عبد القادر حسين ياسين
خـمـسـة وثـلاثـون عاماً ، كأنها الأمس ، كأنها اليوم ، أو كأنها غـداً.
نقف أمام ذكرى مذبحة صبرا وشاتيلا ،
ونحن عاجزون عن تمييز الماضي من الحاضر ؛
كأن الماضي يتكرر ، أو كأن الحاضر يغيب...
نقـف والصمت يلفـنـا...لم يعد غير الصمت...
ويأتي الصمت على صورة الخوف الذي يفترس العيون...
والعيون تنظر ، ترى أو لا ترى :
سور المقبرة الجماعية ،البيوت المهدمة ، ذاكرة الدموع ،
وجه القاتل ، والعيون ترى لكنها تصمت.
وفي الذاكرة نحاول أن ننسى ونسكت...فـيخوننا الصمت...
كيف نسكت والدم ما زال يغطي وجوهـنا وأيدينا؟
نحاول أن نصرخ فـتخـوننا أصواتـنا.
يخوننا الصمت ، ويخوننا الكلام.
ماذا نقول وقد اكتمل الموت بنا واكتملنا به؟
في صبرا وشاتيلا جاء القاتل الفاشي كي يعلن انتصار الموت...
ثم انهزم القاتل لكن الموت لم ينهزم...
إنتشر الموت ، وغطى المدينة ، والبحر الكبير.
عندما سقطت بيروت في أيدي الغزاة لم تكن عاصمة لبنان وحده...
كانت عاصمة العرب، كل العرب.
وعندما سقـطت المدينة وابتلعها شيء يشبه الغدر والخيانة؛بدأ كل شيء يتهاوى ،
وجاءالقاتل الى المخيمين الفـلسـطينيين ،
كي يعلن بدمويته وجنونه وفحشه انتصار الجريمة.
واليوم ، ماذا نقول لأطفال صبرا وشاتيلا ونحن عاجزون عن النظر الى عيونهم؟
ماذا نقول لهم وهم يروون ذكريات ذلك الليل الطويل؟
هل نخبرهم أن الظلام الذي يلف العـيون يفـترسنا ،
أم نهرب من عـيونهم الى موت روحـنا؟
في هذا الزمن العربي الرديء صارت حياة الفلسطيني مجموعة من الذكريات...
تأتي الذكرى فوق الذكرى حتى يحار الفلسطيني بما يحتفل :
مذبحة جـنـيـن تمحو صبرا وشاتيلا ,
ومذبحة صبرا وشاتيلا تمحـو تل الزعتر،
ومذبحة تل الزعـتر تمحو الكرنتينا,
ومذبحة الكرنتينا تمحو... مذبحة تلو مذبحة...ه
هـل أصبح هـذا قـدر الـفـلسطـيني في دنيا العـرب؟
إن الجريمة التي إبتدأت بنموذج الذعر الفاشي الكتائبي جرى تعميمها ،
كأن السرطان الإسرائيلي دخل جسدنا ،
فـعـادت (أو أستـعـيـدت) أو أخترعت لغة القتل الجماعي ،
باعتبارها اللغة الوحيدة في الفكر والسياسة.
ولست هنا في صدد الإتهام ، فالقتلة يفتخرون بجرائمهم ،
لكني أحاول أن أسأل : لماذا جرى كل ذلك ويجري؟
هل لأننا تُـركنا وحـدنا في تلك المواجهة الطويلة مع اسرائيل؟
لعل الدرس الوحيد الذي تعلمنا إياه هذه المذبحة المستمرة ،
من صبرا وشاتيلا الى جنين هو أن اللغة العربية ،
رغم ثراء مفرداتها، صارت عاجزة عن التبرير والتفسير ،
لذلك تموت اللغة...
بيد أن ما حدث في بيروت في أيلول (سبتمبر) 1982 ، أي عـندما سقطت المدينة ،
أحدث تحولاً مخيفاً ما نزال الى الآن نعيش في دوامته.
فـفي صبرا وشاتيلا لم يـقـد الإسرائيلي القاتل الى ضحيته فقط ،
بل قاد القاتل الى موته.
أراد العـدو الصهيوني من المذبحة قـتـل الجميع...
فـفي الجنون الدموي البارد الذي أرتكبت فيه المذبحة ،
أرادت إسرائيل قـتـل فلسطين ولبنان.
أرادت تحويل فـلسطين الى جثة ولبنان الى مقبرة.
والذبن اندفعـوا وراء دبابات الجـنرال أرئيل شارون الى أزقة المخيم ،
كانوا ينفـذون قرار تهـديم لبنان ،
وتحويل شعبه الى قبائل وطوائف تتقاتل دون هـدف.
فـبعـد تلك المذبحة الرهيبة صار القـتـل مباحاً ، وتحول الجميع الى أشلاء ...
فعندما يستطيع مجتمع أن يبتلع ذلك الهول الذي حدث ،
ويكتفي بتبرئة ساحة الـقـتـلة ؛ فانه يكون قد حكم على نفـسه بالإعدام .
وهذا ما حدث فعلاً .
فـبعـد أن اكتشف العـدو الصهيوني عجزه عن احتلال لبنان ،
تحول الى سمسار مذابح ، ووجد فى البنى الطائـفـية المذعورة مخرجاً لأزمة احتلاله.
وهكذا أدخل الفاشيون الصغار ، وهم في ذروة عـربدتهم وخـيانتهم ،
لبنان واللبنانيين في دوامة الجنون التي لا مخرج منها .
فصار كل شيء ممكناً حتى وصلنا الى اللحظة ،
التي لم نعد نميز فيها بين الخطأ والصواب ، وبين الحقـيقة والوهم .
في صبرا وشاتيلا لم يـُذبح الفـلسطينيون وحـدهم ، بل ذبح كل العرب معهم ...
أعـلنت المرحلة عن إفلاسها ،
وأعلن لبنان عن عجزه عن الوجود بعد أن سيطر عليه الجنون العـنصري ،
وانقسم كل شيء...وتآكل لبنان من الداخل ،
وأصبح الحـال يغـني عن السـؤال....
نقف أمام الذكرى الـخـامـسـة والـثـلاثين للمذبحة ،
ونحن نخجل من العـيون ، نخاف من عيوننا ، من ذاكرتنا وأحزاننا...
فعلى الرغم من كل التضحيات التي قـدَّمها (ويقـدمها) شعـبنا الفلسطيني،
طوال 70 عاماً من النضال ، نـكـتـشـف - يوماً بعد بوم -
أن جرثومة الإحتلال ما تزال تـنخر الجسم العـربي وتأكله...
كأن شيئاً ما ينهار ولا طاقة لأحد على منعه...
ولا يملك المرء ، في ظل هذه الظروف ، إلا أن يتساءل :
كيف يمكن لنا أن نخـرج من هذه الدوَّامة؟
يشعر العربي كأنه غـريب في وطنه...
ولا أغالي إذا قلت أن كل واحد منا يشعـر بنفسه غريباً في قريته ومدينته ،
وحتى في بيته ومكان عمله.
لقد أصبحنا جميعاً غرباء...
كل مدينة غريبة عن الأخرى ،
كل قرية غريبة عن القرية المجاورة...
كلنا غـرباء؛ حتى صار الواحد منا غريبا عن نفسـه يعيش وسط غرباء ،
ونـنـسـى الغـريب الحقيقي الذي إغتصب الوطن ، واستباح الكرامة وقتل الأبرياء.
وسـط هذه الغربة الشـاملة يتحول العـدو الصهيوني الى "نموذج".
فالنموذج الصهيوني الذي يريد أن يمحو ألفي عام من التاريخ ،
كي يبرر إحتلاله لـفـلسطين ، يصبح اليوم نموذجاً لتعامل "ملوك الطوائف" مع التاريخ.
فـيصبح الماضي هو سيد الحاضر ،
ويجد الإنحطاط والإنحلال تبريرهما في بطون الكتب القديمة...
وتـغـنـى سعـيد عـقـل ، كما فعل شـارل مالك وفؤاد أفرام البستاني من قبل ،
بـ "الحـضارة العـبـرية" ، ويتحول الموت المجاني الى فولكلور ،
بعد أن تحول الفولكلور الى ثقافة سـائدة ،
تلغي الثقافة وتـقـتل الإنسـان ، وبخاصة الـفـلـسـطـيـني .
في الذكرى الـخـامـسـة والـثـلاثين للمذبحة التي لم تتوقـف بعـد،
نقـف أمام عيون الأطفال الفلسطينيين في مخيمات صبرا وشاتيلا ،
وجنين ، وبرج البراجنة ، والرشيدية ، والبرج الشمالي ،
ونهر البارد ، وعين الحلوة ونصمت ...
نرى العـيون الـفـلـسطـيـنـيـة التي يظللها الخوف ،
ويرسم علاماته حولها ، ولا نستطيع...
نرى فـلسـطين تـنـتـفـض ببسـالة منقطعة النظير ضد العدو الصهيوني الغاصب،
ونرى "اخوتنا في العـروبة والإسـلام" يكتفون بمشـاهدة ذلك كله ،
عـلى شاشات التلفـزيون وعـبر القنوات الفضائية ،
دون أن يحركوا سـاكناً أو يهـمسوا بـبـنـت شـفـة ، ولا نملك الجواب...
نرى المدن والقرى والمخيمات الفـلسطينية (أو ، على الأصح ، ما تبقى منها)
تتهدم فوق أجساد النساء والشيوخ والأطفال ، ولا نملك الدموع...
نرى القاتل بكامل إناقته وهو يبتسم أمام عدسات أجهزة التصوير ولا نتهـمـه...
نرى ثـيـاـبنا ولا نخجـل.
ماذا نقول لأطفالنا في مخيمي صبرا وشاتيلا؟
ماذا نقول لأطفالنا في مخيمات جنين والدهيشـة ،
وبلاطة والعرّوب والجلزون والمغازي والشاطئ وغيرها؟
ماذا نقول للأكواخ الفـلـسطينية المهدمة والأجسـاد المدفونة تحت الأنقاض؟
في تشرين الأول (أكتوبر) عام 1957 ذهـب الشاعـر الفـرنسي الكبير،
لويس أراغـون ، الى إسبانيا لـتـفـقـد المواقع التي شهدت الحرب الأهلية الإسبانية.
ومن المعـروف أن أراغـون قاتل بالسـلاح الى جانب الجمهوريين.
وعلى التلة المشرفة على غـورنيكـا Guernica ،
إلـتـفّ حوله الصحـفيون الفـرنسيون والإسبان،
وسأله أحدهم : "مسيو أراغـون ،
ماذا تود أن تـقـول في هذه المناسبة؟"
وأجاب شاعـر المقاومة الفـرنسية :
"لا نملك لغة ولا سـلاحاً...
لا نملك إلا ذاكرتنا التي تتهدم فيها الذكريات..."
ولا يسـعـنا إلا أن نردد ما قاله أراغـون ،
ونقول لأطفال شعبنا في فلسطين:
إذا كنا لا نملك في هـذا الزمن العـربي الرديء أن ندفع عنهم هذا الموت ،
فـنـحـن معهم في الموت...وحتى الموت.