افراسيانت - أمير العمري - قبل أكثر من عشر سنوات صحب المخرجَ ديفيز غوغناهيم النائبُ الأسبق للرئيس الأميركي بيل كلينتون، آل غور، لكي يسجل جولاته وآراءه خلال حملته التي كانت تهدف إلى لفت الانتباه لمخاطر ظاهرة الاحتباس الحراري. ونتج عن هذه الرحلة التي استغرقت وقتا طويلا وشملت بلدانا عدة، الفيلم التسجيلي الطويل “حقيقة مزعجة” (2006). وقد حصل الفيلم على جائزة الأوسكار لأحسن فيلم تسجيلي طويل. ونال آل غور بسبب جهوده في مجال مكافحة الاحتباس الحراري، جائزة نوبل للسلام مناصفة مع اللجنة المشكلة من مسؤولين يمثلون عددا من الحكومات المختلفة، الذين يسعون من ناحيتهم من أجل كبح جماح ظاهرة الانبعاث الحراري.
واليوم يأتي فيلم جديد بعنوان “الاستكمال المزعج: الإخلاص للقوة” (An Inconvenient Sequel: Truth to Power) من إخراج بوني كوهن وجون شينك، لكي يتطلع إلى الصورة وإلى ما وقع من تطورات خلال عشر سنوات، ويتوقف أمام أسئلة مثل: هل أصبح الناس في العالم أكثر وعيا بطبيعة المشكلة وأبعادها المختلفة، وهل يمكن أن تتوصل الشعوب إلى خطوات عملية للحدّ من هذه الظاهرة المدمرة؟ وما الذي قطعته حملة آل غور ممّن عرفهم العالم أكثر حشدا لهذه القضية؟ وهل تحققت بعض أحلامه؟
مرة أخرى يصبح آل غور الشخصية الرئيسية في الفيلم، ويصبح هو الذي يقودنا في رحلة طويلة ممتدة، متعددة الأبعاد، إلى بلدان مختلفة من العالم، للتعرف عن كثب، على المستجدات والتحديات التي مازالت قائمة، ومناقشة كيف يمكن مواجهتها والتغلب عليها. إننا نشاهد آل غور وهو يقوم بدور “الداعية” الذي لا يهدأ، لما يؤمن به عن صدق، ولكن الفيلم يبدأ مع ذلك، بالدعوة إلى سحب جائزة نوبل للسلام منه، وإلى إدانة ما يفعله والتقليل من شأنه بل واتهامه بالضحك على الرأي العام وتضليله.
حقيقة مزعجة
على لقطات لجبال الثلج في القطب الشمالي التي تذوب ببطء وتتساقط منها قطرات الماء، نسمع صوتا، من الواضح أنه لأحد رجال السياسة الجمهوريين، يقول إن فيلم “حقيقة مزعجة فاز حقا بالأوسكار، لكن معظم ما جاء في الفيلم هراء، فالقول إن مستوى مياه البحر قد يرتفع لعشرين قدما هو عبث”. ومع استمرار الكاميرا في الحركة البطيئة لتكشف مجالا شاسعا من جبال الثلج التي تذوب بفعل ارتفاع الحرارة نسمع صوتا آخر نسائيا يقول “هذا هو آل غور. إنه يختار دائما المبالغات الهابطة.. إنه لا يفشل فقط في ما يتعلق بقضية الاحتباس الحراري بل يفقد أيضا العلم”، ثم نستمع إلى صوت سياسي آخر من أنصار ترامب يقول “أنت لست بحاجة إلى مشاهدة أفلام جوزيف غوبلز لكي تعرف حقيقة ألمانيا النازية.. تماما كما لا تحتاج إلى مشاهدة فيلم آل غور لتعرف الحقيقة بشأن الاحتباس الحراري (…) هذه العاصفة الشتوية الباردة تتناقض مع نظريات آل غور الهستيرية بخصوص الاحتباس الحراري”. ويظهر صوت آخر يقول إن “دونالد ترامب قال إنه فاض به الكيل من آل غور وهو يطالب لجنة جائزة نوبل بسحب الجائزة منه!”.
تصبح الصورة أكثر شمولا، وفي لقطات عامة بديعة مصورة من الجو من طائرة مروحية تتحرك، نشاهد جبال الجليد وقد تحولت إلى مسطحات مائية ضخمة متحركة.. لقد ذاب الجليد وأصبح سيولا عاتية تتحرك ولا بد لها من السير إلى أن تصب في منطقة ما، وآل غور يشرح بالخرائط والصور كيف أن هذا السيل انتهى إلى فيضان مدمر في فلوريدا، ولكن من دون أن يتعلم المسؤولون الدرس. يظهر آل غور أمام لجنة تحقيق في الكونغرس ليجيب عن أسئلة تشكك في صحة دعاواه. ومنذ تلك اللحظة سيصبح آل غور مجددا هو المعلق الحقيقي الوحيد على ما نشاهده في الفيلم، من صور ولقطات ومشاهد مرعبة في عدد من بلدان العالم. في أبريل 2017 يذهب إلى غرينلاند الواقعة في المنطقة القطبية الشمالية، ومن خلال طائرة يتطلع إلى الانفجارات التي تشهدها كتل الثلج المنتشرة بفعل الحرارة. يشرح لنا أن الفيضانات التي شهدتها فلوريدا في ذلك الوقت كانت نتيجة ما وقع في غرينلاند التي تحولت أجزاء كبيرة منها إلى مناطق لا أثر للثلج فيها على العكس مما كان قبل ثلاثين عاما: “إننا نعيش أزمة ديمقراطية.. لماذا؟”.
مقاومة أصحاب المصالح
أصحاب المصالح وشركات المال والنفط الذين يتاجرون في أشكال الطاقة التقليدية، يعيقون مواجهة المشكلة، وها هو حاكم مدينة ميامي يرفض مقابلة آل غور الذي يذهب إلى مؤتمر في المدينة الغارقة، أعده خصيصا كنوع من الورشة التثقيفية بغرض تدريب وتأهيل الشباب لكي يصبحوا نشطاء يشكلون جماعة ضغط من أجل مواجهة الظاهرة. إنه يخوض بساقيه في المياه التي تملأ الشوارع، بصحبة بعض النشطاء، لينتقل إلى المؤتمر الذي يشرح فيه بالخرائط والبيانات خطورة الظاهرة وتأثيرها المدمر، وسينتقل فيما بعد كما نشاهد في الفيلم، إلى أماكن أخرى كثيرة في العالم حيث يأخذنا هذا الفيلم البديع لنستمع في كل مرة من خلال الصور والوثائق والأفلام التسجيلية، ونتعرف على أبعاد الظاهرة وتداعياتها. لقد أصبح آل غور الآن مختلفا عما كان في الفيلم السابق قبل عشر سنوات، فقد أصبح أكثر امتلاء، كما اصطبغ شعره باللون الرمادي ولكنه وهو الذي قارب السبعين من عمره، لم يفقد حيويته وسرعة بديهته وقدرته على توضيح أفكاره وتبسيط النواحي العلمية المعقدة التي يبدو أنه درسها جيدا، أمام العشرات من الشباب المهتمين بالقضية.
يشرح آل غور كيف أن الوسائل البديلة للطاقة (مثل الرياح وأشعة الشمس) تنتج من الطاقة أكثر كثيرا مما تنتجه المصادر التقليدية الضارة بالبيئة. مهمة آل غور، كما تبدو في الفيلم لم تعد فقط قاصرة على التعريف بالمخاطر وشرح أهمية البدائل، بل أصبحت أيضا تواجه حملات “الإنكار” والتشكيك التي تتعرض لها، والتي اتخذت حاليا صبغة سياسية، وهي المهمة الأساسية الأخرى الكامنة في نشاط الرجل، فهو يتواصل مع وزراء الخارجية، والرؤساء، والمسؤولين في البلدان الفقيرة، ويحاول تقريب وجهات النظر مع زعماء البلدان الغنية. ولكن أكبر مشكلة يواجهها هي ما يقابله من تشكيك في السياسة الأميركية نفسها خاصة في ضوء ما يكرره الرئيس الأميركي ترامب حاليا من أن الاحتباس الحراري هراء، و”أننا نحتاج إلى الحرارة.. إلى الدفء في الشتاء بسبب هبوط درجات الحرارة”.. وكلها أفكار يراد منها الإبقاء على الوسائل القديمة في الحصول على الطاقة، وتبرير إلغاء البرامج السابقة التي أقرها الرئيس أوباما، مثل مشروع إطلاق قمر اصطناعي مخصص لدراسة التغيرات المناخية، وصولا بالطبع إلى انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس كما سنرى.
كانت الهند تقاوم بشدة التخلي عن مشاريعها الخاصة بإنشاء محطات توليد الطاقة، وقد أعلنت -كما نرى في الفيلم- عن إنشاء 400 مصنع لإنتاج الطاقة من الفحم. وهو ما يعتبر كارثة كبرى. يذهب آل غور ويتناقش مع وزيري الطاقة والبيئة في الهند، ويسجل جميع لقاءاته مع المسؤولين بالكاميرا مباشرة على نحو يعيدنا إلى أسلوب “سينما الحقيقة”، فالهنود يرون أن الدولة الكبرى التي تسببت في إنتاج هذه الظاهرة السلبية هي الولايات المتحدة التي ظلت لعقود طويلة تستخدم الطاقة التقليدية من أجل تحقيق الرفاهية لشعبها، فكيف يأتي من يطالب اليوم الهند بالتخلي عن مشاريعها الرامية الى تحقيق مستوى معيشة جيد لشعوبها، أي أن أميركا التي حققت بالفعل تقدما كبيرا لسكانها واكتفت باستهلاك مصادر الطاقة التقليدية التي تسببت أكثر من غيرها في تلويث الكوكب ونشوء الظاهرة، هي تطالب الآخرين اليوم بالتخلي عن الفرص المشابهة (الرخيصة) واعتماد وسائل جديدة عالية التكلفة، فمن الذي سيدفع الثمن؟
يصور الفيلم بالتفاصيل اتصالات آل غور مع مديري الشركات التي يمكنها إقامة محطات للطاقة البديلة إلى أن ينجح في توفير هذه المصادر مع ضمان أن تحصل الهند على قروض ميسرة لتنفيذ هذه المشاريع، مع التخلي عن استخدام الفحم، وهو ما تفعله الهند بالفعل ثم تكلل جهود آل غور عندما توافق الهند في باريس على توقيع الاتفاقية العالمية للمناخ. ولعل هذا أهم ما حققه رجل السياسة والمدافع الرئيسي عن نقاء البيئة في العالم: آل غور.
مشهد مرعب
في مشهد مرعب نشاهد تأثير الأمطار التي لم تعد أمطارا عادية، على سكان الهند، فبفعل الارتفاع الحراري -كما يشرح آل غور- أصبحت الأمطار “قنابل مائية” تهبط فتغرق كل شيء. نشاهد الحافلات وهي تشق طريقها بصعوبة بالغة في الشوارع التي ارتفع فيها منسوب المياه فأغرق نصف الحافلات، ونرى سيدة مسنة تعبر الطريق فتسقط في حفرة ظهرت فجأة أمامها بعد انزلاق الأرض بفعل الأمطار. وفي فيتنام والصين تنتشر الحرائق بفعل الجفاف، بينما تعتمد الشيلي التي عرفت كوارث مشابهة أكبر برنامج للانتقال بنسبة مئة في المئة إلى استخدام مصادر الطاقة البديلة. ونشاهد لقطات مدهشة للأمطار وكيف أغرقت بالكامل البنية الأساسية للمبنى الجديد لمركز التجارة العالمي في نيويورك الذي كان وقتها تحت الإنشاء، ثم وفاة 10 أشخاص في باكستان بفعل الحرارة، وفي الفلبين مقتل آلاف الأشخاص بفعل الطوفان الناتج عن الأمطار الغزيرة عام 2013 وكان الكثيرون يتسلقون -كما نشاهد- المباني للوصول إلى أسطحها، للنجاة بأنفسهم من الغرق في مياه الفيضانات. وفي لقطات أخرى نشاهد العشرات من الجثث الطافية فوق سطح الماء.
ترتبط السياسة بالبيئة كما يؤكد آل غور في الفيلم الذي ينسب إليه أساسا.. فيرجع الجفاف الذي ضرب سوريا والذي يصفه بأسوأ موجة جفاف عرفتها البلاد منذ 900 سنة، وبين نزوح عشرات الآلاف من البشر من الريف إلى المدن، بعد أن أصبحت أراضيهم الزراعية عبارة عن صحراء قاحلة لا تنتج شيئا. وهم أنفسهم الذين وقعوا فيما بعد ضحايا الحرب الأهلية.
يقف آل غور أمام الشباب الذين جاؤوا لحضور محاضرته، يتحدث في أحد المشاهد في فلوريدا عن تأثير الارتفاع غير الطبيعي في درجة الحرارة في انتشار نوع من البعوض يتسبب في انتشار مرض “زيكا” الذي يصيب الإنسان ومن أعراضه الحمى والطفح الجلدي وآلام المفاصل، ويشرح كيف كان الأطباء ينصحون النساء الحوامل بعدم الذهاب إلى هذه المنطقة.. هنا يثور آل غور ويلقي بالميكروفون من يده معربا عن غضبه الشديد من هذا التقاعس المتعمد عن مواجهة الظاهرة.
ظاهرة كونية
لعل ما يجعل من الفيلم عملا يخاطب الإنسان في كل مكان، ليس فقط شموليته في عرض موضوعه، وجاذبية آل غور نفسه الذي يبدو دون شك، مخلصا لقضيته التي أنفق 25 عاما من حياته في الدفاع عنها، بل لنجاح الفيلم في التدليل من خلال الصور والوثائق المصورة على أن الظاهرة لا تقتصر على بلدان معينة بل إنها تسبب أضرارا هائلة للبشر في كل مكان على كوكب الأرض. إنها ظاهرة كونية يجب أن يتحد البشر لمواجهتها، فهي لا تهدد البيئة فقط بل تهدد -ربما- بزوال الإنسان من على وجه الأرض.
وكما يستمد الفيلم قوته من رسالته الإنسانية، تكمن قوته أيضا في قدرة مخرجيه على البناء من مئات اللقطات التي عثرا عليها خلال سنوات من التصوير والمتابعة والتدقيق. وهو لا يحصر القضية في إطار جماعات النشطاء اليسارية أو أحزاب الخضر التقليدية المدافعة عن البيئة، بل يجعل منها قضية إنسانية عامة يجب أن يهتم بها الإنسان في كل مكان.
ناقد سينمائي من مصر