افراسيانت - زهير أندراوس* - لا نتجنّى على الحقيقة ولا نُجافيها إذا قلنا وفصلنا أيضًا بأنّ تنظيم الدولة الإسلاميّة (داعش) يتصدّر الأجندة السياسيّة والإعلاميّة في العالم قاطبةً.
ولكي نكون على درجة من العلميّة العمليّة نُضيف بأنّ هذا التنظيم البربريّ، تمكّن عن طريق استخدام التقنيات الحديثة والمُتطورّة في عالم الاتصالات من فرض نفسه على المُشاهدين، المُستمعين والقرّاء في شتّى أرجاء المعمورة.
وللأسف الشديد، عوضًا عن تجاهله، ورفض عرض أشرطة الفيديو المُقززة التي يدأب على نشرها تباعًا، نقوم، نحن المُتلقين، من حيث ندري أوْ لا ندري، بالمُساهمة الفعالّة في زيادة نشر هذه القاذورات، ومحاولة سبر غورها.
وقبل الخوض في قضية (داعش) السياسيّة علينا أنْ نُوجّه سؤالاً ليس بريئًا بالمرّة: الولايات المُتحدّة الأمريكيّة، رأس حربة الإمبرياليّة العالميّة، هي التي تتحكّم في مواقع التواصل الاجتماعيّ (تويتر وفيس بوك)، وهي أيضًا المالكة لموقع (يوتيوب)، علاوة على مُحرّك البحث الأشهر في العالم (غوغل)، وبما أنّها تتحكّم في النشر، فبإمكانها منع هذا التنظيم الوحشيّ من استخدام الأدوات التكنولوجيّة التي يُنتجها الـ"كُفّار" لترويج الأعمال الشيطانيّة التي يقوم بها عناصره في سوريّة، العراق وليبيا، وبالتالي لماذا لا يتخذ النظام الحاكم في البيت الأسود التدابير والاحتياطات لشطب هذه المواد من الشبكة العنكبوتيّة؟
صحيح، أنّ أمريكا معنيّة، لا بلْ معنية جدًا بأنْ تنتشر هذه المواد لتشويه صورة العربيّ والُمسلم على حدٍ سواء، وكأنّ صورتنا في العالم، ما شاء الله، ناصعة البياض كثلج كوانين.
نعرف بأنّ هذا التنظيم هو صناعة أمريكيّة، وندري أنّه يقوم بحروب بالوكالة و"ثورات" بالإنابة عن المستعمرين وعن الصهاينة، ولكن نُفكّر وبصوتٍ عالٍ: حتى متى سنبقى مطيّة لألذ الأعداء؟
حتى متى سنظّل ننتهج سياسة التبعيّة المُطلقة للأشرار في هذا العالم، الذين يكّنون العداء والكراهية لكلّ ناطقٍ بالضاد، ولكلّ مَنْ يقول لا إله إلّا الله محمد رسول الله؟
بكلمات أوجز: حتى متى أو إلى متى سنبقى أسرى التلّقي؟ وهل من بصيص أمل في أنْ ننتقل من مرحلة التلقّي إلى مرحلة المُبادرة؟
الصورة سوداوية جدًا، الوطن العربيّ يمُرّ في أحلك الظروف، وبدلاً من دراسة الوضع وما آل إليه، يُواصل النوم في سرير العلاج المُكثّف، ينتظر الفرج القادم من السماء، متناسيًا عن سبق الإصرار والترصّد مقولة الشهيد البطل، أنطوان سعادة، بأنّ اقتتالنا على السماء أفقدنا الأرض.
***
يقولون إنّ الفرق بين العرب والغرب نقطة: فهم شعب مختار، ونحن شعب محتار، هم تحالفوا والعرب تخالفوا، هم وصلوا إلى درجة الحصانة، ونحن ما زلنا في طور الحضانة، ومع كلّ ذلك: علينا أنْ نكون على درجةٍ عالية من النزاهة والشفافية والاستقامة الفكريّة، وأنْ نطرح القضية المركزيّة بدون رتوشٍ: داعش هو صناعة أمريكيّة، كما فعلت الولايات المُتحدّة عندما أقامت القاعدة لتحري أفغانستان من الشيوعيين الـ"كفرة"، ولكن لماذا هذه الصناعة لم تُطبّق على شعوبٍ وأممٍ أخرى سوى العرب؟ أين الخلل؟ هل الانتماء الدينيّ هو السبب المفصليّ، الذي فتح الباب على مصراعيه لاستباحة أمّة الناطقين بالضاد؟ هل عدم فصل الدين عن الدولة، كما يتوخّى كل مًنْ يرغب باللحاق بركب الحضارة، هو السبب الثانويّ لهذه الهجمة الاستعماريّة الشرسة علينا بهدف تمزيقنا وتفتيتنا؟
قبل الإجابة على السؤال المطروح، نرى لزامًا على أنفسنا إجراء مقاربة أوْ مقارنة، أوْ الاثنتين معًا، بين الأمّة العربيّة وبين شعوب أمريكا اللاتينيّة، في محاولةٍ متواضعةٍ لوضع الأصبع على الجرح النازف في وطننا العربيّ؟
لا يُخفى على أحدٍ، ولا يجب أنْ يُخفى على كائنٍ مَنْ كان، بأنّ شعوب أمريكا اللاتينيّة، ذاقت الويلات وعانت الأمرّين من أنظمة الحكم الفاشيّة والاستبداديّة، التي كانت مدعومة قولاُ وفعلاً، ماديًا ومعنويًا من بلد الشياطين الجدد أمريكا، التي عملت بدون كللٍ أوْ مللٍ على تكريس هذه الحالة، لأنّها تصّب في مصالحها الإستراتجيّة والتكتيكيّة معًا، ذلك أنّ هذه الدول تقع في الساحة الخلفية لواشنطن.
لا نعتقد بأنّ أنظمة الحكم في تلك البلاد كانت أقّل استبدادًا وظلمًا بحقّ المواطنين من أنظمة الاستبداد في ما تُسّمى بالدول العربيّة، ومع ذلك، أوْ قُل على الرغم من ذلك، تحقق المُستحيل، فقد ثارت ثائرة هذه الشعوب على الظلم والطغيان ونهب الثروات، وحاول الحكّام الاستعانة بأمريكا، وحاولت الأخيرة الاستعانة بعملائها ووكلائها في أمريكا اللاتينيّة لوقف هذا الطوفان الثوريّ، إلّا أنّ إرادة الشعوب لا تُدخِل إلى مُعجمها كلمة مُستحيل، وبالتالي واصلت تقديم الشهداء، الجرحى والأسرى من أجل التحرر ونيل الاستقلال الحقيقيّ، داخليًا وخارجيًا، وما هي إلّا سنوات، حتى انتصرت الإرادة الشعبيّة على الطاغوت الأمريكيّ وكنسته من بلادها إلى غير رجعةٍ.
***
وبما أنّ هذه الدول انتصرت على الباطل، فكان من الطبيعيّ أنْ تنتصر للضعفاء وللمُستضعفين على وجه هذه البسيطة، والأمثلة على ذلك كثيرة: أتذكرون البطل هوغو تشافيز، الذي أصبح عربيًا أكثر من العرب، وقطع علاقاته مع دولة الاحتلال بسبب ممارساتها ضدّ الشعب العربيّ الفلسطينيّ؟
أتذكرون كيف أمهل سفارة تل أبيب في كاركاس 72 ساعة لمغادرة بلاده بعد أنْ أعلن عن قطع علاقاته مع إسرائيل؟ أتذكرون أنّه قام بهذه الخطوات، في الوقت الذي كان فيه السواد الأعظم من الحكّام العرب يقومون بدور الخيانة والتخاذل والتواطؤ مع الـ"عدو الصهيونيّ".
دولٌ في أمريكا اللاتينيّة تقطع علاقاتها الدبلوماسيّة مع إسرائيل، وفي الوقت عينه، حكّام العرب يستجدون هذه الدولة المارقة ويدّقون على أبوابها سرًا وعلانيةً للإجهاز على ما تبقّى من فلسطين؟
ويحجّون إلى البيت الأبيض استرضاءً للرئيس المُتواجد هناك، ذلك أنّ العروش المهزوزة، والمأزومة والمهزومة، لا تقدر على مواصلة مسيرة التخلّف وتكريس الأميّة ومُعاداة الحضارة، بدون ماما أمريكا وحمايتها.
وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال الأهّم باعتقادنا المتواضع: لماذا لم تتمكّن رأس الأفعى، أمريكا، من تأسيس وتشكيل تنظيمات وحشيّة وبربرية على شاكلة داعش؟ لماذا فشلت في إقامة داعش كولومبيّ؟ هل لأنّ رجال الدين في أمريكا اللاتينيّة كانوا إلى جانب الثوار؟
أوْ لنسأل بصورةٍ أكثر صريحة: هل لأنّ هذه الشعوب المسيحيّة-الكاثوليكيّة، على الرغم من أنّها متدينةً جدًا، قررت أنّ احترام الدين وتعاليمه لا يتناقض بالمرّة مع تطلعاتها إلى الحريّة والاستقلال؟ خلافًا لما يجري في الوطن العربيّ، حيث يتحالف المُفكّر مع المُكفّر لإخافة الشعوب؟ وأكثر من ذلك، لقد صدق مَنْ قال إنّ هناك بونًا شاسعًا بين أمّة مشغولة بتفسير الأحلام وبين أمّة تعمل على تحقيقها. الفتاوى تصدر من كلّ حدبٍ وصوبٍ، ونحن، نخاف الله جدًا، نسير بحسبها ووفقها، على الرغم من أنّ سوادها الأعظم يصدر من "رجال دين" لا نعرف أصلهم من فصلهم. نحن، يجب التأكيد، ليس ضدّ التدّين، ولكن بالمُقابل نرفض رفضًا قاطعًا أنْ يكون الدين هو المرجعيّة الوحيدة لنا.
مُضافًا إلى ذلك، في زمن العولمة، باتت فضائيات الدين والتدّين تنتشر في عالمنا العربيّ كالنار في الهشيم، هذا يُحرّض، ذاك يُكفّر والثالث يُفسّر بطريقةٍ مشوهةٍ لإقناع المُشاهدين؟ لماذا هذا الكم الهائل من هذه الفضائيات المُعادية لكلّ ما هو قوميّ عربيّ؟ هل هذا التنوير الذي نطمح إليه؟ هل بهذه الطريقة نتحرر من الدواعش على أشكالهم؟ ولكن، لماذا نعود باللائمة على هذه الفضائيات في الوقت الذي تقوم فيه دولاً عربيّة بدعم هذه التنظيمات التكفيريّة بالأسلحة والعتاد وبالأموال المنهوبة من الشعوب؟
***
لا يُمكن إعادة كتابة التاريخ، وبالتالي علينا أن نلجأ إلى القائد والمُعلّم والمُلهم، جمال عبد الناصر، الذي قال عن جماعة (الإخوان المُسلمين): إننّي حاولت التعامل مع الإخوان المسلمين، ولكن بكلّ أسفٍ وجدت فكرهم يتلخّص في الوصول إلى السلطة بأيّ ثمنٍ، ولا يوجد أيّ مستقبل لديهم في رفعة وإعلاء الوطن، وعندما انتقدتهم حاولوا اغتيالي، ولا يوجد عليه أمان على الإطلاق. انتهى الاقتباس.
وما أشبه اليوم بالبارحة: الحركات الأصوليّة المُتشدّدّة في الوطن العربيّ انتقلت إلى مرحلة أسوأ من مرحلة الستينيات من القرن الماضي، لقد باتت تذبح الأبرياء، تحرق الأحياء، تقوم بعمليات وحشيّةٍ يعجز الإنسان العاديّ عن فهمها، لا تفهمها، تنشرها ليرى العالم كم نحن إرهابيين وقتلة وسفّاحين، فيما تُواصل أمريكا وإسرائيل الضحك علينا، والإيهام لنا بأننّا فعلاً نمُرّ في الربيع العربيّ، والمأساة الكبرى، أنّه باسم الدين نقوم بتشويهه، وتشويه صورة العرب والمسلمين في العالم.... وما زالت الـ"ثورة السلميّة" في سوريّة العروبة مستمرّة، وما زال حزب الله الـ"شيعيّ" يتحدّى بعنفوانٍ وكبرياءٍ غطرسة إسرائيل وأمريكا وتوابعهما من العرب.
***
خلاصة القول: هيمنة الخطاب الدينيّ المُتشدّد والأصوليّ على الأجندة العربيّة، أعادنا سنوات إلى الوراء، وجاء على حساب تقهقر الخطاب القوميّ العربيّ الوحدويّ، وبدون فصل الدين عن الدولة والسياسة، لا أمل لهذه الأمّة من النهوض.
*ملاحظة: الكاتب العربيّ زهير أندراوس نشر المقال في صحيفة "الأخبار" اللبنانيّة