افراسيانت - منير شفيق - في أسبوع واحد قبل نهاية شهر أيار/مايو 2016 تتحرّك ثلاث مبادرات متنافسة ومتلاقية ومتكاملة، لإعادة بحث حلّ للقضية الفلسطينية على أساس "حلّ الدولتين". أي على أساس الحلّ التصفوي للقضية الفلسسطينية. وهو الحلّ الذي يتهالك عليه محمود عباس، وبعد فشل متكرّر منذ اتفاق أوسلو في 1993 (وقبل ذلك بالطبع)، كما تسعى إليه الإدارة الأمريكية والحكومات الأوروبية (فرنسا في المقدمة)، كما بعض العرب (مبادرة عبد الفتاح السيسي مؤخراً، وبدعم من السعودية ومجلس الجامعة العربية في اجتماعه الأخير في 28 أيا/مايو).
إن أول هذه المبادرات، يتمثل في استضافة وزارة الخارجية السويسرية في الثلاثين من شهر أيار/مايو لقاءً دولياً في شأن المصالحة الفلسطينية وحلّ الدولتين. وقد أُعْلِنَ عن مشاركة اللجنة الرباعية الدولية (أمريكا وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة)، والمفوضية العليا للاتحاد الأوروبي والسويد والنرويج والصين وروسيا ومصر والسعودية وفلسطين.
وأُعْلِنَ أيضاً بأن اللقاء سيُركز على بحث مسألة المصالحة الفلسطينية والعقبات التي حالت حتى الآن دون إنهاء الإنقسام، وضرورة مساهمة "المجتمع الدولي" في التغلب على العقبات التي حالت حتى الآن دون إجراء المصالحة. أما الحافز المقدّم فبحث إعادة الإعمار ورفع الحصار والوحدة بين الصفة الغربية وقطاع غزة.
وزارة الخارجية السويسرية التي ترعى اللقاء في مقرّها كانت قد تحركت باتجاه غزة والدوحة، وقيل أن من المتوقع أن تتقدّم في اللقاء باقتراح آليات لحل المشاكل التي تعترض المصالحة، ومنها توفير دعم دولي إضافي للحكومة الفلسطينية من أجل دفع رواتب الموظفين وإعادة الإعمار (طبعاً ثمة تجاهل لجوهر مشكلة الرواتب باعتبارها سياسية وليست مالية).
وقد كشف، ما كان معروفاً، عن اتصالات مستمرة بين الحكومة السويسرية، ومؤسسات غير حكومية على صلة بها من جهة وبين حماس منذ فوزها في انتخابات 2006 وتشكيلها الحكومة الفلسطينية. وقد دأبت حكومة سويسرا على محاولة إقناع الحكومات الأوروبية والإدارة الأمريكية بأن الانفتاح على "حماس" والعمل على احتوائها وإقناعها بالانضمام إلى العملية السياسية أفضل وأقل كلفة من محاربتها، مع التحذير من أن استمرار الحصار قد يؤدي إلى انهيار الحركة وتشظيها إلى مجموعات تشكل خطراً على الأمن الدولي (الحياة 28 أيار/مايو 2016).
المبادرة الثانية جاءت من فرنسا وقد تمثلت في الدعوة لعقد "مؤتمر باريس" في 30 أيار/مايو وقد أجّل إلى 3 حزيران/يونية بناءً على طلب جون كيري وزير خارجية أمريكا من أجل المشاركة فيه. وهذه المبادرة كما أُعْلِنَ تستهدف الحشد الدولي العربي – الإسلامي – العالمي (الجامعة العربية، مجلس التعاون الخليجي، منظمة التعاون الإسلامي، اللجنة الرباعية الدولية، ومجلس الأمن، والاتحاد الأوروبي) من أجل تقديم "حوافز" وإغراءات" تسعى باريس إلى "وضعها أمام إسرائيل والفلسطينيين" لتشجيعهم على العودة إلى التفاوض "ضمن إطار زمني". طبعاً يمكن أن يُتصوّر ما سيقدَّم لحكومة نتنياهو قبل أن تقتنع بالعودة إلى المفاوضات "ضمن إطار زمني". وهذا كله تنازلات مجانية مسبقة ليقبل نتنياهو العودة إلى المفاوضات مقابل قبوله اللفظي بفكرة "وضع إطار زمني". لأنه يريدها مفاوضات ثنائية مفتوحة على الزمن. علماً أن هذا الشرط يظل قابلاً للتمديد أو الإعفاء، فيما يكون قد أخذ من الحوافز الشيء الكثير.
المبادرة الثالثة جاءت من عبد الفتاح السيسي وخلاصتها "حلّ الدولتين" وإتمام المصالحة الفلسطينية، والتأكيد على تنفيذ مبادرة السلام العربية. وذلك مع التأكيد بأن هذه المبادرة لا تتناقض مع المبادرة الفرنسية بل تدعمها كما سوف يردّ مؤتمر باريس لها الجميل بالتشديد على مبادرة السيسي ودعمها.
والطريف أن هذه التحرّكات والمبادرات تأتي لتمسح دموع المتباكين على القضية الفلسطينية التي قيل بأنها "أصبحت ثانوية، أو وُضِعَت على الرف وتمّ تناسيها نتيجة الصراعات والحروب المندلعة في المنطقة". وهكذا فجأة تعود إلى الواجهة ومن خلال ثلاثة تحركات أو مبادرات، فضلاً عن استيقاظ الرباعية الدولية وتحرّكها المستجد. ولكن سيتبيّن أن تناسي القضية الفلسطينية خيرٌ من تذكّرّها ودفعها إلى "حلّ الدولتين" وإعادة لعبة التفاوض لتكون الغطاء الذي يندفع المزيد من استيطان الضفة الغربية وتهويد القدس تحته. فضلاً عما سيّقدّم من محفزات لإقناع نتنياهو بالعودة إلى مفاوضات يطالب بها مع الضغط عليه بقبول شكلي لشرط "ضمن إطار زمني". وسيكون من بين المحفزات تنازلات تتعلق بيهودية الدولة، ومسبقاً.
على أن السؤال، ما الذي حرّك كل هذه المبادرات والتحرّكات بعد سبات عميق منذ انسداد باب المفاوضات الثنائية؟ الأمر الذي دفع الكثيرين من المتباكين أو قصار النظر إلى اعتبار غياب القضية الفلسطينية عن مسرح المفاوضات والبحث في "حلّ الدولتين" تجاهلاً لها، وقد وضعها على الرف، علماً أن هذا الغياب جاء بسبب فشل المفاوضات وإخفاق "حلّ الدولتين". وهو في مصلحة القضية الفلسطينية ومدعاة لنصرتها من خلال استراتيجية المقاومة والانتفاضة.
فالقضية الفلسطينية، كما أثبتت التجربة تذهب إلى التنازل عن ثوابتها فلسطينياً وعربياً وإسلامياً، وحتى عما تضمنته القرارات الدولية (قرارات هيئة الأمم المتحدة) من بقايا حقوق فلسطينية. وذلك حين أصبحت مرجعية المفاوضات هي المرجعية الوحيدة، وبلا أيّة شروط مسبقة. الأمر الذي يعني تنازل الدول الكبرى عما وقعت عليه من قرارات دولية اعتبرت مرجعية الحل. فعندما تصبح المفاوضات الثنائية سيدة نفسها وهي المرجعية يصبح المفاوض الصهيوني هو المرجع.
ما يجري الآن من مبادرات يريد إعادة التجربة المجرّبة من جديد. ولا يوجد أي سبب أو أي متغيّر يسمح بهذه الإعادة سوى الهروب من الانسداد الذي يفتح للشعب الفلسطيني، كما حدث ويحدث الآن في انتفاضة القدس، آفاقاً لفرض حلٍ على حكومة نتنياهو، ينحصر في دحر الاحتلال بلا قيدٍ أو شرط وتفكيك المستوطنات بلا قيدٍ أو شرط، فضلاً عن إطلاق الأسرى وفك الحصار عن قطاع غزة. وذلك من خلال تصعيد انتفاضة القدس لتصبح عصياناً سلمياً شعبياً شاملاً، يفرض على حكومة نتنياهو الرضوخ له، وهي مكرهة، وقد وصلت خسائرها في استمرار الاحتلال والاستيطان وحصار قطاع غزة وسجن الأسرى أعلى من الإنسحاب والتراجع بلا قيدٍ أو شرط.
لقد أثبتت التجربة حتى الآن ومنذ حكومة رابين وبيريز وشارون وأولمرت ونتنياهو أن التوصل إلى "حلّ الدولتين" أصعب عليها من الانسحاب وفك المستوطنات بلا قيدٍ أو شرط وهي مرغمة. لأن "حلّ الدولتين" يتطلب من جهة الفلسطينيين تلبية شروط وتنازلات جديدة ومضاعفة، ولا قِبَلَ لهم، أو لأغلب الدول العربية على قبولها وتحمّلها. من جهة، أما من الجهة الأخرى فإن حكومات الكيان الصهيوني التي لم تعترف بأيّ قرار من قرارات هيئة الأمم المتحدة، وقد رفضت استخدام عبارة "الانسحاب" من مناطق (أ) في اتفاق أوسلو واستخدمت بدلاً عنها عبارة "إعادة الانتشار" أو "التموضع". وكذلك رفض شارون أن يوقع أيّ اتفاق مع السلطة الفلسطينية بدلاً من "فك الارتباط" الذي فرض عليه الانسحاب وتفكيك المستوطنات من قطاع غزة بلا قيد أو شرط.
إن معضلة قيادات الكيان الصهيوني في "حلّ الدولتين" فضلاً عما تطالب به من المزيد من التنازلات مثلاً الاعتراف بيهودية الدولة وبالسردية الصهيونية حول الحق التاريخي الزائف في فلسطين، تتمثل في أن التوقيع على اتفاق يعترف بأن جزءاً من الأرض التي تعتبرها "أرض إسرائيل" هي أرض فلسطين سوف يُبْطِل كل سردية اعتبار أرض فلسطين هي "أرض إسرائيل". لهذا فإن الانسحاب بلا قيدٍ أو شرط، وتسميته "إعادة انتشار" أو "فك ارتباط" أو "تموضع"، يُبقي ادّعاء الحق في ما يَبقى تحت سيطرتها، وفي ما ستنسحب منه "قائماً" وكذلك العودة بالقوّة متى تغيّرت موازين القوى وسمحت بذلك.
ولهذا فإن المبادرات الثلاث مصيرها الفشل من حيث تحقيق أهدافها المُعلنة ولن ينجم عنها إلاّ العودة إلى المربع الأول، على أمل إبقاء إمكان إيجاد ""حلّ" قائماً ولو بصورة واهمة. وذلك من أجل تجنّب الوصول إلى الانسداد وحلّ الانتفاضة، فضلاً عما سيتضمنه من استمرار للاحتلال والتغوّل في الاستيطان. ومن ثم الاستمرار في عذاب الفلسطينيين وتقديم التنازلات والدوران في المكان.