افراسيانت - د/ إبراهيم أبراش - لم يكن دخول القيادة الفلسطينية مربع التسوية السياسية خطأً استراتيجيا من حيث منطق السياسة وضرورات التعامل مع متغيرات قاهرة تحتاج لمرونة سياسية وتعدد في أساليب المواجهة ،كما أن مقاومة الاحتلال لم يكن خطأ أو خروجا عن منطق وسياق التحرر الوطني ، ولكن الخطأ كان في غياب استراتيجية وطنية توافقية للتعامل مع نهج التسوية ومع اتفاق أوسلو حتى الفريق المفاوض لم يكن منسجما داخليا ،كما كان الخلل في نهج السلطة وليدة التسوية واتفاق أوسلو ،وفي نهج المقاومة الفصائلية بدون استراتيجية وطنية وتبعية بعض فصائل المقاومة لأجندة ومشاريع خارجية متصارعة ، ثم في الانقسام الفلسطيني الذي كان مبرر حركة حماس من وراء انقلابها على الشرعية في يونيو 2007 رفضها لنهج منظمة التحرير ،لينتهي الأمر بحماس لتلَمُس خطى المنظمة .
إن كنا لا نسقط التداعيات السلبية الخطيرة للمتغيرات الدولية والعربية والإقليمية على القضية الفلسطينية وقوة وإرهاب الخصم الإسرائيلي وضربه بعرض الحائط كل قرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية والتفافه على عملية التسوية ،وإن كنا لا نرفض من حيث المبدأ وجود سلطة وطنية كقاعدة منطلق نحو الدولة ...،إلا أن مسار أوسلو انزلق بعيدا وآلت الأمور إلى مجرد سلطة بدون سلطة كما يعكسه الواقع وكما يقول قادتها ،سواء في غزة أو في الضفة ،فلا هي سلطة سيادية ولا سلطة وطنية ولا سلطة مقاومة ،فيما استمر الاحتلال وممارساته الاستيطانية وبشكل أكثر وطأة مما كان قبل أوسلو .
حاول الرئيس أبو عمار بداية أن يوظف وجود سلطة فلسطينية من خلال اتفاقية أوسلو ،للحفاظ على وجود وحيوية القضية الوطنية بعد أن كان مقررا لها الشطب والتجاوز ،وأن يؤسِس لكيانية وطنية داخل الوطن دون تجاهل الأهداف الاستراتيجية ودون أن يتخلى عن حالة التحرر الوطني ،إلا أن إسرائيل كانت له بالمرصاد وحاصرته ثم اغتالته سياسيا وجسديا ،ومع غيابه انتهت العرفاتية كنهج يجمع بين غصن الزيتون بيد والبندقية باليد الأخرى أو كتطبيق عملي للسلطة الوطنية المقاتلة كما كان منصوصا عليه في البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير 1974 .
تكالبت على السلطة : إسرائيل وحركات مقاومة مسلحة جانبها الصواب في طريقة ممارستها للمقاومة وفي طريقة تعاملها مع السلطة ،بالإضافة إلى أخطاء السلطة وتراجع الدافعية النضالية عند حركة فتح العمود الفقري لمنظمة التحرير وعنوان السلطة ,ودخلت السلطة الفلسطينية بمرحلة جديدة شكلت انقلابا على حالة التحرر الوطني ،بالرغم من كل تضحيات وبطولات الشعب وصبره ومعاناته ،وبالرغم مما تم إنجازه سياسيا على المستوى الدولي ومستوى المقاومة والصمود .
وهكذا ومع كل يوم يمر إلا ونستشعر المأزق والشرك الكبير الذي وقعت به حركة التحرر الوطني الفلسطيني بداية بتوقيعها على اتفاقية أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية دون وجود استراتيجية وطنية شمولية للتعامل مع عملية التسوية ودون امتلاك الخطط الوطنية البديلة في حال فشلها،ثم انحراف عملية التسوية والخلل في أداء السلطة ،أيضا الخلل في أداء معارضيها وخصوصا حركة حماس .
أخطاء كثيرة وكبيرة صاحبت مباحثات أوسلو والتوقيع على الاتفاقية ،وأخرى أكبر نتجت في مجريات تطبيقها ،وأهمها :
1- عدم الأهلية وغياب التخصص والخبرة عند الفريق الفلسطيني المفاوض ،وسرية المفاوضات وغياب توافق فلسطيني ،في مقابل تجنيد إسرائيل في عملية المفاوضات لخبراء في كافة التخصصات .
2- ارتباطا بما سبق اتسمت اتفاقية أوسلو بالغموض مما مكن إسرائيل من تفسيرها بما يخدم مصالحها .
3- لم تكن اتفاقية أوسلو اتفاقية دولية بل خضعت لمبدأ (العقد شريعة المتعاقدين) ،حتى الأمم المتحدة وقراراتها لم تكن جزءا أصيلا وحاكما من الاتفاقية ولا مرجعية لها .
4- عدم إلزام إسرائيل في الاتفاقية بوقف الاستيطان ،وتأجيل قضايا أساسية كالقدس واللاجئين والمستوطنات .
5- تجاهل فلسطينيي الشتات .
وهؤلاء أحد جناحي الثورة الفلسطينية ومخزون بشري ونضالي كان من الممكن توظيفهم بشكل أفضل لمقارعة إسرائيل في المحافل الدولية وفي التأثير على الدول المضيفة.
6- تهميش منظمة التحرير لصالح السلطة .
بدلا من أن تكون السلطة الوطنية أداة بيد منظمة التحرير للتعامل مع عملية التسوية فيما يخص فلسطينيي الداخل وتبقى المنظمة ممثلة لكل الشعب الفلسطيني ومرجعية جامعة يمكن الرجوع لها إذا ما فشلت عملية التسوية ،بدلا من ذلك جرت عملية تهميش مقصودة لمنظمة التحرير وتم اختزال الشعب الفلسطيني بفلسطينيي الداخل وأصبحت منظمة التحرير مجرد ملحق بالسلطة ،ومن السلطة تتلقى المنظمة الموازنة ورواتب العاملين فيها .
7- كسر حالة العداء أو تمييعها بين الشعب ومغتصبي أرضه.
وهذا أمر خطير لأن الحقد على الخصم وتعبئة الشعب ضده يعتبر أحد أدوات المواجهة وحصانة للشعب من الاختراق الفكري والثقافي ومنع التطبيع مع الاحتلال . وهكذا نلاحظ أنه في الوقت الذي التزمت به السلطة بعملية التسوية بما في ذلك التنسيق الأمني ووقف التحريض ،استمرت إسرائيل على نهجها المعادي للسلام وللاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني واستمرت من خلال ساستها ومستوطنيها تمارس الإرهاب وتحرض على الشعب الفلسطيني وقياداته وتتهمهم بالإرهاب .
8- تزاوج السلطة والثروة سواء في غزة أو الضفة .
بسبب التحولات التي طرأت على النخبة السياسية ،وبسبب تعثر عملية التسوية وتراجع خيار المقاومة ،فقد سادت قناعات عند كثيرين من النخبة السياسية بأن السلطة هي نهاية المطاف ،لذا تعاملوا مع السلطة ليس كأداة نضالية بل كمصدر للرزق ومراكمة الثروة ،وتشكلت نخبة سياسية اقتصادية في الضفة وغزة راكموا الثروات وأصبحوا مستعدين للقتال من أجل السلطة حفاظا على مصالحهم الشخصية .
9- تحويل الفدائيين والثوار إلى موظفين وكَتَبة يتقاضون رواتب من سلطة تموَّلَ من الخارج ،وتحت إشراف ورقابة الاحتلال !.. بدأ الأمر مع مناضلي حركة فتح وفصائل منظمة التحرير ثم انتقل لمجاهدي حركة حماس .
10- قطع طريق العودة إلى نهج المقاومة .
الاتفاقية قطعت مع حالة التحرر الوطني .لأن حركة فتح تحولت لحزب سلطة في الضفة الغربية وحركة حماس تحولت لسلطة في قطاع غزة ،فإن المقاومة حتى السلمية منها باتت تتعارض وتهدد مصالح السلطتين الحاكمتين ،لأن المقاومة تستدعي تدخل جيش الاحتلال مما قد يؤدي لإنهاء السلطتين ،وبالتالي أصبحت السلطة والحفاظ عليها عائقا أمام مهمة المقاومة والتحرير .
وهكذا وبعد أربع وعشرين سنة من توقيعها فإن الجدل ما زال يدور حول اتفاقية أوسلو وهل كانت انجازا وطنيا ؟أم خطأ كان من الممكن عدم الوقوع به ؟ أم مراهنة ومغامرة جاءت الرياح بما لا تشتهي سفنها ؟ .وفي اعتقادنا أنه يجب الخروج من هذا الجدل ،فهناك واقع على الأرض لا يمكن تجاوزه بسهولة من خلال قرار منفرد من القيادة الفلسطينية بالتخلي عن اتفاقية أوسلو وحل السلطة الفلسطينية وسحب الاعتراف بدولة إسرائيل .
تجاوز التداعيات السلبية ااتفاقية أوسلو لا يكون بقرار بل بسلوك وطني جماعي في إطار وحدة وإستراتيجية وطنية على الأرض تهيئ البديل الوطني ،وهذا يتطلب عدد من الخطوات :
1- إنهاء الانقسام وتشكيل حكومة وحدة وطنية .
2- تغيير وظيفة السلطة وتحررها التدريجي من استحقاقات اتفاقية أوسلو ،وخصوصا أن إسرائيل لم تحترم هذه الاتفاقية .
3- إطلاق حراك شعبي أو مقاومة شعبية لمواجهة قطعان المستوطنين وممارسات جيش الاحتلال .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.