيمات الإرهابية التي تموله، وقادة الإرهاب الذين تحتضنهم. ألا أن الأخطر أن واشنطن - التي تطولها الاتهامات بتحريك بعض الجماعات الإرهابية مثل داعش- حريصة على إرباك الحلفاء قبل الخصوم. وينتاب الأوروبيون القلق بعد التهديدات الأخيرة لترامب والتي دعا فيها حلفاءه إلى إعادة الجهاديين الأوروبيين، وفي حال لم يفعلوا سيطلق سراحهم. وتنعكس هذه الفوضى على العواصم والمنظمات الكبرى، خاصة فيما يتعلق بسوريا والشرق الأوسط. وفي الأثناء يهدد مايك بنس نائب الرئيس الأمريكي من أن تنظيم الدولة بصدد فقدان آخر معاقله في سوريا، ولم يبق له بديل سوى نشر الفوضى في أوروبا.
وأحسب أن التهديد الإرهابي يهمنا نحن أكثر، خاصة أن واشنطن تنفض يدها، أو تعقد اتفاقات، أو تستخدم هؤلاء الإرهابيين لتحقيق أجندة سياسية. فثمة رؤى جديدة ترى أن الجهاديين الجدد لن يركزوا على تصدير العنف للغرب، بل سيعملون على اختراق المجتمعات المحلية وترسيخ نفوذهم، مرجحًا أنَّ جماعاتٍ جهادية، مثل حزب الله، هي التي قد تتسيَّد مشهد التطرف مستقبلًا، وأنَّ تلك الحركات ستخوض الحروب الطويلة، لكنَّها ستركز على الصراعات المحلية. ويرى الكاتب الأمريكي حسن حسن، في تقريرٍ أخير نشرته مجلة «ذي أتلانتك» الأمريكية تحت عنوان «جبهة النصرة مثالًا.. لماذا تحول الجهاد من العالمية إلى المحلية؟»، أنَّ الطريقة الأمثل لمجابهة هذه الحركات الوليدة هي من خلال مشاركة عميقة تعرقل تصاعد نفوذها على المستوى المحلي، أي اتباع استراتيجية مواجهة تشمل حتمًا دعمًا أمريكيًا راسخًا وطويل المدى، وإشرافًا على الحكومات لسد الثغرات في مناطق الاضطرابات، ولكن بعد مرور18عامًا على بداية الحرب على الإرهاب، فقدت واشنطن شهيتها في تنفيذ انخراطٍ مماثل. ولهذا سيستمر الجهاديون السُنّة في تعديل تكتيكاتهم لتعميق وجودهم في المنطقة، مثلما فعل نظراؤهم الشيعة من قبلهم.
ويبقى أن الحرب ضد الإرهاب هي معركة طويلة ، بل ومفتوحة على كل الاحتمالات، نظرا لأنها مثل جبل الثلج الغاطس منها أكبر وأضخم مما نراه، ويمكن أن نشير هنا إلى تأكيد مصدر طبي تركي لوكالة «سبوتنيك» الروسية أن أبومحمد الجولاني زعيم جبهة النصرة نقل إلى مستشفى بولاية هاتاي التركية إثر إصابته بتفجير في إدلب الاثنين الماضي، وسبق أن تعهد الجولاني، في حوارٍ مع قناة الجزيرة في ايار 2015، بأنَّ الجهاديين لن يستخدموا سوريا منصةً للهجمات ضد الغرب، بناءً على تعليمات القيادة المركزية لتنظيم القاعدة الإرهابية، وأحسب أن الذين ليس لديهم معلومات واسعة سيجدون الأمر مربكا، خاصة مع تأكيد ترامب بأن إدارة أوباما صنعت داعش.
وبعد ذلك كله ترى من على استعداد للقفز مع أمريكا؟