تقسيم المنطقة وفقاً لنموذج الحرب اللبنانية .. «ستراتفور»: كيانات سايكس ـ بيكو تسقط
افراسيانت - نشر معهد «ستراتفور» الأميركي دراسة حول واقع المشرق العربي بعد اتفاقية سايكس - بيكو الشهيرة، التي قسمت المنطقة بين كيانات ومناطق نفوذ للدولتين الفرنسية والبريطانية منذ حوالي مئة عام، معتبراً أن مفاعيل هذه الاتفاقية قد انتهت عملياً، وداعياً الولايات المتحدة إلى البحث عن شكل سياسي جديد للمنطقة، يوفر لها القدرة على تحقيق مصالحها.
ويقول كاتب الدراسة الباحث جورج فريدمان إن واقع تقسيم المقسم الذي يحكم سوريا والعراق اليوم، هو أقرب إلى النموذج اللبناني الذي أنتجته صراعات الحرب الأهلية اللبنانية، مشددا على ضرورة اعتماد هذا النموذج من أجل إيجاد مخرج لهذه الأزمات.
وبدأ كاتب الدراسة الباحث جورج فريدمان بشرح كيف أن هذه الاتفاقية أرست التعريف العملي لحدود كيانات المنطقة في شكلها الحالي طوال هذه المدة، ولكنه يشير إلى ان واقعاً جديداً ظهر اليوم، ويمكن البناء عليه، بما يسمح بالاستنتاج أن الكيانات التي رسمتها سايكس - بيكو هي بحكم المنحلة، لافتاً إلى ان ما يحصل في سوريا والعراق هو بمثابة ظهور خريطة جديدة تلغي تلك الفرنسية - البريطانية.
وتحت عنوان «اختراع الدول القومية في الشرق الأوسط» ينطلق الكاتب في شرح الاتفاق الذي حصل بين وزير الخارجية الفرنسي فرانسوا بيكو، ونظيره وشريكه البريطاني مارك سايكس، مؤكدا أنهما سعيا من خلال تقسيم المنطقة إلى أمرين أساسيين: الأول خلق كيان عراقي تسيطر عليه بريطانيا، والثاني تقسيم «سوريا العثمانية» عبر خط ممتد من البحر المتوسط شرقا حتى جبل حرمون، وهو ما سعت الدولة الفرنسية من خلاله إلى ارساء حلف مع المسيحيين في هذه المنطقة، وأطلقت عليها اسم لبنان تيمنا بمنطقة جبل لبنان.
ويستكمل فريدمان شرحه، بالإشارة إلى عمل البريطانيين على تقسيم ضفتي نهر الأردن إلى منطقتين منفصلتين، احداهما هي الضفة الغربية الفلسطينية، والثانية هي الضفة الشرقية ، تم إنشاء خمسة كيانات بين البحر المتوسط ونهر دجلة، بالإضافة إلى السعودية، كما تم العمل على إنشاء دولة إسرائيل لتصبح المنطقة مؤلفة من ستة كيانات، بحسب الكاتب، بعدما صوتت الأمم المتحدة على قرار تقسيم فلسطين في العام 1947.
ويشير فريدمان إلى أن هذه التقسيمات تتناسب مع نموذج الحكم الأوروبي، وهي وفّرت للأوروبيين إطارا لإدارة المنطقة وفق المبادئ الإدارية الأوروبية، وكانت المصلحة الأوروبية الأساسية في هذا المجال هي منابع النفط في العراق وشبه الجزيرة العربية.
ويتحدث الكاتب عن الطريقة التعسفية التي اعتمدها الأوروبيون في خلق هذه الكيانات، وفرضهم لهياكل الحكم فيها، بالإضافة إلى موجة الانقلابات التي عصفت بهذه البلدان بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أصبحت سوريا والعراق دولتين مواليتين للاتحاد السوفياتي في حين أصبحت إسرائيل ودول شبه الجزيرة العربية موالية للولايات المتحدة.
وتحت عنوان «الواقع يتغلب على رسم الخرائط» يرى الكاتب أن لبنان كان «محض اختراع» اقتطع من سوريا، وقد احتدمت فيه الصراعات بين جميع طوائفه، لافتاً إلى ان المسيحيين أنفسهم الذين أنشئ هذا الكيان على قياسهم تقاتلوا في ما بينهم، ومشيراً إلى أن الصراعات بين الفئات اللبنانية لم تنحصر في لبنان، إذ ان الخط الذي يفصل لبنان عن سوريا كان عبارة عن رسم فرنسي تعسفي لهذه الحدود، حيث بقيت تأثيرات الأحداث الجارية في المنطقة تعكس تأثيرا فاعلا على الفئات اللبنانية، من تأثير سوريا، وفصائل المقاومة الفلسطينية، والاجتياح الإسرائيلي والتدخل العسكري الأميركي في الثمانينيات.
وينطلق الكاتب من هذه النقطة للحديث عن «تكرار هذه التجربة في سوريا والعراق» اليوم، متحدثا عن انعكاس الأزمة السورية على البنية المجتمعية بشكل أدى إلى تقوية العصبية الطائفية، وموضحاً أن دولا مثل تركيا والسعودية وإسرائيل والولايات المتحدة ستدعم عددا من الفئات المتصارعة، وأنها ستنجح في نهاية المطاف في تكريس هذا الانقسام ما يجعل الدولة السورية الموحدة ذكرى من التاريخ.
وكما في سوريا، يلفت الكاتب إلى أن أمراً مشابها حدث في العراق، إذ ان احتدام الصراع السياسي الطائفي في هذا البلد، وقيام ما يشبه المحاصصة السياسية في هذا المجال، كان آخر نتائجهما صعود تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» - «داعش»، ما دفع الجيش العراقي إلى محاولة خلق توازن عسكري، والأكراد إلى الدفاع عن مناطقهم، ما أنتج انقساما مناطقيا بين السنة والشيعة والأكراد، فأصبحت لكل من هذه الفئات مناطقها الخاصة، مشبها هذا الأمر بما حصل في لبنان من عمليات فرز مناطقي خلال الحرب الأهلية، وضعف السلطة المركزية.
ويستنتج فريدمان أن وجود حدود بين سوريا والعراق كان تاريخياً أمراً غير مؤكد كما هو الأمر بالنسبة للحدود بين سوريا ولبنان، لكن شكل الحدود الذي أوجدته اتفاقية سايكس بيكو كان لا يزال قائما للأسباب التي دفعت الأوروبيين إلى انشائها، لذلك، فإن فكرة الحفاظ على عراق موحد أصبحت أمرا غير منطقي، وكما حصل في لبنان لن تستمر هذه الحرب العراقية الى ما لا نهاية، لكنها ستدفع جميع الفئات العراقية في النهاية إلى التفاوض على حل، فإن فكرة أن يعيش الشيعة والسنة والأكراد معا ليست ضربا من الخيال، لكن ضرب الخيال هو أن تظن الولايات المتحدة أن لديها القدرة أو المصلحة في الإبقاء على هذا الاختراع الفرنسي البريطاني الذي وضع على أنقاض الامبراطورية العثمانية.
ويخلص الكاتب إلى ضرورة الالتفات نحو مدى تفكك الدول القومية، وإلى أي مدى سيؤثر ذلك في مستوى العالم العربي، معتبراً أن ذلك يحصل عمليا في ليبيا، لكنه لم يتجذر بعد في أماكن أخرى، وهو قد ينتج تكوين شكل سياسي جديد في مناطق سايكس - بيكو.
ويختم فريدمان بالقول: لنضع كل هذا جانبا، النقطة هي أن الوقت قد حان لوقف التفكير في استقرار سوريا والعراق والبدء بالتفكير في دينامية جديدة خارج هذه الدول المصطنعة التي لم تعد تؤدي وظيفتها. للقيام بذلك، يجب العودة إلى لبنان، الدولة الأولى التي تفككت والمكان الأول الذي دفع المتحاربين فيه إلى التحكم بمصيرهم لأنهم اضطروا إلى ذلك. نحن نرى النموذج اللبناني ينتشر شرقاً، وسيكون من المثير للاهتمام معرفة المكان الآخر الذي سينتشر فيه.