افراسيانت - عبد الله زغيب - مرت المسيرة السياسية «القصيرة» حتى الآن للملياردير الاميركي دونالد ترامب، بثلاث مراحل يمكن أن تختصر التبدلات التي طرأت على عمله، أو على مخطط عمل فريقه في السباق الرئاسي. جاءت المرحلة الأولى مع إعلان الرجل ترشحه للرئاسة في حزيران من العام الماضي، وأخذ على الفور صفة المرشح «الهزلي»، الذي سيوفر، وقد فعل إلى حد بعيد وما زال، مادة دسمة لـ «التسلية» الإعلامية. فترامب لم يخرج من أي «قمقم» سياسي أميركي عتيق، كالمدارس الديبلوماسية أو البيوت «النخبوية» المنتجة للقادة، بل جاء من عالم الأضواء مباشرة الى مكان لا يقلّ «حماوة» على الإطلاق. وشخصيته «الجدليّة» وغير «المتزنة» إلى حد بعيد، سطع نجمها تلفزيونياً وخبرياً، طوال فترة نشاطه في العقارات والمصارف والمسلسلات والبرامج، بل حتى «المصارعة الحرة».
المرحلة الثانية بدأت مع انتقال ترامب من مرحلة الترشح «الحر»، إلى الترشح «التمثيلي» شبه الكامل، حيث بات من الصعب ادعاء كونه مجرد مشروع «مارق» في السباق الانتخابي، وهو ما فرض عملية إعادة تموضع في «الحزب الجمهوري»، خاصة في غياب الدعم الحقيقي من عناصر القوة التاريخية في الحزب طوال الشهور الاولى لترشح ترامب. لكنه ومنذ شهر شباط الماضي، فرض على الجميع قبوله كحالة قائمة ومنفتحة على الاحتمالات كافة، من خلال فوزه في كارولاينا الجنوبية ونيوهامبشير، مكللاً سلسلة انتصارات تخطت الثلاث عشرة ولاية وكان من إنجازاته «القضاء» على المغامرة الرئاسية الجديدة القادمة من منزل عائلة بوش، عبر هزيمة حاكم ولاية فلوريدا السابق جيب بوش، الذي احتلّ المركز الرابع بفارق كبير في السباق «الجمهوري». وأعلن بعدها تعليق حملته منهياً حلمه بأن يصبح ثالث شخص من عائلة بوش يتولى الرئاسة بعد أبيه وأخيه.
المرحلة الثالثة التي من شأنها نقل ترامب من مرشح «بالقوة» الى مرشح «بالفعل»، افتتحتها آخر استطلاعات الرأي. فالأخبار «الحسنة» بدأت مع استطلاع قامت به محطة «إن بي سي» وصحيفة «وول ستريت جورنال»، الذي أظهر ميلاً نحو 46 في المئة من الاميركيين للتصويت لصالح هيلاري كلينتون، فيما دعم دونالد ترامب نحو 43 في المئة من المستطلعة آراؤهم. ما يعني أن «فارق» شعبية ترامب عن كلينتون تقلّص الى ثلاثة في المئة فقط، أي ان دونالد ترامب تمكن من التقدم بنسبة 9 في المئة خلال شهرين فقط. لكن الأبرز جاء من خلال استطلاع آخر، أجراه موقع «آر سي بي» المختص بتحليل الاستطلاعات الرئاسية، حيث يتقدم ترامب الآن على كلينتون بنسبة «ضئيلة» عند 0.2 في المئة.
لم يعد أمام «الجمهوريين» سوى القبول بدونالد ترامب، كمرشح وحيد و «جدّي» لسباق البيت الأبيض، خاصة أنهم عجزوا عن دخول المكتب البيضاوي منذ فوز جورج بوش الإبن بانتخابات العام 2004، ما يعني أن أمام الحزب فرصة لاستغلال الشعبية القوية لترامب للعودة بقوة، خاصة أن التوجّه الجديد، حتى قبل دخول ترامب في السباق الرئاسي، تمثل باعتماد «الجمهوريين» على مجموعة صفات جديدة تتخطّى المشروع السياسي، الى قضية «الكاريزما» والمجهود الفردي المتعلّق بالشخصية والخطابة، وكل ما من شأنه تحويل «القضية» الى نشاط «شخصي» جذاب، يمكن ان يتخطى التقاليد السياسية، وينعش من جديد بنية الحزب.
قليلة هي الجهات الناشطة في أميركا التي لم تطلق «نيرانها» بعد على دونالد ترامب، لكن الرجل شكل ببساطة، مرآة «نقيّة» تعكس واقعيّتين في الولايات المتحدة، الأولى تكمن في ميل «صناع السياسات» في كواليس الحزبين «الديموقراطي» و «الجمهوري»، الى استثمار «النزوح» الثقافي في المجتمع الأميركي نحو كل ما هو «مثير»، عملاً بـ «ثقافة» تلفزيون الواقع، التي أنتجت «شهرة» غير مبرّرة، إلا أنها حقيقية وبامتياز. لذلك يشكل «الاحتضان» المتزايد لترامب داخل الحزب «الجمهوري»، دليلاً على حاجة الحزب للصفات الإشكالية التي يتحلى بها، فهو أشقر وارتجالي وعنصري وملياردير وزير نساء ونجم تلفزيوني ونصف مجنون. لكنه يمثل بالحد الأدنى نحو أربعين في المئة من الأميركيين، لأنه كان «إشكالياً» على هذا المنوال.
الواقعيّة الثانية تُعدّ أكثر «راديكاليّة»، وتحمل في طيّاتها مخاطر قد تكون «كارثية» على البنية المجتمعية الاميركية، فهي تقوم على الموروثات «الثقافية» «الكامنة» في قطاعات واسعة من المجتمع الأميركي، حيث إن عنصرية «الرجل الأبيض» في الولايات المتحدة، وبرغم اندثار نموذجها المقونن منذ تحرير العبيد في عهد ابراهام لنكولن العام 1862، إلى إنهاء قوانين التمييز في الوظائف والحقوق منتصف القرن الماضي، بقيت الى حد بعيد في حالة «سبات» قسري. لكنه ينشط من حين لآخر بفعل «المحفزات» الموضعيّة. وهكذا فعل دونالد ترامب. اذ شكل وإلى حد بعيد، «الصوت» القوي الذي تمكّن من إيقاظ «الغول» العنصري، مع تراكمات جديدة لم تكن ضمن سلّة الأعمال العنصرية في التاريخ الأميركي الحديث، كالعداء للفئات «الهسبانية» والشرق أوسطية أو المسلمة بشكل عام.
تهمة العنصرية التي تلاحق ترامب أينما ذهب، توّجتها تصريحات الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر لصحيفة «نيويورك تايمز»، الذي اعتبر فيها ان الحملة الانتخابية الناجحة التي قادها ترامب استغلت «مستودعاً» كبيراً من العنصرية الكامنة. وبهذا يكون كارتر، صاحب «الضمير» كما يسمّى في اوساط محبيه، قد أطلق رصاصة اضافية على حملة ترامب. لكنه في نهاية المطاف يعكس خيبة امل «ديموقراطية» من القوة التي وصل اليها المرشح «الجمهوري». فكارتر بحد ذاته كان من أبرز صناع الأصولية الدينية في العالم عندما ساهم في تدمير التجربة العلمانية في أفغانستان، عبر تمزيق «الحزب الشعبي الديموقراطي الأفغاني» (PDPA) لصالح تيارات متشددة، وكذلك مساندته للديكتاتور سوموزا في نيكاراغوا وتهريبه ودعمه لفرق الموت هناك، إضافة لدعم الديكتاتور موبوتو في زائير ودعم المجازر العنصرية في انغولا وجنوب افريقيا.
استثمار كارتر صاحب «الوجه البريء»، كما يوصف في اميركا، عكس استشعاراً «ديموقراطياً»، بأن حظوظ دونالد ترامب أصبحت في طور الارتقاء السريع. لكنها بطبيعة الحال، لا يمكن أن تفرض سردية مختلفة عن الواقع الذي بنيت على أساسه عناصر قوة الولايات المتحدة، خاصة أن الميزان الأخلاقي للعمل السياسي والعسكري والاقتصادي الخارجي، كان أكثر «فداحة» من إنشاء سور بين اميركا والمكسيك، وفرض رقابة على المساجد. لكن النتيجة النهائية حتى لو افترضت ترامب رئيساً، لن تشكل إنتاجاً جديداً لأدولف هتلر آخر، بسبب الفارق الهائل بين الخطابة الدعائية لترامب، ومشروعه السياسي الحقيقي، الذي لن يخرج في الغالب عن الاحتواء الاميركي الدائم للوافدين الى البيت الأبيض، وليس العكس.
بالتزامن مع السفير