افراسيانت - بشارة مرهج - يستطيع المواطن اليوم وخلافا لمعطيات الماضي ان يعاين من مسافة قريبة عبوة معدة للتفجير فينقل الصورة لقوى الامن مباشرة بواسطة هاتفه الحديث ، و يتيح لهذه القوى ان تتحرك بسرعة وفاعلية لمعالجة الامر . وكلما زاد عدد المواطنين الذين يعاونون قوى الامن كلما استطاعت هذه القوى ان تحقق نتائج افضل على الارض .
واذا كانت قوى الامن بحاجة الى المعلومات التي يقدمها الناس فأن هؤلاء بحاجه الى الاستقرار الذي توفره قوى الامن . ولكن كيف يمكن التوصل الى هذه الحالة التفاعلية المطلوبة بين الطرفين والتي تحقق مصلحة الجميع ؟احسب ان ذلك يكون بعملية مضنية مستمرة لبناء الثقة بين الطرفين . وهنا تقع المسؤولية، بالدرجة الاولى ، على قوى الامن نفسها التي ينبغي ان تقدم نفسها باسلوب جديد يؤكد حرصها على خدمة الشعب ، والاقلاع عن اي عمل يعاكس هذا التوجه. و كل ذلك يستوجب من القيادات العليا السياسية والامنية مراجعة الكثير من الممارسات السلبية المتبعة ، والاجراءات البيروقراطية المعتمدة ، وصولا الى محاصرة الفساد ، واقتلاع ثقافته ، وبناء منظومة ممارسات واجراءات عصرية قانونية تقرب بين الطرفين ، وتجعل من العلاقة الوثيقة بينهما علاقة مثمرة في كل الاتجاهات، خصوصا في مرحلة تتشعب فيها مهمات قوى الامن ،وتتعقد بمواجهة الجريمة المنظمة ، والنزعات الاقصائية والحلقات الارهابية .
ان التحدي الاكبر المطروح امام القيادات المخلصة ليس اكتساب تكنولوجيا المعلومات و الاتصالات فحسب، وانما ايضا كسب الشعب الى جانبها والقضية العادله التي تعمل من اجلها . وتحقيق ذلك يحتاج الى ثقافة ديمقراطية ، ورغبة عارمة في الاصلاح ، ونشر رايات العدالة بين المواطنين ، والتفاني في خدمتهم وفاقا" للقانون الذي يرعى حقوق الجميع . وفي ضؤ التطورات التي تعيشها المجتمعات العربية كلها لا بد من مواجهة الواقع والتصدى لافرازاته وآفاته وسلبياته بالعلم والتنظيم و التدريب، و بروح جديدة واسلوب جديد ، انطلاقا من الايمان بحق الشعب في الحياة الحرة الكريمة ، وبالاستناد الى سلطات تتقيد بالقانون قبل ان تفرضه على سواها ، وتلتزم بالنزاهة قبل ان تجيد التحدث بها . ان هذه الحالة التضامنية بين سلطات مسؤولة متجاوزة لثقافة الماضي ، وبين مواطنيين واثقين من مسؤوليهم، هي خشبة الخلاص لحماية المجتمع المعرض للانقسام وشتى انواع الغزوات - التي تأخذ شكل الارهاب الفكري او الفئوي ، وصولا الى الارهاب الدعائي وحتى المالي .
ان هذا النهج يمكن التأسيس عليه لاشراك نسبة مهمة من المواطنيين في المسؤولية الامنية التي تطرح نفسها في الشارع او البيت او المقهى على المواطن .و هذا المواطن لم يعد يملك - بعدما مسه الخطر المباشر - ان يتنصل من واجباته بحجة التعب ، او التعقيد الذي يكتنف معاملات الادلاء بالشهادة لدى الاجهزة المعنية . ( طلب النشرة مثلا والذي يستغرق عدة ساعات لانجازه ) . وثمة نظرية امنية اتمسك بها ، اثبتت صحتها في الماضي ، ومفادها انه من الصعب جدا ان تحدث جريمة داخل المجتمع ولا يعرف بها احد افراد الشعب . و هذا الامر من شأنه ان يوفر للتحقيق الرسمي سلاحا مهما في يده . واذا كانت السلطات قريبة من الشعب ، وتحترم حقوقه، وتدافع عن خياراته ، وتحفظ كرامته ، وتصون ممتلكاته فان الشعب لا بد ان يشعر بوحدة حال مع الدولة فيتجه اكثر فاكثر نحو تحمل المسؤولية و معاونة الاجهزة الامنية اعبائهافي مكافحة الجريمة و الكشف عن مرتكبيها .
واذا كانت العلاقة الايجابية بين المواطنيين والاجهزة الامنية قادرة على تحقيق انجازات ملموسة على صعيد الامن والاستقرار ، فان العلاقة التفاعلية المدروسة بين الجامعات ومراكز الابحاث من جهة ، والاجهزة الامنية من جهة اخرى ، قادرة هي الاخرى على الارتقاء بالعمل الامني الى ذرى جديدة نظرا لاتصال الجامعات ومراكز البحث بالتطورات العلمية والتقنية التي يمكن ان تتحول ، استنادا الى تطبيقات مدروسة ، الى اسلحة فعاله في استباق الجريمة او الكشف عنها وملاحقة اصحابها .
فكلما امتلكت قوى الامن من اجهزة الاتصال والنقل و تقنيات العمل الحديثة كلما امكنها ان تواكب ، واحيانا ان تسبق العقل الاجرامي الذي يعتمد على ثغرات التاريخ ، ومرارات الماضي ، والنزعات المذهبية لتأليب الناس وتحويلها الى بيئة مناسبة وحاضنة لعمله ، ينتقي منها ما يحتاجه من الاشخاص المدربين المهيئين نفسيا لارتكاب الجريمة . واذا كان من واجب الجامعات ومراكز البحث تقديم العون على الصعيد التقني وما يحتويه هذا الامر من برامج وتطبيقات ، و ما يتطلبه من تدريبات مستمرة ، فان هذه المؤسسات قادرة ايضا على القيام بدور ايجابي مماثل على صعيد الابحاث التاريخية والاجتماعية والنفسية التي تساهم في دحض الاطروحات المتطرفة ، ونشر الثقافة الديمقراطية السليمة ، ومخاطبة الوجدان الجمعي ، والتأثير ايجابا على الافراد ، وتفكيك حلقات الغلو والتطرف ، ومساعدة المجتمع على الكشف المبكر للعديد من الظواهر المريضة ومعالجتها واستيعابها قبل ان تتفجر بوجه الجميع . .
من نافل القول ان العالم الحديث وما يحتويه من تقنيات متطورة - وبخاصة في ميدان المعلومات - لم يعد يسمح بالتفرج والخمول ، فاما الانخراط في المسيرة المعاصرة والتفاعل معها عبر الدراسة والتدريب والتخصص والادارة الرشيدة ، واما بقاء البلد راسفا في اغلال التخلف والفساد . ان خروجنا من المستنقع الحالي يعتمد على الاصلاح المقترن بقرار سياسي ايجابي ، وارادة سياسية صلبه تفهم ما يجري على السطح و تحته ، و مصممة في الوقت نفسه على المواجهة و الحاق الهزيمة باعداء الشعب ، وكل ذلك نفتقده الان ، بنسبة ما ، على المستوى السياسي في حقبه نشهد فيها تجذرا وتوسعا لظاهرة الفساد كما لظاهرة الارهاب . ان ادخال تكنولوجيا المعلومات الى اداراتنا ومؤسساتنا امر حتمي و حيوي و لا بديل منه ، وهذ الاجراء لا يمكن تنفيذه على اساس القواعد السائدة في الادارة حيث المحاباه والمحسوبية تتقدمان على الكفاءه والجدارة ، وحيث الغموض والالتباس يتقدمان على الفاعلية والشفافية . هذا مع العلم بان العقلية السائدة في الدولة لا زالت ، حتى اليوم ، تقاوم عملية المكننة الشاملة خوفا من فقدان سلطتها على الادارة و المواطنين المضطرين لمراجعة "اولي الامر" كلما قصدوا مؤسسات الدولة لانجاز معاملة . لذلك لا بد من خرق هذا المستنقع بواسطة النخب والقيادات المسؤولة التي تعرف اهمية نشر الوعي واتخاذ القرارات الحاسمة المتعلقة بتحديث الدولة و اداراتها و ادواتها.
ان الشراكة فضيلة بحد ذاتها ، و لا تاتلف مع النزعات الفردية و الاتجاهات الانعزالية القوية في مجتمعاتنا ، و لذلك لا مناص من تعزيز روح الشراكة في الدولة و المجتمع وصولا الى التماسك و الفعالية على المستويات كافة. علما بان احدا يملك كل ما يتمنى ، ولان احدا يستطيع ان يحقق ما يريد بمفرده . ومن هنا الحاجة الماسة الى تكريس ثقافة العمل التعاوني في مجتمعنا المعرض لشتى الاخطار .
فالشراكة امر حتمي في العصر الحالي ، ومن آمن بها ، والتزم قيمها، وعمل على تعزيزها يستطيع برأيي ان يحقق نتائج ملموسة مفيدة للمجتمع ولكل مؤسساته . اما من يؤثر التفرد على العمل الجماعي في مقاربة الامور و جبه المخاطر فانه ، بكل بساطة ، يكرر اخطاء الماضي التي اوصلتنا الى ما نحن فيه اليوم .
واختم بالقول : ويل للامم والاوطان التي لا تستجيب قياداتها ونخبها لتحديات العصر بصراعاته ومعطياته وشروطه .