افراسيانت - بيير فرانس- اجتمعت مجموعة متنوعة من الموسيقيين ومنسقي الموسيقى في شقة تقع في رام الله لمدة أسبوعين في إطار مشروع فريد من نوعه. وتتضمّن هذه المجموعة سما عبد الهادي، وهي منسقة موسيقى ومنتجة، إلى جانب الرائد في مجال الموسيقى الإلكترونية في عقد الألفين، ناصر الحلاحلي، وعرّاب موسيقى الهيب هوب في رام الله، "مقاطعة".
تتمثّل مهمتهم في تأليف وتسجيل ألبوم غنائي يحمل اسم "إلكتروستين"، الذي يستند إلى أرشيف صوتي ضخم من الفولكلور الفلسطيني وقع جمعه بعناية فائقة. وفي هذا الصدد، يقول الحلاحلي، البالغ من العمر 37 سنة، الذي يعيش في حيفا الواقعة في إسرائيل، وأقام في رام الله خلال القيام بالجلسات التدريبية: "كانت التجربة فريدة للغاية بالنسبة لي. كنت أعرف كل الأشخاص هناك لكن لم تسنح لنا الفرصة للقيام بعمل موسيقى مشترك. فضلا عن ذلك، كانت هذه التجربة مميزة جدا لأننا عشنا في المنزل ذاته لمدة أسبوعين"، مضيفا "أنا كنت على علم بهذه التسجيلات، ولكنني لم أكن أعتقد أبدا أنها ستكون متاحة".
يهدف ألبوم "إلكتروستين" إلى الاحتفاء بالتراث الموسيقي الفلسطيني الثري، وإضفاء روح جديدة على الموسيقى التقليدية التي نادرا ما يستمع إليها الناس، والاحتفال بالموسيقى الإلكترونية المزدهرة.
يستخدم هؤلاء الفنانين الأغاني التي تتيحها فرقة الفنون الشعبية للرقص، وهي منظمة ثقافية حافظت على الموسيقى الشعبية الفلسطينية وأعادت إحياءها منذ سبعينيات القرن الماضي. وخلال ورشة العمل، تعاون الحلاحلي وستة موسيقيين فلسطينيين آخرين على تسجيل 18 أغنية، وقع تقديم بعضها في معهد باريس للموسيقى العربية في شهر آذار/ مارس. ومن المقرر قريبا إصدار مجموعة أقراص مضغوطة وأقراص فيديو رقمي أُنتجت بشكل مستقل: ثلاث أغاني منها متاحة حاليا على خدمة الأغاني سبوتيفاي.
تراث مبعثر
تعتبر الموسيقى عنصرا محوريا في الحياة والتراث الفلسطيني. لكن خلال السنوات السبعين الماضية، وبسبب الاحتلال والصراع الإسرائيلي، أُهدر جانب كبير من هذا التاريخ الثقافي وتعرّض للإهمال. ومع ذلك، لا يزال من الممكن العثور عليه في القرى والبلدات في الضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل وبين الفلسطينيين الذين يعيشون في إسرائيل.
لا توجد مؤسسات رسمية مخصصة لحفظ الموسيقى في فلسطين، مما يجعل المعلومات والوثائق نادرة. كان أرشيف منظمة التحرير الفلسطينية من أهم الجهود الرسمية التي أُجريت في هذا المجال، ولكنه تعرض للتدمير والنهب خلال الصراع مع إسرائيل، أو بُعثر في عدة بلدان هاجر إليها الفلسطينيون خلال نصف القرن الماضي.
خلال تسعينيات القرن الماضي، حاولت بعض المنظمات غير الحكومية والمنظمات الشعبية الفلسطينية جمع الموسيقى الفلسطينية المفقودة. ويعتبر مــركز الفـــــن الشـــــعبي من بين هذه المنظمات التي بدأت في جمع أرشيف الصوت. وتجدر الإشارة إلى أن هذا المركز هو هيئة ثقافية رائدة ومنظمة شقيقة لمنظمة الفنون تأسست سنة 1987
حيال هذا الشأن، قال ديفيد ماكدونالد، الأستاذ المتخصص في علم موسيقى الشعوب في جامعة إنديانا الذي استخدم الأرشيف في بحثه: "في ذلك الوقت، بُذلت جهود جبارة في مجال الموسيقى الشعبية الفلسطينية، التي وقع تصميمها على المستوى الوطني. وكانت هذه الجهود تهدف إلى البحث عن صوت فلسطيني فريد يختلف عن الأردن أو لبنان. وقد وقع تسجيل العديد من القرى". وأورد ماكدونالد: "هذا الأرشيف مذهل للغاية، فهو يحتوي على مائتي قرص مضغوط وأشرطة رقمية مرفقة بمواد توضيحية وحتى نسخ لفظية".
منذ أن شرع مــركز الفـــــن الشـــــعبي في مشروعه، اكتشف جيل كامل من الموسيقيين، إلى جانب المؤرخين ومهندسي الصوت والمسؤولين عن الأرشيف، طبقات عديدة من الموسيقى الفلسطينية الموجودة في أماكن وأنماط موسيقية متنوعة انطلاقا من الموسيقى العربية الكلاسيكية وصولا إلى موسيقى الروك البديلة، ومن حيفا على الساحل الإسرائيلي وصولا إلى القرى الموجودة في الضفة الغربية المحتلة.
ما هي الموسيقى التي وقع حفظها؟
يأتي مشروع ألبوم "إلكتروستين" في وقت تشهد فيه فلسطين نموا في مجال العلامات والاستوديوهات والاعتراف على الصعيد العالمي. ويوجد العديد من الأماكن الجديدة على غرار كباريت في حيفا، وعرض دولي للمشاريع مثل معرض موسيقى فلسطين في رام الله، وهو واجهة للفنانين الجدد مرت ثلاث سنوات على تأسيسه، ناهيك عن الفيلم الوثائقي "فلسطين أندرغراوند" من إنتاج شركة "بولير رووم" التي يقع مقرها في لندن. وقد كوّن الحلاحلي صحبة زميله العازف على آلة المفاتيح، عصام إلياس، فرقة موسيقية تضم الموسيقى والفولكلور الفلسطيني، أطلقا عليها اسم "زنوبيا".
تعتبر هذه الفرقة جزءا من الصوت العربي المُعولم الجديد، على غرار فرقة "47 سول" التي تطلق على صوتها الخاص اسم "شام ستب"، وفرقة الموسيقى الإلكترونية "أسيد عرب" التي تتخذ من باريس مقرا لها، إلى جانب ملك الموسيقى الإلكترونية في المغرب العربي سفيان السعيدي، وهو فرنسي من أصل جزائري، وفرقة "عمّار 808" التي يقودها التونسي سفيان بن يوسف.
على غرار كل المشاركين في ألبوم "إلكتروستين"، كانت هذه المرة الأولى التي تمكّن فيها الحلاحلي من الوصول إلى مثل هذا الموروث الثقافي الذي تعذر في السابق النفاذ إليه، على الرغم من أن النهل من الموسيقى القديمة لم يكن أمرا مستجدا بالنسبة إليه. وحيال هذا الشأن، قال الحلاحلي: "حتى قبل تكوين فرقة زنوبيا استخدمت بعض الموسيقى العربية [التقليدية]، لكن في مجال الأفلام والمسرح".
سلط الاهتمام المتزايد بالأعمال الموجودة في الأرشيف الضوء على الجهود السابقة التي بذلتها منظمة التحرير الفلسطينية للحفاظ على الثقافة الفلسطينية، ومحدوديتها. وبالنسبة لماكدونالد، كانت منظمة التحرير الفلسطينية منذ بداية ستينيات القرن الماضي إلى حدود التسعينيات انتقائية للغاية عندما يتعلق الأمر بالموسيقى، حيث قال: "لقد كوّنت منظمة التحرير الفلسطينية فرقا موسيقية ومجموعات رقص تؤدي عروضا خلال المسيرات، وتسجل أشرطة انتشرت في كل مكان ووقع تشغيلها على محطات الراديو. كانت تملك وجهة نظر دعائية".
في سياق متصل، أضاف ماكدونالد أن حفظ الموسيقى لم يكن من ضمن الأولويات. وحتى نهاية القرن، كان التركيز بشكل أساسي على الأفلام والوثائق التاريخية التي تجسد الهوية الفلسطينية. ويعتبر نادر جلال ملما بمشاكل الحفاظ على التراث الموسيقي الفلسطيني، حيث شغل منصب مدير الفنون في وزارة الثقافة تحت إشراف السلطة الفلسطينية خلال الفترة الممتدة بين سنة 2004 و2011.
قال جلال: "أنا أكره القادة الفلسطينيين، ولكي أكون صادقا حقا، أنا أمقتهم بشدة. سألت العديد من القادة: "هل نحاول إقناع العالم بأننا لسنا سوى... قرويين في فلسطين؟ "أحب الفولكلور، لكن أين المدن؟ أين الموشح؟ "(في إشارة إلى شعر غنائي يعتبر من أرقى الأنماط الموسيقية العربية التقليدية). وأضاف نادر جلال منتقدا الاهتمام الشديد الذي أولته السلطة الفلسطينية لحفظ الموسيقى الفلسطينية التقليدية والرقص على حساب الأنماط الحديثة والشعبية والحضرية في فلسطين: "كنا نولي اهتماما بالفولكلور والدبكة فحسب".
خلال الآونة الأخيرة، أدرك نادر جلال أن هناك شيئا بنفس الأهمية موجود ولكنه منسي؛ الملحنون والموسيقيون الذين تركوا بصمة واضحة والذين عاشوا في فلسطين ما قبل 1948. في هذا الصدد، أورد جلال: "لقد اكتشفت ذلك قبل تسع سنوات فحسب. كل هؤلاء الموسيقيين المنسيين، على غرار روحي الخماش، ومحمد غازي".
يمثّل جلال المتقاعد حاليا شخصية رئيسية في فرقة "نوى"، التي تهدف إلى إعادة اكتشاف الأوركسترا والموسيقى العربية المسجلة التي نشأت في فلسطين خلال القرن العشرين. وتعزف فرقة نوى المحليّة الأرشيفات التي جمعها المشروع منذ سنة 2004 من جميع أنحاء العالم. علاوة على ذلك، يعاد إصدار التسجيلات القديمة، بينما تُطلق ألبومات جديدة مبنيّة على الموسيقى المنسية.
يسرد عمل فرقة "نوى" رواية أخرى حول فلسطين، والكيان العالمي الذي يعود إلى الفترة السابقة لسنة 1948. وقالت الفرقة: "لطالما كانت فلسطين موجودة على الخريطة، وكانت المغنية المصرية الشهيرة أم كلثوم تحيي حفلا موسيقيا أو اثنين في يافا، كلّما ذهبت إلى سوريا، وهي أكبر مدينة فلسطينية تحت الانتداب البريطاني، والعكس صحيح بالنسبة لجميع الموسيقيين القادمين من العراق وسوريا إلى مصر".
كان المطرب المصري محمد عبد الوهاب من أوائل مؤلّفي الأغاني من الشرق الأوسط الذين يجمعون بين الأساليب الموسيقية العربية والغربية. وقد زار عبد الوهاب القدس مرتين أو ثلاث مرات في السنة خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وكان له تسجيل في إذاعة الشرق الأدنى، وهي إحدى المحطات الإذاعية التي أسسها البريطانيون تحت الانتداب.
علاوة على ذلك، تطالب فرقة "نوى" بإعادة تقييم مفهوم الموسيقى في فلسطين. وفي هذا الصدد، قال لؤاب حمود، وهو عالم موسيقى وعازف عود وعضو رئيسي في فرقة "نوى": "يجب أن تحظى الموسيقى الفلسطينية بطابع خاص… فهي موسيقى تتحدث عن القضايا الفلسطينية والأرض والنكبة والأشخاص الذين يغادرون، بالإضافة إلى اللاجئين. وتشمل هذه الموسيقى المغني اللبناني مارسيل خليفة، أو الفرقة المغربية ناس الغيوان، وهي موسيقى صنعت في السبعينيات".
حيال هذا الشأن، قال حمود إن الكثير من الموسيقى التي جاءت من فلسطين هي جزء من المشهد الصوتي الإقليمي، ويمكن مقارنتها بأرقى أنواع الموسيقى في عصرها. وأضاف حمود أنه "لا يمكنك أن تُصنّف الموشح الذي أُلّف في حلب على أنه سوري، والموشح الذي أُلّف في القاهرة على أنه مصري".
بالنسبة لجلال، لا تمثّل إعادة إحياء ثروة فلسطين الموسيقية ضربا من الشوفينية. وأورد جلال بينما كان يشير إلى حقيقة أنهم فنانون محترفون يتموقعون جغرافيا عند مفترق الطرق في المنطقة، وأنهم انتشروا في جميع أنحاء المنطقة بعد تأسيس إسرائيل سنة 1948: "أنا لا أقول إن الموسيقيين الفلسطينيين كانوا أفضل من الآخرين. خذ مثال صبري الشريف، الذي كان يعمل في إذاعة الشرق الأدنى، الذي أصبح يعمل مع الملحنين الأسطوريين اللبنانيين عاصي ومنصور الرحباني. لقد كان الشريف مدير مشاريعهم وصانع الأفكار إلى حدود سبعينيات القرن الماضي".
كيفية إحياء الماضي على الإنترنت
بصرف النظر عن فرقة "نوى" ومركز الفنّ الشعبي وأمثاله من معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى، هناك أيضًا جهد متزايد من طرف الأفراد والمشاريع الأصغر حجماً من أجل تحميل الموسيقى الفلسطينية على الإنترنت وجعلها متاحة لجماهير جديدة.
جمعت "بالستيونز"، وهي قناة على تطبيق الساوند كلاود افتتحت سنة 2018، أكثر من 3829 أغنيّة إلى اليوم. ويوجد المزيد من الأغاني على اليوتيوب، حيث عمد بعض الأفراد إلى رقمنة الأشرطة القديمة ومشاركتها. وعلى الرغم من الجودة المتغيرة، وضرورة تصفية الأغاني، إلا أنك ستتمكّن من الإحساس بالانقسامات والاضطرابات التي عانى منها الموسيقيون الفلسطينيون منذ سنة 1948.
تعد اللقطات القديمة لفرقة تدعى "الشاطئ" خير مثال على ذلك. وفي سياق متصل، عرفت فترة التسعينيات ظهور عازف الجيتار ريموند حداد، الذي جذب انتباه الحاضرين في معرض موسيقى فلسطين في سنة 2018 بفضل مجموعته الإلكترونية المنفردة.
عند إشارته إلى العروض التي اُقيمت في قاعة سينما حيفا بسبب انعدام الأماكن المخصصة للحفلات، أفاد حداد بأنه: "في سنة 1988، أي خلال أول حفلة لنا كفرقة، كنا نتوقع حضور حوالي 60 أو 70 شخصًا إلا أننا فوجئنا بحضور حوالي ألف أو ألفي شخص. بعد ذلك، قمنا بجولة وأصدرنا ألبومين، وهو ما ساعدنا على بلوغ أوج مسيرتنا".
في الواقع، يُمثّل حداد جزءا من مستوى آخر يعكس ملامح التاريخ الثقافي الفلسطيني بما في ذلك موسيقى حيفا التي ألفتها فرقة 48 للتراث الفلسطيني والتي يقطن أفرادها في إسرائيل بعد أن استمدت الانتفاضة الفلسطينية الأولى الإلهام من الانتفاضة في الضفة الغربية وغزة وتأثرت بها.
لقد مرّ على هذا المشهد "الجديد" الآن ما يقارب 30 سنة حيث يقوم بالفعل بكتابة تاريخه الخاص بنفسه لاسيما مع شعور الموسيقيين بارتياح أكبر عند المزج بين النمط الموسيقى التقليدي والآخر الحديث على غرار الجمع بين الفولكلور والروك والإلكترونيكا. في هذا الصدد، يقول حداد: "عندما بدأت العمل في مجال الموسيقى، قمت بعزف مقاطع من أغاني الفنانة اللبنانية الأسطورة فيروز، وأخرى لفرقة الروك بينك فلويد. ولا يعتبر هذا الأمر مميّزا. وكما هو الحال بالنسبة لأي شخص في سن الرابعة عشرة، فأنت تقوم باختيار آلة موسيقية ما وتبدأ في عزف موسيقاك المفضّلة".
مثلها مثل الفرق الأخرى في جميع أنحاء العالم، قدّمت فرقة "الشاطئ" أغان حول الحياة اليومية للمراهقين بيد أنه في فلسطين غالبا ما كانت هذه المواضيع مغمورة بالقضايا السياسية والاحتلال. وبعد أن لُقّبت الفرقة باسم "رواد موسيقى الروك العربية"، انقسمت في سنة 1995 ليعاد جمع شمل أفرادها لفترة قصيرة في عرض واحد خلال سنة 2004.
أشار حداد إلى وجود خطط تهدف إلى توثيق تراث المجموعة قائلا: "نحن نحتفظ بالعديد من الوثائق والصور، وننوي تصوير فيلم وثائقي في المستقبل القريب". من جهة أخرى، تدور هذه الرغبة في الاحتفاظ بأرشيف الفرقة في حلقة مفرغة نظرا لأن أرشيف العقدين الماضيين لموسيقى الروك والهيب هوب والإلكترونيكا لجيل الألفية محفوظ بالفعل.
"براعم" الموسيقى المستقبلية
بالعودة إلى رام الله، أي في المقر الرئيسي لفرقة نوى، يبحث جلال داخل درج ليُخرج منه حقيبة ويستعرض بفخر شريطًا مسجّلا. ;يعلّق جلال قائلا: "إنه الألبوم الأول للبراعم. لقد استغرقتُ ست سنوات لأتمكن من الحصول عليه". توقّف جلال لبرهة ثمّ استأنف حديثه قائلا: "تمثّل هذه المجموعة أول فرقة روك في فلسطين. لقد بدأت مسيرتها في بيت لحم في منتصف سبعينيات القرن الماضي". وكما هو الحال بالنسبة للعديد من الفرق، وقع حل الفرقة لمدة طويلة بقطع النظر عن أن احتمال إعادة إصدار يلوح في الأفق. ويتواصل البحث عن التراث الموسيقي الفلسطيني في شريط تلو الآخر وفي أغنية تلو الأخرى حتى مع اكتساب الموسيقى نفسها اعترافًا عالميًا لطالما حُرمت منه.