الديمقراطية ليست عملية سهلة ضامنة لحدوث استقرار فوري في هذا البلد أو ذاك، وإنما هي عمليّة شديدة التعقيد محفوفة بمخاطر جسيمة.
افراسيانت - حسونة المصباحي - مطلع التسعينات من القرن الماضي، بعد انهيار جدار برلين، والكتلة الاشتراكية بزعامة ما كان يسمّى بالاتحاد السوفياتي، أصدر المفكر الأميركي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما كتابا حمل عنوان “نهاية التاريخ والرجل الأخير”.
وفي بضعة أسابيع، حصل الكتاب على شهرة عالميّة واسعة، وأصبح صاحبه مرجعا أساسيا في مجمل ما يتعلق بالواقع العالمي الجديد بعد انتهاء الحرب الباردة، واضمحلال الأنظمة الشيوعيّة الشموليّة.
وقد اعتبر النقاد، والمهتمون بالفكر السياسي، أن الكتاب المذكور تمجيد للديمقراطية في مظهرها الليبيرالي المتمثل في الولايات المتحدة الأميركية، وفي الدول الغربيّة الرأسماليّة بصفة عامة.
ولعلّ فوكوياما اعتبر ذلك “تعسّفا” على كتابه، وعلى الأطروحات التي تطرّق إليها فيه، لذا أصدر العام الماضي (2014) كتابا جديدا حمل عنوان “جذور النظام السياسي”.
وأعتقد أن منظري ما يسمى بـ”الربيع العربي” مطالبون قبل غيرهم بقراءة جديّة لهذا الكتاب المهمّ فلعله ينفعهم، ويفيدهم، وينبههم إلى الأخطاء الفادحة التي ارتكبوها، والتي حوّلت ربيعهم إلى شتاء شديد القتامة والبرودة.
وكانت الديمقراطيّة هي المحور الأساسي في الكتاب. وأول ما ينبهنا إليه فوكوياما هو أن الديمقراطية ليست عملية سهلة ضامنة لحدوث استقرار فوري في هذا البلد أو ذاك، وإنما هي عمليّة شديدة التعقيد، محفوفة بمخاطر جسيمة.
وإذا ما فقدت للشروط الضامنة لنجاحها، فإنها سرعان ما تنطفئ وتفشل. وقد يؤدّي فشلها إلى انهيار الدولة ومؤسساتها، وبالتالي إلى العنف وإلى الفوضى العارمة، التي لا يسلم منها لا أنصارها ولا المعادون لها. وهذا ما حدث في العديد من البلدان الأفريقيّة، وفي بلدان ما يسمى بـ”الربيع العربي”. فقد سقطت الأنظمة التي كانت تعتبر “فاسدة”، و”معادية للديمقراطية “، غير أن الديمقراطية لم تتحقق فيها بصفة فورية، بل ازدادت الأوضاع تعقيدا وفسادا على جميع الأصعدة، خاصة بعد أن استغلت الحركات الجهادية والتكفيرية الفراغ الهائل الناتج عن سقوط الأنظمة الآنفة الذكر لكي تشرّع العنف والإرهاب والجريمة في أبشع وأفظع أشكالها. لذلك لا يمكن للديمقراطية أن تنشأ على أسس قويمة إلاّ في ظلّ دولة مركزية قويّة، ومهابة الجانب، وقادرة على فرض احترام القوانين، وعلى تطبيقها على الجميع من دون أيّ استثناء.
ويشير فوكوياما إلى أن الولايات المتحدة الأميركية عرفت الديمقراطية قبل قيام الدولة المركزية القوية. وكان لا بدّ من حرب أهليّة مدمرة، ومن عقود طويلة من الإصلاحات الإدارية، ومن التشريعات الضامنة للاستقرار لكي تتحقق الديمقراطية بصفة ناجعة وفعليّة.
اعتمادا على هذا، يمكن القول بأن الأب الحقيقي للأمة الأميركية ليس جورج واشنطن، ولا أبراهام لنكولن، وإنما تيودور روزفلت. وقد تكون الحرب مفيدة لقيام دول قوية، وهذا ما حدث في أوروبا الغربية بعد الحربين العالميتين.غير أنه قد تكون مدمرة، ومخربة للدولة ومؤسساتها مثلما هو الحال في العراق وأفغانستان.
وتمتلك الصين دولة مركزية قوية، وهذا ما يجعل فوكوياما يرجّح أن تقوم الديمقراطية في هذه البلاد رغم أن النظام فيها لا يزال يتصدّى بقوة وعنف إلى كل من يرفع صوته للمطالبة بها.
ويرى فوكوياما أن هناك جانبين أساسيين للديمقراطيّة؛ الجانب الأول سلبي، وهو كل ما يفرض بالقوة وبالإكراه، وأما الجانب الثاني فهو إيجابي، وهو يتمثل في الكرامة. ولا يمكن تحقيق الاستقرار السياسي الفعلي إلا بإحداث توازن بين الجانبين، وهذا لن يتمّ إلا بشرط أن يحترم أصحاب النفوذ على رأس الدولة السلطة، التي يمتلكونها لكي تكون في صالح عامة الشعب، وليس في صالح فئة معيّنة.
كاتب من تونس