افراسيانت - د.هاني العقاد - كان في بلدنا رجل بسيط فقير يكسب قوت يومه بكد وتعب يأكل من عرق جبينه لذا سماه الناس هناك "تعتيس" واطلقوا عليه هذه الكنية لانه رجل بسيط وكنية عن التعاسة..شعر الناس هناك انه تعيس بسبب مهنته لانه يعمل حمالا اي يحمل اكياس الدقيق والسكر والشعير على كتفه وينقلها من مكان الى اخر ويكون يوم راحته عندما ينقل اكياس الرز لانها اقل وزنا من السكر والشعير والدقيق... كان يحمل تلك الاحمال يوميا وعلى مدار اكثر من ثلاثين عاما كما اعرف ولم يتأوه ولم يضجر ولم يلعن بل انه راض بما قسم له ربه واعطاه، لم يعمل بمهنة الحمالة الكثيرون الا اصحاب البنية القوية والعضلات المفتولة الا "تعتيس" فقد كان جسده ضعيف البنية منحني الظهر بلا عضلات لكنه خشبي البنية متماسك كأنه سنفور السكة الحديد.... تعتيس هذا تعرفه كل المدينة وحتى كثيرون كانوا يطلقوا على الغلابا اصدقائهم وابنائهم وابناء حاراتهم هذا اللقب او كانوا يشبهوا البعض "بتعتيس" نسبة الى التعاسة وشح الرزق والمعاناة وقلة الحيلة. "تعتيس" هذا لم يكن تعيسا ككنيته بل كان مبتسما متفائلا دائما صاحب نكتة ويمازح كل الناس اصاحبه بالعمل سائقي الناقلات الكبيرة التي تنقل الحمولة من بلد الى اخر.. عندما تلأتي الى الخان اي "خانيونس" كان يعتلي ظهرها وكأنه ملك الدنيا لانه اصبح له صلاحية افراغ حمولة هذه الناقلة دون ان يزاحمه احد سوى الفريق الذي يعمل معه ويقبض اجرة يومه. كنت صغيرا في السن واعجبني هذا الرجل لصبره وتحمله الالم والمعاناة لاجل ابنائه الذين رباهم وعلمهم احسن تعليم واثار انتباهي بصوته الجهوري عندما يمازح اصحابة او يقول يا الله وهو يرفع الاكياس على ظهره وبقيت تلك الصورة الدرامية في مخيلتي حتى الان.
تعالوا نقرأ صورة الحاضر ونتفحص معالمها وندرس خلفياتها ليس في خانيونس بلد "تعتيس" وانما في كل قطاع غزة البائس، نتعرف على عدد التعاتيس في هذا البلد والذين لم يجدوا حتى العمل كحمالين او كتعتيس لان تلك المهنة انقرضت بفعل الرافعات التي تنقل الاكياس بالطن او الاثنين في دقائق. تعالوا نعيش الحالة الحقيقية في غزة بعد مضي اكثر من خمسين عاما على قصة "تعتيس" التي لا يعرفها الكثير من الاجيال الجديدة لان احد ما لم يكتب عنها او ينقلها لهذه الاجيال التي تكاد لاتعرف حتى حاضرها فقد اضناهم الهم والكسل وشح الرزق وقتل الانقسام كل امل في نفوسهم فقد جعل منهم طوابير من العاطلين بلا مستقبل وبلا ادنى حقوق وبلا اي اهتمام من المسؤولين الذين انشغلوا بالمناكفات السياسية ولعبة النقيض وسباق التحزب واعتبروا من ليس منهم لا يهمهم امره وكان اعتمامهم فقط بأنفسهم وبناتهم واقربائهم وابناء احزابهم وربائبهم. الصورة بائسة عشرات الالاف من التعساء الذين ذهب الانقسام بمستقبلهم الى الهاوية من الجنسين الشباب والشابات بسبب البطالة المستشرية بين صفوفهم فالفقر بين صفوف الشباب ابلغ من كل الصور وسعيد من يجد له مكانا على الرصيف يعرض ما تيسر ان استطاع ان يشتري بضاعة ما مثل "الاكسسوارات" او جرابات او ملابس الاطفال الشعبية وسعيد ومحظوظ من وجد مالا ليشتري عربة قهوة وشاي يقف خافها في احد الزوايا او الطرق او الارضفقة او الاسواق بعيدا عن نظر البلدية لانها تلاحقهم من مكان الى اخر وكانهم هم سبب الصورة البائسة بالمجتمع ...! مع احترامي لهم اقول انا احترم صمودكم وصبركم وتحملكم قساوة الحياة لانكم تحاولوا العيش بكرامة بالرغم من كل المحبطات والمعيقات والانقسام الذي دمر ايامكم وقطع الطريق امام حياة كريمة لكم.
عفوا "تعتيس" فقد نبشت عن الامنا اليوم جعلتني اجلد الضمائر لعلها تصحوا من مما هي فيه وتعود لتصلح ما تخرب وتدمر، الان لم نوفِ هؤلاء الشباب حقهم ولم نتحدث عنهم كثيرا ولم نعرف من استهدفهم واضاع مستقبلهم بل تركناهم وحدهم في معركة الضياع الذي سببه الانقسام الاسود وجلسنا نتفرج على معاناتهم يوميا نري ما نراه في الشارع الغزي نسمع ما نسمعه عن قصص الهجرة والموت في البحار ومعسكرات اللجوء في تركيا واليونان واسبانيا ونسمع قصص الموت انتحارا في الاسواق والشوارع والحارات... قلنا للسلطان انت ظالم وقلنا الكثير فلا السلطان يسمع ولا صوت هرلاء الشباب يسمع ضاع من ضاع وكبرت السنوات مع من كبر ولم يتزوج ولم يفرح ولم يكون اسرة مجتمعية سوى ما كانت حالته ميسرة ولابية او اخوته دخل اخر... اصابت العنوسة ما يقابل عدد هؤلاء الشباب من الفتيات اكثر من مائة الف "تعتيس" اليوم في القطاع وبعددهم تعيسات لم يحالفهم حظ الزواج لعدم توفر المال مع الرجال ولا يستطيعوا الانفاق على بيوتهم اذا ما تزوجوا فلا عمل ولا شؤون اجتماعية ولا بدائل للبطالة ولا باستطاعهم العيش حتى بمفردهم ولا حتى لديهم قدرة لهم على توفير متطلبات الحياة العادية للشاب. كيف ستحل قضيتهم ويجدوا بابا للرزق مادام الانقسام على حالة بل ويتعمق من مرور الوقت وقد يصبح انفصالا جغرافيا وسياسيا الايام القادمة، وكيف ستحل قضية الذين فاتهم قطر الزواج من الفتيات وبلغوا من الاعمار فوق الثلاثين فهل ينتظروا ان ينتهي الانقسام. لن يتم انقاذهم الا اذا انقذ الساسة الوطن وانتهى الانقسام وعاد الجميع عن العناد السياسي وقذفوا والاجندات الخاصة والحزبية في البحر وعادوا الى الرشد الوطني وعرفوا ان مصلحة الحزب تبدأ من مصلحة الوطن ومصلحة الوطن تتحقق اذا ما رصت الصفوق وتوحدت العبارات والخطابات والرايات وادركوا ان هناك حق واقع عليهم الا وهو رعاية هذه الامة ووقف انهيارها ودمار وتدمير شبابها.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.