افراسيانت - كيفورك ألماسيان - منذ اعتماد "أجندة لشبونة" في عام 2000، التزم الاتحاد الأوروبي في تعاملاته التجارية مع الدول والتكتلات الأخرى بالنهج الاقتصادي الأكثر انحيازا للرأسمالية النيوليبرالية، معززاً بلا هوادة مصالح الشركات الكبرى والنخبة التجارية الحاكمة على حساب العمال والمجتمع والبيئة.
وتجلى هذا الأمر بوضوح في "الشراكة التجارية والاستثمارية عبر المحيط الأطلسي" (TTIP) المثيرة للجدل، والتي تحاول واشنطن الدفع بالمفاوضات مع بروكسل حولها من أجل فتح أسواق الاتحاد الأوروبي بدرجة أكبر أمام صادرات الولايات المتحدة.
في حقيقة الأمر، فإن بيروقراطيي الاتحاد الأوروبي غير المنتخبين يحاولون أيضاً الترويج للـTTIP، في تحدٍّ واضح للمعارضة الشعبية الأوروبية، والتي كانت أحد أسباب تصويت بعض البريطانيين للرحيل عن المنظومة الأوروبية.
ويقول المدافعون عن الـTTIP، إن إزالة التعريفات الجمركية بين الطرفين وتوحيد الأطر القانونية الناظمة للتجارة يمكن أن تحقق مكاسب كبيرة بالنسبة للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على حد سواء. حيث أن اتفاقية تجارية من هذا النوع سترفد اقتصاد الاتحاد الأوروبي بـ119 مليار يورو كل عام، وتعود على الولايات المتحدة بـ 95 مليار يورو.
غير أن منتقدي الاتفاقية يقولون إن هذه الأرباح ستعود إلى جيوب النخبة الرأسمالية والصناعية. كما أن تضمين الخدمات المالية في الصفقة يعني تقديم تنازلات على مستوى القوانين المالية الناظمة وهو ما قد يؤثر سلباً على الاستقرار المالي.
لكن ما هو مصير الـTTIP في ظل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؟
وفقاً لجون هيلاري، المدير التنفيذي لـ"الحرب على العوز"، وهي جمعية خيرية مقرها لندن تحارب الفقر في البلدان النامية، فإن الـ Brexit يعني أن الشعب البريطاني قد نجا من كونه طرفاً في أي اتفاق مستقبلي بخصوص الـTTIP. ومن المشكوك فيه أيضاً إلى حد كبير أن يبقى هذا المشروع على قيد الحياة بعد رحيل بريطانيا عن المنظومة القارية.
ففوق كل الصدمات التي تلقتها المفاوضات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على مدى الأشهر الماضي، قد يكون الـBrexit بمثابة القشة الأخيرة التي ستقصم ظهر البعير.
وبالمثل، قال فرانسوا أسيلينوه، رئيس حزب "الاتحاد الجمهوري الشعبي" الفرنسي المتشكك تجاه الاتحاد الأوروبي، إن الـBrexit وجّه ضربة قوية للـTTIP. فمن جهة، أصبحت شعوب أوروبا على الحافة، ومن جهة أخرى تواجه الولايات المتحدة الاستحقاق الرئاسي الذي قد يجلب دونالد ترامب إلى السلطة. ولو حدث ذلك، يمكن أن يُعتبر تكراراً لتصويت Brexit لكن على مستوى عالمي.
إذن، إلى جانب المعارضة الشعبية والشكوك المتزايدة للنُقّاد البريطانيين والفرنسيين والألمان حول فرص نجاح مفاوضات الـTTIP، يمكن أن يُغرق الـBrexit اَمال التوصل إلى اتفاق قبل انتهاء ولاية الرئيس الأمريكي باراك أوباما في كانون الثاني\يناير المقبل.
هذا الاستقطاب يدل على أن هناك فجوة بين طموحات النخب السياسية والرأسمالية الذين يستمرون في تطوير هذا المشروع مع أعلى سرعة ممكنة والمخاوف المتزايدة للناس العاديين الذين يعتقدون أن هذا المشروع التجاري لا يلبي مصالحهم.
فالتصويت للـBrexit يعني رفض الطبقة السياسية في بريطانيا. وفي حقيقة الأمر، يجب أن يُنظر إلى الناخبين في العديد من معاقل "حزب العمال" اليساري لصالح الخروج على أنها دعوى لنوع جديد من السياسات الاقتصادية التي تعود بالنفع على الأغلبية لا الأقلية.
وما يزيد الطين بلة هو ازدراء النخبة الأوروبية لشعوب أوروبا والذي تجلى بكل وضوح في فرضها للتقشف الحاد على شعوب اليونان وقبرص ورومانيا ولاتفيا وأيرلندا والبرتغال، فضلاً عن سعيها لاختتام مفاوضات الـTTIP وفرضها على شعوب أوروبا ضد إرادة المعارضة الشعبية المتزايدة في القارة العجوز.
على الرغم من هذه المعارضة، من المتوقع أن يجتمع مفاوضو الـTTIP في بروكسل في منتصف تموز/يوليو القادم، ولكن الهدف من هذه المحادثات هو التركيز على القضايا الأقل إثارة للجدل، في حين ستُترك المواضيع الشائكة للقادة السياسيين.
لكن المراقبين الغربيين يعتقدون أن الجانبين لن يضعا أفضل عروضهما على الطاولة، بانتظار استلام الرئيس الأمريكي الجديد مهام منصبه في العام المقبل، ومراقبة نتائج الانتخابات الفرنسية والألمانية في عام 2017.