افراسيانت - عبد الله زغيب - السردية الأكثر واقعية في تحليل «المغامرة الحوثية»، تفترض أن عبد الملك الحوثي لم يكن يتوقع مساراً مشابهاً لما حصل ويحصل في الايام الأخيرة، عندما قرّر اقتحام مقر الفرقة الأولى مدرع التي يقودها جنرال الحرب علي محسن الأحمر وجامعة الإيمان الإصلاحية في 21 ايلول 2014. سردية أخرى أكثر «تقديراً» لقدرات القائد الشاب وجهازه الاستشاري وكذلك قربه من «المحنّك» علي عبدالله صالح، تفترض أمراً آخر يظهر طبيعة التبدل القياسي في قدرة اليمنيين على الانخراط في الحدث الإقليمي. وبرغم أن النتائج لا تعكس دوماً دقة القراءة والتقدير والتخطيط، وتحويلها الى خيارات ووقائع، خاصة إذا ما تداخلت الصراعات العسكرية بالأجندات السياسية وتنوّعت المصالح ما بين داخلية وإقليمية، إلا أن «انصار الله» أثبتت كجماعة سياسية قدرة على تقدير نسبي جيد لمسار الحدث اليمني ومستقبله، بمعزل عن ثقل الإسقاط الآتي من الإقليم بقوته الكاملة.
هذه السردية تقوم على مبدأ المعرفة المسبّقة بأن «التجمّع اليمني للإصلاح» وشيوخ حاشد والنخبة المحيطة بالرئيس عبد ربه منصور باتوا جميعاً خطاً أحمر موحداً بعد شرعنة المبادرة الخليجية، التي أنتجت في 3 نيسان 2011 خطة عمل لإجهاض الثورة الشبابية، لوجودهم السياسي والاجتماعي وحتى العسكري في الداخل اليمني، بمعزل عن ثقلهم في الواقع. وعلى هذا المبدأ، فإن القرار «بتحييدهم» من خلال الاعتقال والملاحقة ومصادرة الممتلكات وتفتيت البنى العسكرية والاجتماعية لـ «الإصلاح» تحديداً، ومن ثم الانتقال الى قتالهم عسكرياً في تعز ومحافظات الجنوب، كل ذلك كان خياراً «كامل الوعي»، وعليه بنى الحوثيون وحليفهم علي عبدالله صالح خطة لإدارة المعركة القائمة، إضافة لإدارة المقبل من وقائع وخيارات، خاصة تلك القريبة من «حافة الهاوية».
في 26 آذار الماضي، عندما استهدفت طائرات «عاصفة الحزم» قاعدة الديلمي الجوية في صنعاء ودمرت رادار جبل النبي شعيب وموقع دفاع جوي في بيت عذران غربي العاصمة، تفاجأ الحوثيون وكذا حلفاؤهم في الداخل والخارج. العملية بدأت قبل انتهاء التسخين الديبلوماسي الإقليمي والدولي المصاحب لمثل هذه الخيارات. وهنا مكمن المفاجأة. فخيار التدخّل السعودي البري قبل الجوي، كان مطروحاً وخاضعاً للدرس في الصحافة اليمنية وبطبيعة الحال قيادة صنعاء. لكن الاستعجال السعودي والتوقيت غير الناضج شكل أساساً لنتيجةٍ عكسية لم تتوقعها الرياض، بعد التخبّط الذي أصاب الحوثيين في الـ48 ساعة الاولى للغارات، ما أثر بشكل مباشر في طبيعة التعاطي الإعلامي والعسكري مع بدء الحرب، وهذا بحث آخر.
إدراك «أنصار الله» للمقبل من خياراتهم وخيارات الآخرين، كان واضحاً في خطاب عبدالملك الحوثي قبل شهر بالتحديد من انطلاق غارات عملية «عاصفة الحزم»، حيث هاجم الرجل الرياض للمرة الاولى بشكل حاد ومباشر، ومقدّماً حينها نظرية «البدائل» على مستوى العلاقات الخارجية لبلاده. ثم اتبعت جماعته الخطاب، في الـ12 من مارس تحديداً، بإجراء مناورات عسكرية بمعدات عسكرية ثقيلة على الحدود السعودية. وهذا يعني بالمعطى الاستراتيجي رسالة ذات بعدَيْن. الأولى ان الحوثي مقتنع بقرب وحتمية الغوص السعودي في رمال بلاده، وأن سيناريوهات ما بعد ثورة المشير عبد الله السلال على «الإمامة المتوكلية» منتصف القرن الماضي وما تلاها من حرب داخلية ـ إقليمية على ارض اليمن ولثماني سنوات، اصبحت قاب قوسين او أدنى. والبعد الثاني كان في إيصال مفهوم حوثي واضح للخيارات «التصعيدية». فاستثمار القضية الجنوبية و«القاعدة» والمعارضة وانصار هادي، كلها كانت من بديهيات الردّ الخليجي على أحداث أيلول وسيطرة الحوثيين على البلاد. لكن، في المقابل، أراد الحوثيون تذكير الرياض بأن خاصرتها تقع مباشرة على حدود المعاقل التي انطلقت منها لجان الحوثي الشعبية لقتال الآخرين، وبالتالي فإن مسار الحدث المقبل سيفضي في «نهاية مطافه» إلى اشتباك حدودي مباشر.
أدارت السعودية حربها على الجيش اليمني وحلفائه في سياق تقديري لطبيعة الأرض والخصوم. لا شيء فيه غير اعتيادي أو غير تقليدي. رتابة المدرسة العسكرية السعودية ذات الخلفية الأميركية، وربما إشراف قيادات من البحرية الاميركية في عملية اتخاذ القرارات التقنية المتعلقة بإدارة الحرب، كان لها أثر واضح في نسق المعارك وتدرّجها، حيث بدأت الرياض فوراً في تحييد القدرات الجوية للجيش اليمني وضرب خطوط إمداده ومخازنه الاستراتيجية، ثم انتقلت الى قصف معسكراته الجنوبية بشكل مكثف، بموازاة دعم خصومه على اختلافهم بالسلاح والذخيرة. وقد أنتجت هذه العمليات واقعاً قوامه وضوح في هوية الميليشيات التي تحارب «أنصار الله» وتوزيع الجبهات في ما بينها باتفاق أو اختلاف، انما بواقعية انتشارها على الأرض. في المقابل، تمكن الحوثيون والجيش من ابتلاع الأثر الاستراتيجي للضربات عبر اصدار حزم اوامر جديدة لقواتهم، قامت على مبدأ الانتشار الواسع واعتماد المجموعات الصغيرة في إدارة المعارك. وقد أنتج هذا الواقع، باستثناء «هزيمة» الحوثيين في الضالع، رتابة لم تخترقها غالبية المحاولات ولنحو تسعين يوماً.
الخيارات الراديكالية الخليجية في ادارة الحرب تمثلت في توغل كتائب مدرّعة من الإمارات ومعها آلاف من اليمنيين الجنوبيين المدربين في معسكرات السعودية في عملية ساهمت في النتيجة الحالية، التي ابتعد الجيش اليمني وحلفائه بموجبها عن معظم المدن والقرى الأساسية في المحافظات اليمنية الجنوبية. ومع هذا التدخل المباشر، بدا أن الحوثي اقترب من استثمار خيارات «حافة الهاوية» الخاصة به، مع فارق القوة والنار، وإنما مع قدرة وازنة بالمردود الإعلامي وربما السياسي في وقت لاحق، فقد وجد «تحالف صنعاء» نفسه أمام خيارات ثلاثة:
الخيار الأول ـ الاستمرار في إدارة الجبهات، والدفع بقواته الأساسية والاحتياطية المنتشرة في المحافظات الشمالية، «المتفوّقة عدداً وعتاداً»، نحو حرب طويلة الأمد تقوم على مبدأ القضم، للسيطرة على عدن قبل كل شيء، وسحب الورقة الثقيلة هذه من يد الرياض. وهذا الخيار يتطلب المغامرة بصرف المجهود الحربي شبه الكامل لصنعاء في مواجهة عدو متفوّق بالحرب الجوية، وبالتالي ترك الجبهة الداخلية شبه مفتوحة أمام توغل بري آخر محتمل إنما باتجاه معاقل الحوثيين انطلاقاً من صحراء حضرموت. وهذا احتمال تسوّق له الميليشيات التابعة «للتجمع اليمني للإصلاح» وأخرى قبلية متحالفة مع الرياض في منطقة مأرب.
الخيار الثاني ـ إطباق الحصار على عدن، ومنع التحالف العربي من استثمار مطارها ومينائها، وإظهار «حياة طبيعية» في الأراضي التي خرج منها الجيش و «انصار الله»، وبالتالي استثمار إضافي لنظرية «الاحتلال الشمالي» في مقابل «المقاومة الجنوبية». وهنا، فإن الحصار يتطلب استنزافاً يومياً لمدينة عدن بما فيها من مدنيين عبر القصف والتفجير وتشغيل «الخلايا التخريبية». وبرغم ان «انصار الله» لم يظهروا «وداً وسماحة» مع المواطنين في حرب عدن قبل خروجهم منها، إلا أن تراكم «الفواتير الأساسية» واقترانها بمعضلة الشمال والجنوب، ضغطت على صناع القرار في صنعاء، وبدت الكمائن العسكرية القريبة من المدينة ومداخلها خياراً أكثر عقلانية.
الخيار الثالث ـ يفترض الخيار هذا الإبقاء على قدر مقبول من «رصيد القوة» في حفلة استنزافها الدائرة من شمال البلاد الى جنوبها. وهنا، فإن الحوثيين ومعهم صالح يحاولون الإبقاء على ما تيسر ايضاً من خيارات طالما أن احتمالات تمدّد الحرب واستمرارها، مشرعة امام كل المهل والمدد الزمنية الممكنة، وفي موازاة عملية سياسية معقدة تتطلّب تدوير زوايا في الإقليم قبل الداخل، خاصة في لعبة الأوزان الكبرى بين إيران ومنافسيها في الخليج العربي وشرقي المتوسط. لذا، بدا أن أمام صنعاء فرصة لاستثمار خيار «جذري» إنما قابل للطي وإعادة التدوير اذا ما اقتضت الضرورة السياسية والعسكرية. وهنا فإن التوغّل داخل الأراضي السعودية واستهداف قواعدها الحدودية وقصف القريب من مدنها خاصة جيزان، بدا الخيار الأفضل في مقابل «نكسة عدن».
«حرب جيزان» والمقبل من تصعيد نحو أبها، كما هدّد الجيش اليمني، تعيد رسم صورة للمعركة الدائرة، مبنية من الخيوط المشكلة لبداياتها. فالتدخل السعودي، وبعيداً عن رواية كونه استجابة لطلب الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، يُعدّ محاولة لإعادة التوازن في منطقة الخليج، وتحديداً الى واقع ما قبل «الربيع العربي»، كونه يعتبر تاريخاً فاصلاً في قراءة وتحليل الحدث في المنطقة منذ سنوات، وكذلك الروزنامة الطارئة الأخرى التي خلقها الاتفاق النووي بين ايران والغرب. وعلى هذا المنوال، فإن «الردع السعودي» والامن القومي الخاص بالمملكة، كان المحرك الاول لعضلتها العسكرية في اليمن. هكذا يحاول الحوثي وربما حلفاؤه، إعادة الخلاف إلى أصله، متجاوزين «التفصيلات المحلية» برغم ثقلها وتأصلها على المستوى المجتمعي والوطني، حيث إن إدخال الارض السعودية في معركة مهما صغرت او كبرت مع الأرض اليمنية، يفرض إعادة دراسة للأزمة باعتبارها أزمة أمن قومي وإقليمي. وربما يرى الحوثي نافذة من هذا التصعيد، نحو عملية طيّ لطرفي القراءة، وتقريب الصورة أكثر ما بين مسببات الصراع ومخرجاته.