صعوبة تشكيل الحكومة اختزلت كل أزمات الساحة السياسية التونسية، فهي أزمة قانونية ودستورية وحزبية في آن.
افراسيانت - عبدالجليل معالي - تشكيل الحكومة التونسية الجديدة يمرّ بمطبات وعرة فرضتها الخلافات السياسية بين الأحزاب التونسية الكبرى، كما تصدعات داخلها. حكومة الحبيب الصيد الأولى التي أعلنت الجمعة 23 يناير الجاري، لاقت رفضا من غالبية الأحزاب والمكونات السياسية التونسية، ما جعل الصيد يحجم عن عرضها على مجلس نواب الشعب ويبدأ مشاورات جديدة لتصويب خياراته.
صعوبة ولادة الحكومة التونسية، التي يفترض أن تعلن بدء المؤسسات الدائمة، فرض على التونسيين إجراء مقارنة مشوبة بمرارة مع الحكومة اليونانية التي أعلنها حزب سيريزا. مقارنة نهضت على القول بأن الانتخابات اليونانية انتظمت يوم 25 يناير وأعلن عن نتائجها مساء اليوم نفسه، وتشكلت الحكومة يوم الاثنين، لتبدأ أعمالها بعقد أول اجتماع رسمي لها يوم الثلاثاء. مقارنة تفتقد بعض الوجاهة إلا أنها تحيل إلى أسباب عسر ولادة حكومة ما بعد الانتخابات، وعُدت من قبيل غياب إرادة الخروج بالبلاد من منحدرات اقتصادية واجتماعية وأمنية سحيقة.
مفيد التذكير بأن الباجي قايد السبسي كلف الحبيب الصيد بتشكيل الحكومة في الخامس من يناير الجاري، وقال الأخير يومئذ أنه سيشرع في اليوم نفسه في إجراء مشاوراته مع الأحزاب والمجتمع المدني (معني في التجربة السياسية التونسية بأحوال الحكومات). وضروري التذكير كذلك بأن رئيس الحكومة التونسية المكلف أماط اللثام عن حكومته، سليلة جهد مشاوراته، الجمعة 23 يناير، لكنها حكومة لم تعرض على مجلس نواب الشعب لتنال ثقته لأنها لم تحظ بثقة غالبية الأحزاب مما دفعه إلى استئناف التشاور مع الأحزاب.
قد يبدو المشهد عاديا في عرف الديمقراطيات الراسخة، لكن وراء الأكمة ما وراءها، إذ عكست أزمة الحكومة التونسية، أزمات تشق علاقة الأحزاب، وأبانت كذلك عن تصدعات تضرب الأحزاب ذاتها. في دواعي رفض الحكومة المعلنة والمضمرة، وفي التهديد بمعاقبة الخيار الأول، كما الثاني المهدد بألا ينال ثقة مجلس نواب الشعب، تتبدى علاقات متوترة بين الأحزاب كما داخلها. حركة النهضة الإسلامية عبرت عن رفضها قائمة الحبيب الصيد وأسرت بنواياها بعدم منحها ثقة نوابها، وقالت إنها فوجئت بالتشكيلة الحكومية التي شهدت تغييرات في اللحظات الأخيرة حسب تعبير قيادات نهضاوية.
رفض قائمة الحبيب الصيد الأولى جاء أيضا من الجبهة الشعبية التي اشترطت أولا عدم مشاركة النهضة، كما تحفظت على أسماء تم توزيرها، ولم يتوقف الرفض على النهضة والجبهة بل إن حزب آفاق الليبرالي امتعض من الخيارات المعتمدة في تكوين الحكومة. نداء تونس الذي يفترض أنه صاحب أحقية التشكيل بمقتضى النتائج الانتخابية الذي صدرته أغلبيا، علت داخل أروقته أصوات رافضة لخيارات الحبيب الصيد، التي اعتبرت تعبيرا عن نيته “الاستقلال” بالحكومة بعيدا عن رؤى الحزب الأغلبي. ومن ناحية أخرى تمترست أصوات ندائية أخرى في رفضها لكل نوايا تمكين النهضة من حقائب وزارية.
وهو بعد يحيل إلى أن عسر الولادة الحكومي لم يعبر فقط عن علاقات الأحزاب التي ترجمت اتهامات متبادلة (بين النهضة والجبهة)، بل إنه تحول إلى خلافات داخلية في مطابخ الأحزاب ذاتها. نداء تونس بين شقه اليساري الرافض لتشريك للنهضة في الحكم وفي يتكئ على أسانيد تقول بعدم خيانة الناخبين، وبين الشق الدستوري العتيق الذي لا يرى ضيرا في تشريك النهضة حتى من منطلقات “تقاسم الخسائر” التي تسمى مخاتلة “توسيع المشاركة في الحكم”.
النهضة طالتها شقوق التصدع بين شق يرفض التعامل مع النداء، سليل التجمع المنحل، حسب التوصيفات التي تصر على التمترس في المعارضة واحترام القواعد والناخبين (في ذلك استدعاء مشابه لقرائن يسار النداء)، وشق آخر يدعو إلى المشاركة في الحكم على قاعدة أن النهضة هي صاحبة المرتبة الثانية التي تخول لها المشاركة في الحكم، وهي حجة عُدّت رفضا نهضويا للابتعاد عن السلطة بما يعنيه من احتمالات محاسبة على عهد مضى. ترجمت التصدعات النهضوية في همس بعض القيادات برفضها لطريقة تعاطي الحركة مع الأزمة، وتجلت علنا في استقالة عبدالحميد الجلاصي أحد الأسماء التاريخية في الحركة، بل إن بعض المصادر ترجح إمكانية استقالات أخرى.
الإشكال قائم ويزداد عسرا خاصة مع اقتراب موعد الخامس من فبراير المقبل، الذي يعني انقضاء المهلة الدستورية لتشكيل الحكومة، حيث ينص الفضل 89 من الدستور التونسي على أنه “في أجل أسبوع من الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات، يكلف رئيس الجمهورية، مرشح الحزب أو الائتلاف الانتخابي المتحصل على أكبر عدد من المقاعد بمجلس نواب الشعب، بتشكيل الحكومة خلال شهر يجدّد مرة واحدة”. وباعتبار أن الحبيب صيد تسلم رسالة التكليف من الباجي قايد السبسي يوم الخامس من يناير الجاري، فإن المكلَّف في سباق ضد الساعة لتفادي الوقوع في ازمة سياسية ودستورية، ولذلك يسارع خطاه بين الأحزاب ليشكل حكومته التي ينتظر إعلانها الاثنين المقبل على أن تعرض على مجلس نواب الشعب الأربعاء المقبل.
صعوبات تشكيل الحكومة اختزلت كل أزمات الساحة السياسية التونسية، فهي أزمة قانونية ودستورية وحزبية في آن، لكن وطأة التأخر تنزل بثقلها على الوضع الاجتماعي والاقتصادي للبلاد الذي يحتاج إنقاذا عاجلا وتعاطيا سريعا مع معضلاته المتداخلة.
كاتب صحفي تونسي